فرانكو داغوسطينو
عزالدين عناية
بات موضوع السومريين من المواضيع الكلاسيكية في أوساط المهتمّين بالتاريخ العراقي القديم في الجامعات الغربية. هذا وقد غدت المدوَّنة العالمية حول الحضارة السومرية متوفّرة، بعد أن كانت نادرة، منذ أن تشكّل فرع علميّ خاص بالسومريات. ولو نظرنا إلى الأمر في مستوى اهتمام أقسام التاريخ القديم في الجامعات الإيطالية، نرى صدور العديد من الأبحاث والمقالات والمؤلّفات المهمّة على غرار مؤلف جوفاني بتّينانو: "السومريون"، وهو عرض شامل لِما يتعلّق بالشعب والحضارة والثقافة، اعتمد فيه صاحبه التوثيق العلميّ فضلا عن دعم قوله بالخرائط والرسوم والشروحات المستفيضة؛ وكذلك خلاصة بييترو ماندر في كتاب "السومريون" أيضا. هذا وقد سبق أن ترجمنا كتابا في الشأن نُشر لدى "مشروع كلمة" الإماراتي بعنوان: "أوروك.. أولى المدن على وجه البسيطة" للمؤرخ الإيطالي ماريو ليفراني. هذا ناهيك عن العديد من المؤلفات حول اللغة السومرية، وعن محاولات إيجاد ترابط لهذه اللغة مع لغات أخرى في المنطقة أو بعيدة عن المنطقة.
من هذا الباب، يأتي كتاب الفيلولوجي الإيطالي فرانكو داغوسطينو إضافة إلى قائمة المؤلّفات حول الحضارة السومرية. فهو عبارة عن مقدّمة عامة في حقل السومريات، وكما يتوجّه إلى الطلاب والباحثين، فهو يخاطب أيضا جمهورا معنيا بالقضايا التاريخية، لكن بقلم متخصّص مدقّق يدرك ما يقول حتى وإن لم يوثّق كلامه.
فمن أغراض الكتاب -كما يشير المؤلّف- تقديم عرض شامل ومتناسق، وفي الآن نفسه نظرة متأمّلة في المسار التاريخي الغنيّ بالإنجازات التقنية والصياغات الذهنية التي قادت السومريين إلى حيازة رؤية مميَّزة للطبيعة وللعالم ولأنفسهم أيضا. الأمر الذي خلّف أثرًا واضحا على التصوّرات الدينية والرؤى الإيديولوجية في عالم الشرق القديم، وليس في بلاد ما بين النهرين فحسب. فكما يُصرّح المؤلف: بعد أربعين سنة من الاشتغال في حقل السومريات حانت اللحظة لتقديم خلاصة عامة، تجمع شتات ما تناثر من أفكار ونتائج وتفسيرات بشأن الحضارة السومرية.
سنة 1879 كان المستشرق الفرنسي جيل أوبار (Jules Oppert) أوّل من اقترح كلمة سومر، للدلالة على الشعب واللسان اللّذيْن عثر عليهما في مناطق بلاد الرافدين الشمالية في مقابل العنصر واللسان الساميين، والواقع أن كلمة "سومر" مستوحاة من اللغة البابلية اللاحقة. هذا ويُرجَّح بروز السومريين في العراق في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وهو موضوع تاريخي إشكالي: فهل السومريون وافدون على العراق أم ناشئون فيه؟ وأمام تشعّب السؤال السومري يحاول داغوسطينو تركيز الاهتمام في الثقافة السومرية بدلا من الانسياق إلى متاهة تحدّر الشعب السومري وأصوله العرقية، لكن مسألة اللسان تجذبه نحو قضايا العرق والأصل رغم نفوره من ذلك. فمنذ مطلع الكتاب يحاول المؤلف استعادة الجدل الدائر في أوساط المؤرخين المعنيين بالتاريخ الشرقي، حول ما عُرف بـ "المسألة السومرية"، وهو ما رافق البحث عن حلّ لغز اللغة، من خلال طرح جملة من الأسئلة على غرار: إلى أيّ عائلة لغوية تنتمي السومرية؟ ومن أين يتحدّر السومريون؟ وفي أي فترة تاريخية حلّوا ببلاد ما بين النهرين إن ثبت وفودهم؟ وهي أسئلة شغلت الدراسات السومرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقادت إلى تطوّر علم قائم الذات يُعرف بعلم السومريات واستقلاله نوعا ما عن مباحث التاريخ العراقي الأخرى.
ويروي الباحث داغوسطينو تفاصيل هذه الرحلة الشائكة لعلم السومريات، التي تَرافقت مع البحث عن تحديد التحدّر العرقي للسومريين، بوصفهم من الشعوب الطورانية كما تذهب بعض القراءات. في الأثناء أبرز الكاتب الدور الألماني في بناء النحو السومري، لاشتغال أغلب الباحثين الألمان على الجانب الفيلولوجي، وقد برز هذا الإسهام جليا مع آدم فالكشتاين (1906-1966) في مصنّفه المعنون بـ "نَحوُ غوديا ولاغش" (1949) وما لحقته من أعمال أخرى في الشأن. مع أن هناك، كما يوضّح داغوسطينو، من ينفي وجود اللغة السومرية والشعب السومري، معتبرا أنّ ما يسمى باللغة السومرية هو شكل من أشكال الكتابة الرمزية ذات المنزع الديني التي تُحوِّل اللغة البابلية الآشورية إلى دلالات باطنية. وقد ذهب هذا المذهب جوزيف هاليفي (1827-1917) أحد كبار المستشرقين الفرنسيين العثمانيين، معتبرا أنّ السومرية مجرد كتابة مجازية أنشأها البابليون والآشوريون لا غير.
وفي سياق حديث الكاتب عن منشأ اللغة السومرية، يستعرض في الفصل الأول الرؤية القداسية للسومرية كونها من صنع الآلهة، فبعد أن تعب فَمُ الآلهة من الحكي تناولت لوحا من الطين وخطّت عليه كلاما وهكذا نشأت اللغة. وكما ثبت لدى داغوسطينو، تعود الكتابة المسمارية التي أنشأها السومريون إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وقد ظهرت نصوصها الأولى في أوروك (الوركاء حاليا). ثم في الفصل الثاني يعيدنا الكاتب إلى سؤال نشأة الكتابة السومرية، التي ترافقت مع حاجة الجهاز الإداري المركزي في تصريف شؤون الدولة إلى التسجيل والتدوين، وهو بالأساس داع اقتصادي بغرض ضبط المعاملات على شارات (جيتونات) من الطين.
وفي الفصلين الثالث والرابع يتناول الكاتب نشأة المدينة/الدولة بمفهوم سياسي، وأشكال تطوّرها عبر مختلف الحقب التاريخية. ليتركز الحديث على مدينة أوروك، ثم على المدن الأخرى مثل أور ولاغش، حيث يتحدّث الكاتب عن مفهوم "مهد الحضارة" الشائع على الألسن، وهو مفهوم حضاري تحقيبي على صلة بأوروك، بوصفها المدينة الأولى والمهد المبكر الذي تشكل فيه كيان الدولة، التي بدأ ظهورها منذ أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. يحاول داغوسطينو في هذين الفصلين جرد العوامل التي دفعت إلى نشوء الدولة/المدينة أوروك، وإلى كيفية تنظيمها. كما يشرح معنى مهد الحضارة ودلالاته، بوصف المدينة هي النموذج الحضاري المبكر للدولة. ثم في الفصل الخامس يتناول الكاتب توسع الدولة الجغرافي والاقتصادي واقترانه بانتهاء السومريين.
وفي الفصل السادس، يحاول الكاتب تناول الموضوع الكلاسيكي في الدراسات التاريخية الغربية، وهو موضوع الحياة اليومية في سومر بكافة تشعباتها، ثم في الفصل السابع والأخير، يتناول المؤلف ثلاثي الإنسان والآلهة والطبيعة، ليختتم كتابه بما يشبه الحديث عن فناء السومريين وبقاء أثرهم الثقافي والحضاري. فمع نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد غاب السومريون وتوارت اللغة السومرية عن مسرح التاريخ ولم يبق أثرهم سوى في المعابد.
وبوصف الموضوع يتعلّق بالتاريخ القديم وبفترة متقدّمة من التاريخ العراقي، ونظرا لشحّ المعلومات عن تلك الحقبة سوى ما رشح من الأبحاث الأثرية أو الرُّقُم، يحاول الكاتب في مؤلّفه تقديم مدخل عامّ ييسّر على الطلاب والباحثين الولوج إلى حقل الدراسات السومرية، يمكّنهم من قراءة الألواح العائدة إلى تلك اللغة. جاء تركيز الكاتب بالأساس على الشروحات الفيلولوجية سواء تعلّق ذلك بأسماء المدن أو ببعض الشخصيات أو بجملة من المفاهيم، ولكن الملاحظ في ذلك المنهج خلوه من اعتماد التهميش، وإن كان صاحبه يورد في ثنايا الشرح ذكرا لبعض المؤلفات والكتّاب. وممّا يقرّه المؤلف في بحثه غياب لغة حيّة أو منقرضة من اللغات المعروفة على صلة بالسومريةـ سواء كانت من اللغات الناشئة في المناطق الحضرية المحيطة، مثل اللغات التركية أو المغولية، أو من تلك اللغات البعيدة مثل اللغات الهندية الأوروبية أو الصينية. وبناء على ذلك تُعتَبر السومرية لغة فريدة ومعزولة، والمرجَّح والأقرب إلى الصواب كما تبيّن لداغوسطينو أنّها تنتمي إلى حاضنة لغوية منقرضة.
والشيء الذي يشكل فرادة في كتاب داغوسطينو، مقارنة بغيره من المؤلفات، وهو تعرّضه المعمّق لبنية اللغة السومرية، حيث يتناول قضايا الكتابة على الألواح ودواعي تطورها، ويقول بشأن ذلك: هي كتابة فقيرة من حيث الأدوات، لكنّها مقاومة لعوادي الزمن أكثر من غيرها من المواد التي بحوزتنا إلى اليوم. فمكتبة آشور بانيبال التي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، والتي تضمّ أهمّ مخطوطات العالم القديم، بقيت محفوظة إلى اليوم، في حين ضاعت محتويات مكتبة الإسكندرية التي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
لا يُمكن الحديث في الكتاب عن طرح معمَّق للقضايا المعالَجة أو لأوجه الآراء المختلفة في الحضارة السومرية، وإنما هو بمثابة التمهيد والإشارات لما يمكن أن يفيد الباحث والطالب. والخلاصة التي يخرج بها المؤلف في آخر الكتاب أنّ الحضارة السومرية لم تندثر وإنما تم استيعابها في الحضارتين اللاحقتين البابلية والآشورية، مبرزا أشكال الاستلهام التي حدثت في اللغة والدين والثقافة. كما تبقى الميزة الكبرى للسومريين، بحسب داغوسطينو، في التنظيم الإداري المحكم، وهو ما تجلى مبكرا في توظيف اللغة والأرشيفات للغرض.
وكما أوردنا، يتعلّق الكتاب أساسا بتاريخ حضارة عراقية قديمة، تعود تحديدا إلى الفترة المتراوحة بين الألف الرابعة والألف الثالثة قبل الميلاد؛ لكنّ اعتماد الكاتب مؤلفات عربية في الشأن، أي المؤلفات ذات الصلة بالموضوع، فهو غائب ولا يرد ذكرٌ في الكتاب لأيّ علم من أعلام التاريخ القديم ممّن يكتبون بالعربية. فالملاحظ أنّ هناك غيابا في التواصل لدى المؤرخين وعلماء الآثار الإيطاليين ممّن ينشغلون بالتاريخ العراقي القديم مع ما ينتجه زملاؤهم من العراقيين وغيرهم بالعربية. ومن هذا الجانب اعتمد فرانكو داغوسطينو بالأساس على الكتّاب الغربيين.
ما من شكّ أنّ الكتاب يثقل على القارئ غير المعني بالتاريخ العراقي. ولا أقدّر أنّ الكتاب في بعض من أقسامه يُعدُّ واضحا بما فيه الكفاية، وهو يتطلّب إلمامًا بفيلولوجيا اللغات القديمة حتى تتسنى للقارئ متابعة الكاتب بيُسر. ثمّة حضورٌ واسعٌ لأسماء الأعلام والمصطلحات الأثرية على صلة بالحضارات العراقية القديمة، وهو ما يتطلّب توضيحًا وشرحا، ولكن ذلك يأتي عرضا في الكتاب ولا يفي بالغرض. ومن هذا الباب لا نعتبر الكتاب يسيرَ المتابعة على غير المطلّ بدراية على التاريخ العراقي القديم. كما أنّ الكتاب لم يتضمّن أيّ فهرس من الفهارس سوى فهرس المواد، وإن كانت الفهارس ضرورية في مثل هذه المؤلفات، الأمر الذي جعل الكتاب بمثابة الحكي المسترسل. على هذا النحو يبدو الكتاب وكأنه أُلِّف على عجل، أو جرت لملمته من محاضرات أستاذ، لم يراع فيه صاحبه شروط الكتابة البحثية الأكاديمية.
صحيح اعتمد المؤلف جملة من الجداول تعلّقت أساسا بمسائل لغوية وبمراحل تاريخية لشخصيات سياسية، ولكنها لم تأت شاملة لتغطي حاجات متنوّعة في الكتاب أو لإضافة معلومات جديدة. وفي واقع الأمر، لم نلمس في الكتاب محاولة لحوصلة آخر التطورات والخروج بنتائج بيّنة في المجال، وإنما هو مجرّد مدخل عام في مبحث السومريات. حيث يحاول الكاتب أن يأتي بخلاصة عن الحضارة السومرية، غير أنها تأتي في بعض الأحيان مستعجَلة ولا تفي بالغرض.
نُشير إلى أنّ المؤلِّف فرانكو داغوسطينو هو عالم آثار وفيلولوجي من مواليد (1960)، يتركّز اهتمامه على الحقبة السومرية، وهو من المتخصّصين في الكتابة المسمارية التي تعود إلى ذلك العهد (الألفية الثالثة قبل الميلاد). نشرَ العديد من المقالات والدراسات العلمية في فيلولوجيا اللغات العراقية القديمة. كما يهتمّ بالرُّقُم التي تعود إلى فترة إيبلا في سوريا. يتمحور مشروع فرانكو داغوسطينو بالأساس حول الاشتغال على لغات بلاد الرافدين في التاريخ القديم وأساسا على الكتابة المسمارية حيث يحاول استنطاق الألواح القديمة، وقد نشر في ذلك العديد من المقالات العلمية. وفّق عبر مشوار أبحاثه في عرض العديد من الشذرات اللغوية والتاريخية المهمة بشأن الثقافة السومرية، وإن كانت لا ترتقي إلى مستوى المشروع المتكامل أو الطرح الشامل. يبقى داغوسطينو أقرب إلى الباحث الميداني المنشغل بالعمل على عين المكان وعلى اللقى الأثرية. هذا وقد نشر المؤلّف كتابا بعنوان "غلغامش: الإنسان الملك الكاتب"2017، كما نشر بالاشتراك مع آخرين كتابين: الأول بعنوان "لغة السومريين" والثاني بعنوان "لغة بابل" 2016.
----------------------------
- الكتاب: "السومريون".
- المؤلف: فرانكو داغوسطينو.
- الناشر: منشورات أورليكو هوبلي (روما- إيطاليا)، 2020.
- عدد الصفحات: 176 صفحة.
