بيبين براندون، جونو جونز، نانسي جو، وآخرون
سعيد الجريري*
ليس من المبالغة القول إنَّ أمستردام القديمة قد بنيت إلى حد كبير على دماء وعرق ودموع العبيد في أماكن أخرى من العالم. جاء الرخاء بثمن دفعه مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأفارقة والآسيويين الذين تم تداولهم وشحنهم وتشغيلهم في المزارع كسلع. ويأتي هذا الكتاب في سياق المراجعة النقدية للتاريخ، وهو نتيجة مهمة بحثية منحها مجلس مدينة أمستردام للمعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي (IISH) في خريف عام 2019، ويقدِّم رؤى جديدة حول حجم ونطاق ماضي العبودية في أمستردام.
ويوفر البحث أساسًا لاتخاذ القرار في مجلس مدينة أمستردام حول الأعذار المحتملة لدور أسلافه في تجارة الرقيق والرق حول العالم. ويُظهر الكتاب أن مشاركة أمستردام كانت عالمية تماماً مثل شبكة التجارة التي اشتهرت بها المدينة، وأن المشاركة الإدارية كانت متعددة الطبقات. وقد تراوحت هذه بين المسؤولية الإدارية المباشرة في الماضي وتشكيل الذاكرة وتهميشها في الوقت الحاضر من خلال خلق صورة ذاتية تجاهلت حتى وقت قريب العبودية.
كما يُظهر أيضًا أنه في أوائل العصر الحديث، وإضافة إلى الأدلة الذاتية المعاصرة، كان هناك أيضًا نقد معاصر أو على الأقل عدم ارتياح تجاه العبودية. فضلاً عن كشفه أن تجاهل ماضي العبودية كخطأ أو حادث مأساوي أثار أخيراً مناقشة واسعة تحت ضغط من احتجاجات Black Lives Matter في أواخر ربيع عام 2020.
ويتكون الكتاب من سبعة أقسام وثمانية وثلاثين فصلاً، شارك فيه فريق من أربعين باحثاً من هولندا وخارجها. ونوقشت فيه محاور: أمستردام كمركز للسلطة، ودور المصالح الخاصة، والعواقب على المجتمعات في جميع أنحاء العالم، والقهر، والقانون والمقاومة، ومناقشة العبودية من القرن السابع عشر وبشكل مكثف من نهاية القرن الثامن عشر وأخيراً النهج العام للعبودية في أمستردام اليوم. ولا يقتصر هذا البحث على تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي فحسب، بل يدرس أيضًا تجارة الرقيق في الشرق ويفحص أوجه التشابه والاختلاف.
ويستخلص القسم التمهيدي الاستنتاجات التي تعتبر الثلاثة الأولى منها الأكثر أهمية تاريخيا: الأول: لعب مديرو مدينة أمستردام دوراً فعالاً في تجارة العبيد والرق في الشرق والغرب. والثاني: كان تورط أمستردام في العبودية عالمياً تماماً مثل الشبكات التجارية التي جعلت المدينة مشهورة عالمياً. والثالث: كان تورط أمستردام الإداري في العبودية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً وعقلياً بطبيعته. فضلاً عن أن الاستنتاج الرئيس للكتاب هو أن إدارة أمستردام كانت متورطة بشكل مباشر وعالمي وواسع النطاق ومتعددة الاستخدامات وطويلة الأجل في تجارة الرقيق والرق.
وبحسب رئيس فريق الباحثين بيبين براندون -الباحث الأول بالمعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي، والذي ينصب جهوده العلمية على تاريخ الرأسمالية، والحرب والتنمية الاقتصادية، والعبودية: لم يتم إجراء مثل هذا الاستكشاف الميداني الواسع من قبل. يدور البحث حول أسئلة حول كيفية مشاركة مجلس مدينة أمستردام في تجارة الرقيق والرق في منطقة المحيط الأطلسي وآسيا، وكيف ترجم هذا الدور إلى تأثير ذلك الماضي في مدينة اليوم. وتُظهر مساهمات الباحثين مجتمعة مدى اتساع المشاركة الإدارية لأمستردام في العبودية، شرقاً وغرباً، وما تركه ذلك من آثار عميقة في المدينة.
وهناك أضواء كثيرة في فصول الكتاب على أدوار شركة الهند الشرقية الهولندية VOC وشركة الهند الغربية WIC، في العبودية وتجارة العبيد في آسيا وأفريقيا، إلى جانب أضواء أخرى على سورينام والبرازيل وأمريكا الشمالية وكوراساو. إذ كانت أمستردام متشابكة مع تجارة الرقيق في جميع أنحاء العالم. وهناك رسم في نهاية الكتاب لخطوط الحاضر، وهي تتعلق بالوعي المتزايد بالماضي، والاعتراف بهذا الدور في العبودية، والعنصرية أيضاً.
تُظهر الفصول كيف استفادت مدينة أمستردام ونخبها السياسية من العبودية لعدة قرون، من تجارة الرقيق والسخرة اقتصادياً. ولعل لهذا الجهد العلمي بعد 400 عام منذ تأسيس أول مستعمرة هولندية قائمة على العبودية الكثير من الأسباب للتفكير في هذا التورط في ماضي العبودية، والذي قلل مجلس المدينة من شأنه حتى وقت قريب، بما يقدمه نظرة ثاقبة جديدة حول حجم ذلك الماضي ونطاقه؛ لتعزيز "المصالحة مع المستقبل وإعادة تحديد هوية المدينة متخففة دون ثقل الماضي، بحسب ما ورد في قرار مبادرة بلدية أمستردام في سياق تبنيها الاعتذار الرسمي عن دور الأسلاف في العبودية.
ولعل أبرز النقاط التي يشتملها هذا الكتاب تتلخص في الآتي:
- من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، كانت مدينة أمستردام متورطة في تجارة الرقيق والرق. امتدت تلك المشاركة إلى العالم كله عملياً.
- كان مجلس مدينة أمستردام مسؤولاً عن العبودية التجارية. مباشرة، لأن رؤساء بلديات أمستردام شاركوا في إدارة مستعمرة سورينام، التي كانت مملوكة إلى حد كبير للمدينة. بشكل غير مباشر، لأن رؤساء بلديات أمستردام شغلوا مناصب إدارية في شركة الهند الشرقية الهولندية (VOC) وشركة الهند الغربية (WIC).
- العديد من رؤساء البلديات وأعضاء المجالس في أمستردام (كان مجلس المدينة هو حكومة المدينة في وقت الجمهورية) استثمروا في سفن الرقيق وعمل العبيد، على سبيل المثال في المزارع. وغالبًا ما كانت المصالح التجارية والمسؤولية الإدارية تسير جنبًا إلى جنب.
- روج الحكام لمصالح مالكي العبيد وموقف أمستردام في تجارة السلع المنتجة في العبودية. ونقل التجار الأوروبيون أكثر من 12.5 مليون من الأفارقة المستعبدين إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، وربما نقل تجار الرقيق الهولنديون أكثر من 600000. وقدرت حصة أمستردام في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي بحوالي 135000 مستعبد، منهم ما يقرب من 20000 لم ينجوا في أثناء العبور.
- عارض وجهاء أمستردام السياسيون والاقتصاديون في القرن التاسع عشر إلغاء الرق.
- ساعدت حكومة المدينة في تهميش ذكرى العبودية من خلال نشر صورة ذاتية تاريخية تجاهلت العبودية حتى وقت قريب جدًّا.
ومن الأمثلة التي يُمكن الإشارة إليها في سياق ماضي العبودية:
- إرسال شركة (Compagnie van Verre)، التي أسسها تسعة تجار من أمستردام، أسطولًا بقيادة كورنيليس دي هوتمان إلى آسيا. وقدم الواعظ والجغرافي في أمستردام بيتروس بلانسيوس خرائط الرحلة.
- في 1707 اندلع تمرد في مزرعة جوناس ويتسن، سكرتير مدينة أمستردام، وابن شقيق الوصي الشهير نيكولايس ويتسن، الذي كان عمدة المدينة ثلاث عشرة مرة وشارك في VOC وWIC وجمعية سورينام التي تحكم الأرض والمزارع. وكان سبب التمرد أن جوناس ويتسن ألغى يوم السبت الحر وزاد ساعات عمل المستعبدين. تم قمع التمرد بالقوة وحكم على القادة بالإعدام. ثم كان لا بد من تعليق الرؤوس على العصي، باسم الولايات العامة وجمعية سورينام التي كانت بلدية أمستردام شريكة في ملكيتها.
- في مجلس VOC كان لمديري أمستردام الصوت الأكثر أهمية؛ إذ تم في عام 1615 العمل بنصيحة تجار من أمستردام بـ"تدمير" جاكرتا والإبادة الجماعية في جزر باندا؛ حيث قتل أو طرد ما بين 10000 و15000 نسمة. وتم بعد هذه المذبحة تكييف الاقتصاد في باندا مع العبودية. جعلت جوزة الطيب من أمستردام مركزاً أوروبياً في تجارة التوابل.
- في وقت إنشاء شركة الهند الغربية الأولى (1621-1674)، كان قسم أمستردام هو الذي طور البنية التحتية لتجارة الرقيق. وتم إرسال المفاوضين إلى إفريقيا لطلب الإذن من الأمراء المحليين لبناء حصون على طول ساحل بنين والسنغال وغانا. على سبيل المثال، قامت غرفة أمستردام بتزويد الأصفاد التي يمكن من خلالها تأمين الأشخاص المستعبدين المتمردين.
- من بين 374 عمدة وعضو مجلس محلي في أمستردام حكموا المدينة من أواخر القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، كان نصفهم تقريبًا مديرين لـVOC أو WIC أو جمعية سورينام، وقد لعب الثلاث دوراً مهماً ومباشراً في تجارة الرقيق.
- كان لرؤساء بلديات أمستردام مصالح شخصية في العبودية واستخدموا مناصبهم لحماية وتبرير تجارة الرقيق.
وقد امتدت تجارة الرقيق إلى الأطفال أيضاً. وتُظهر العقود المبرمة من قبل التجار في أمستردام، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أنهم أمروا القباطنة ببيع 320 عبدًا شابًا مقابل ما لا يقل عن ثمانين إلى مائة ألف خيلدر، وتلقى القادة عائدات كبيرة. وفي عام 1753، أسس رئيس بلدية أمستردام صندوق استثمار للمزارع في المستعمرات. وساهم المستثمرون بالمال لإنشاء أو توسيع المزارع. وكان تدفق الأموال من خلال مدير الصندوق الذي وعد مستثمريه بعائد مرتفع. كان تأسيس مزرعة أمراً مكلفاً، بسبب تكلفة العبيد الذين يمثلون عادةً ثلث قيمة المزرعة.
لعل ذلك السجل السيئ يبدو الآن على نحو مفارق لمدينة تفتخر بتاريخ طويل من الحرية والتسامح، ولعله من المناسب أيضاً أن تلقي أمستردام نظرة نقدية إلى نفسها في المرآة. مع أنه يمكن للبشر الأحياء أن يختبئوا وراء جهل أسلافهم - الذين كانت العبودية بالنسبة لهم جزءًا من النظام الطبيعي للأشياء. فلطالما كانت العبودية مثيرة للجدل؛ لذلك كان من الضروري دائماً تبريرها بحجج عرضية، إما من الكتاب المقدس أو من النظريات العرقية التي ظهرت خلال عصر التنوير، إذ لم تكن العبودية مرتبطة بالنخبة فحسب، بل كانت مرتبطة أيضًا بالرجل العادي والمرأة. غير أن من اللافت أن أمستردام قد أخذت زمام المبادرة في هذا السياق، ومن ذلك إعادة النظر في Zwarte Piet، حتى عندما كانت بقية البلاد لا تزال تهز رؤوسها. فهي أيضًا المحرك الرئيس والممول للاحتفال الوطني لإلغاء العبودية. ولعله في هذا الصدد، ينبغي ألا يكون مفاجئًا أن تكون أمستردام هي الأولى في البلاد التي تبادر بتمويل مسح ميداني للبحث في ماضي عبوديتها، ثم تعتذر عن خيارات المديرين الذين حكموا منذ مئات السنين، إلى جانب اتخاذ مجلس المدينة خطوات أخرى خاصة في مجال الرموز الاستعمارية، فمتحف العبودية في طور التكوين، وهناك قائمة بأسماء الشوارع لمقاتلي الحرية في المستعمرات السابقة، والاعتذار فتلك كلها رموز مهمة، تشهد على تغيير وجهة النظر تجاه الماضي بطرق مختلفة.
كتاب "العبودية في الشرق والغرب" شامل ولكنه سهل القراءة للغاية؛ يمكن الوصول إلى جميع المساهمات بسهولة. وعلى الرغم من أنه ليس تاريخاً منهجياً مستمراً، إلا أن المساهمات تكمل بعضها البعض بشكل جيد وتشكل مجتمعةً صورة واضحة للعبودية ودور أمستردام فيها، إلى جانب العديد من الرسوم التوضيحية.
-----------------------------------
- الكتاب: "العبودية في الشرق والغرب".
- المؤلفون: بيبين براندون، جونو جونز، نانسي جو، وآخرون.
- الناشر:Spectrum ، بالهولندية.
عدد الصفحات: 448 صفحة.
*كاتب عربي مقيم في هولندا
