التيسير الكمي للناس

1509531297.jpg

تأليف: فرانسيس كوبولا

عرض: محمد السالمي

في خضم الأزمة المالية في عام 2008،عمدت البنوك المركزية لخلق تريليونات من الدولارات، وصبها في الأسواق المالية أي اعتماد سياسة"التيسير الكمي"، وذلكلاستعادة النمو الاقتصاديومنع الانكماش. ولكن الأموال ذهبت إلى الشركات الكبرى والبنوك وهي البنوك نفسها التي تسببت في الأزمة من خلال الإقراض المتهور، ولم تذهب إلى الناس العاديين، هذا أدى إلى عقد من الركود، وليس الانتعاش. ومن هنا يُمكن القول بفشل سياسة التيسير الكمي في تحقيق أهدافهافي زيادة إجمالي الطلب وبدء النمو. على الرغم من أن البنوك المركزية لم تقم بعمل سيء في الركود الأخير، فإن العديد من الأدوات التي استخدمتها لن تعمل في المرحلة التالية أو لن تُحقق الأهداف المرجوة منها، لأسباب ليس أقلها أن تركة الأدوات نفسها لم تتبدد بعد. فالميزانيات العمومية للبنك المركزي هائلة، ولا يزال القطاع الخاص مثقلاً بالديون. وفي حال حدوث ركود اقتصادي مستقبلا، ستحتاج البنوك المركزية إلى أدوات أكثر جذرية لدعم إجمالي الطلب.في هذا الكتاب،تقدمفرانسيس كوبولاFrances Coppolaقضية "التيسير الكمي للناس"، حيث ترى الكاتبةأن توزيع الأموالعلى الناس العاديينوالشركات الصغيرة بشكل مباشر بدلا من البنوك، سيوفر حافزًا إجماليًا أكثر فاعلية للطلب على المدى القصير مقارنةً بالتسهيلات الكمية، دون أن يؤدي ذلك إلى نتائج توزيع مؤلمة. ويمكن للحكومات أيضاً، الاستفادة من قدرة البنوك المركزية على دعم أسعار الأصول، والاستثمار في الاقتصاد لاستعادة النمو وإعادة التوازن للاقتصاد على المدى الطويل. هذا الكتاب من تأليف فرانسيس كوبولا، حيث تملك المؤلفة خبرة كبيرة في الأعمال المصرفية تمتد لأكثر من 17 عامًا. كما أنها محررة مشاركة في المجلة الإلكترونية Pieria،ومعلقة دائمة حول المسائل المالية لهيئة الإذاعة البريطانيةBBC.

الأطروحة الكامنة وراء هذا الكتاب هي أنه على الرغم من فشل التسهيل الكمي منذ الأزمة المالية 2008، فإنَّ سبب الفشل يكمن في آليةالتنفيذ، وليس في السياسة النقدية نفسها. كان التيسير الكمي عبارة عن سياسة اقترحها ميلتون فريدمان وآن شوارتز في عام 1963 كوسيلة لمُواجهة الكساد المالي. كانت الفكرة تتمثل في زيادة عرض النقود بشكل جذري، وتزويد المستهلكين بالمال لإنعاش الاقتصاد. بعد خمس سنوات استخدم فريدمان استعارة "طائرة هليكوبتر" حيث تسقط الأموال على المجتمعات لتحقيق هذا الهدف،في أعقاب الأزمة المالية الكبرى، بدأت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم سياسة فريدمان في "أموال طائرات الهليكوبتر"، حيث صرفت تريليونات الدولارات. ومع ذلك، كما توضح الكاتبة، فإن هذا الاستخدام الهائل للتخفيف الكمي، قد فشل لأن "إسقاط طائرة هليكوبتر" لفريدمان كان يعني عدم وضع الأموال في جيوب الناس، بل رمي الأموال بشكل أعمى في الأسواق المالية الدولية دون اعتبار لما سينتهي به الأمر. والنتيجة المرجوة لم تحدث،بدلاً من ذلك نجد أنفسنا في "الركود الطويل".إذن، أين ذهبت أموال الهليكوبتر بعد أن تم توزيعها على القطاع المالي والشركات؟، فقد تم استثمار الكثير منها في الأسواق الناشئة. كما استخدمتها الشركات لإعادة شراء الأسهم لزيادة سعر أسهمها وعظمتها دون زيادة النشاط الإنتاجي، أو كما تُشيركوبولا "وول ستريت مليئة بالمال، بينما الشارع الرئيسي يموت بسبب العطش". هذا ما يفسر فقاعات الأصول وانخفاض معدل البطالة في بعض الدول، في حين أن نمو الأجور لا تزال راكدة.

ولكن قبل نشر هذا الكتاب، هناك العديد من الاقتصاديين والسياسيين الذين أكدوا على أهمية "التيسير الكمي للناس" في دعم الاقتصاد، أبرزهم جيريمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني. فقد دعا جيريمي إلى إنشاء بنك استثمار وطني أو صندوق سيادي يتم تمويله مباشرة من قبل بنك إنجلترا، بحيث يختص هذا الصندوق للاستثمار بشكل مباشر في الإسكان والنقل العام وباقي البنية التحتية. على الرغم من أنه يختلف في رؤية ميلتون فريدمان في توزيع الأموال مباشرة على الأفراد، إلا أن كلا التوجهين يؤثران على استقلال البنك المركزي.

خلال السنوات العشرالماضية، أنشأ بنك إنجلترا ما يقارب450 مليار جنيه إسترليني. ينتهي المال الذي يتم إنشاؤه من خلال التيسير الكمي في أسواق العقارات والأسواق المالية، ولا يفعل الكثير لدعم الاستثمار في الشركات لخلق فرصالعمل. لذلك على الرغم من أن البنك أنشأ مليارات الجنيهات، بقيت الأجور منخفضة، والناس العاديون لا يرون الفائدة.

ولذلك يرى البعض أنبنك إنجلترا يملك المقدرة لاعتماد أدوات سياسية قوية بديلة في دعم الاقتصادوتحقيق توزيع أكثر عدلاً. بدلاً من ضخ الأموال في الأسواق المالية، يمكن إنفاقها عبر الحكومة في البنية التحتية أو التكنولوجيا الخضراء أو كدفع مباشر لتمويل الأسرة.

هذا التوجه تم نقده حيث سيُنظر إليه على أنه يزيد من مخاطر الاستثمار في المملكة المتحدة. كما أنه سيتعارضمع معاهدة لشبونة للاتحاد الأوروبي التي تمنع البنوك المركزية من طباعة النقود لتمويل الإنفاق الحكومي، ولكن لا يستبعد ذلك بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى أنه قد يشجع الحكومات على الإنفاق المتهور لتمويل مشاريع سيئة،ويمكن أن يتم استغلاله لتسريع الدورة الاقتصاديةقبل الانتخابات يليها التقشف بعد إعادة انتخاب الحكومة وقد يؤدي ذلك إلى تضخم جامح.

تدرس كوبولا الفرق بين السياسة النقدية للبنك المركزي والسياسة المالية للحكومة. في رأيها أن هدف السياسة المالية هو إعادة توزيع الثروة في المجتمع، في حين أن الغرض منالتيسير الكمي هو إنشاء وتوزيع أموال جديدة. فزيادة المخزون النقدي الأساسي لمواجهة الانكماش الناجم عن فشل الإقراض المصرفي هي وظيفة البنك المركزي وذلك لإدارة الاختلافات الدورية في الاقتصاد، وليس لتحديد اتجاهه على المدى الطويل.

تطرقت الكاتبة في هذا السياقللبنك المركزي الأوروبي حول فشله في التعامل مع الركود الحالي. والسبب يكمنفي أن السياسات الموضوعة تحت تصرف البنك المركزي لايمكن أبدًا الوفاء بهذه المهام. بدلاً من ذلك، أصبح دور البنك المركزي الأوروبي، له بعد سياسي أو أيدولوجي. حيث ليس للبنك المركزي أي تفويض ديمقراطي، كما أنه ليس مسؤولاً أمام الشعب. وتقول إنهلاكتساب أي مصداقية بين مواطني الاتحاد الأوروبي سيتعين إضفاء الطابع الديمقراطي على البنك. كما تؤكد في كتابها: "إن الحكومات ليست أطفالاً أشقياء يتم تأديبهم من قبل البنوك المركزية، وأن محافظي البنوك المركزية ليسوا من كبار الكهنة الذين يمكنهم وحدهم استرضاء الآلهة الاقتصادية الغاضبة". ومن هنا، يجب أن يكون هناك تعاون جديد بين البنوك المركزية والحكومات.فقد فشل التسهيل الكمي في استعادة النمو الحقيقي منذ ذلك الحين، لأنَّ تمويل التسهيلات الكمية قد تم توجيهه إلى البنوك التجارية والشركات الكبرى التي لم تستثمر الأموال بشكل إنتاجي ولكن استخدمتها لسداد ديونها، وتعزيز سعر أسهمها والانخراط في المضاربة. إن سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومات لاستعادة العجز، والتي كانت تنقذ البنوك، كانت بمثابة كسر للنمو. وبمعني آخر، إن "التيسير الكمي" لم يذهب إلى حيث الحاجة.

تستبعدالكاتبة مخاوف المصرفيين والاقتصاديين الرئيسيين من أن التيسير الكمي للأفراد سيؤدي إلى ارتفاع التضخم أو العودة إلى التضخم الهائل كما في السبعينيات. إنها تتفق مع الاقتصادي الكبير ميلتون فريدمان فيأن زيادة المعروض من النقود كان سيمنع الكساد العظيم في الثلاثينيات. وهي تجادل أن المشكلة في الاقتصاد العالمي تتمثل في انخفاض التضخم، فإنسياسة التيسير الكمي، لن تؤدي إلى تأجيج التضخم.تنتقد كوبولا ما يسمى باستقلال البنوك المركزية عن الحكومة. وهي تجادل في أن هذا التوجه يعني حقًا الاستقلال عن السيطرة الديمقراطية. إنها تعتقد أن البنوك المركزية والحكومات يجب أن تعمل معاً لتشجيع النمو الاقتصادي.

تشير كوبولا إلى أنه حتى معاستقلال البنك المركزي، لا يمكن لسياسة التسهيل الكمي تحقيق أهدافها إلا عندما تعمل البنوك المركزية مع السلطات المركزية. وتوضح أن التيسير الكمي سوف يتسبب في التضخم وهذا هو الغرض منه،ولكن بعد مرور عشر سنوات، لم يصل التضخم في معظم الدول إلى المستويات المرغوبةوهو فشل فاجع. فالبيانات تشير إلى أن التضخم يرتبط بشكل كبير بعجز الحكومة. فحل هذه المعضلة يتمثل في وجود حكومة مسؤولة تدعم البنك المركزي في تحقيق أهدافها، وليس عجز الحكومة الذي ينتج عنه تضخم مفرط.

في أواخر صفحات الكتاب تتوقف كوبولا عن تأييدها الكامل للاقتراح الداعي إلى تنفيذ التسهيلات الكمية للناس من خلال زيادة الدخل الأساسي بتمويل من مال سيادي، حيث ترى أن هذه الأمور تتجاوز نطاق كتابها. يتبين من خلال الخاتمة، تأييد الكاتبة في توجهجيرمي كوربين في إنشاء صندوق سيادي لدعم البنية التحتية ممّول مباشرة من بنك إنجلترا.

 

 

تختتم كوبولا كتابها بأنه يجب ألا يكون هناك أي تسامح مع السياسات التي تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة وإلحاق الضرر بالفقراء. كما يجب إنشاء بنوك استثمار عامة وصناديق ثروة سيادية في كل دولة، مع إزالة القوانين والقواعد التي تقف عائقاًللتعاون بين الحكومات والبنوك المركزية. ففي وسائل الإعلام الرئيسية، غالبًا ما يتم تصوير أموال طائرات الهليكوبتر أو التيسير الكمي للأفراد على أنها فكرة سخيفة تنشرها بعض الأكشاك. ترى كوبولا عكس ذلك حيث إن العبث هو أنه بعد عشر سنوات من الفشل، لا تزال سياسات البنك المركزي الحالية لم تؤخذ على محمل الجد.

يعد الكتاب ضمن قائمة أفضل الكتب الاقتصادية في الفايننشال تايمز لعام 2019، حيث استطاعت فرانسيس كوبولا جعل هذا الكتاب سهلا وممتعا للقراءة، والمعلومات التي يحتويها جميعها جيدة التنظيم. في المقابل، من الصعب أن تكون موضوعيًا بشكل مفرط والحكم بأن أفكار الكتاب ثورية يجب تطبيقها، ولكنه يقدم فكرة جيدة بما يكفي لمنح شخص ما للمناقشة في أبعاد التيسير الكمي ونجاعتها مستقبلاً.

 

--------------------------------------------------------

تفاصيل الكتاب

اسم الكتاب: التيسير الكمي للناس

اسم المؤلف:Frances Coppola

الناشر:Polity

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 140

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة