فلورنس مارتن وأنتوني كارل بيتروس
فينان نبيل | كاتبة وباحثة مصرية
فسر الفيلسوف والمفكر الإنجليزي "أرنولد توينبي" نشوء الحضارات بنظرية التحدي والاستجابة، التي استلهمها من علم النفس السلوكي، ومؤداها" أن الفرد عندما يتعرض لصدمة ما، يفقد توازنه لفترة، ثم قد يستجيب بنوعين من الاستجابة، إما سلبية بالنكوص إلى الماضي، فيصبح انطوائياً، أو إيجابية وهي تقبل الصدمة والاعتراف بها ومحاولة التغلب عليها فيكون انبساطيا". يرى توينبي" أن الظروف الصعبة هي التي تستثير الأمم على إقامة الحضارات، خاصة التحديات الخارقة منها وهي التي تحفز على الإبداع والاستثمار". واجه العالم تحديات كبرى بعد جائحة "كورونا "أهمها تحدي "مستقبل التعليم"، فبعد تعليق الدراسة بالجامعات والمدارس، ظل تساؤل يطرح نفسه، ما مصير التعليم؟ وما مستقبل الطلاب بعد أعوام طويلة من الدراسة؟ وكان الحل الذي فرضته الضرورة، وحسابات المستقبل، استمرار العملية التعليمية عن بعد، وأكدت الدراسات والأبحاث أن هذا المجال سيشكل الأنظمة التعليمية في المستقبل، وبما أن المستقبل يبدأ الآن فقد بدأت الكثير من الدول في التوجه نحو التعليم الإلكتروني والتوسع في استخدامه، وزيادة الاستثمار فيه. ومما يعزز هذا التوجه أن هناك العديد من الجامعات العريقة في العالم مثل "هارفارد، وجامعة لندن، وسيدني، وجونز هوبكنز، ومانشستر"، وغيرها بدأت تستثمر في التعليم الإلكتروني وتحول العديد من مناهجها ومقرراتها الدراسية عبر التعليم الإلكتروني. إن دخول جامعات ومعاهد ذات سمعة أكاديمية عالمية إلى مجال التعليم الإلكتروني الكامل يعزز التوقعات بتنشيط وتطوير صناعة التعليم الرقمية بجانب الشركات، والشراكات العالمية بشكل أسرع مما قدر الخبراء، حين توقعوا هذه النقلة النوعية في مرحلة ما بعد عام 2030.
أدى تفشي فيروس كورونا إلى تحرك الكثير من أنظمة التعليم في العالم لاتخاذ العديد من الخطوات السريعة تجاه استخدام وتوظيف التعليم الإلكتروني والإنفاق عليه، مما يؤدي إلى تبسيطه، وسرعة استخدامه، وإزالة الكثير من التحديات، والعقبات التي تقف أمامه، حيث خصصت مبالغ كبيرة للبحث العلمي، والعمل الميداني لحل تلك الإشكاليات، وتذليل كل الصعوبات القائمة أمام التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد، وذلك لضمان سرعة انتشاره، وتوظيفه بفاعلية في عملية التعليم والتعلم. فقد المكان سؤدده القديم وأصبح البعيد متاحا، في متناول أيدينا نشاهده ونحاوره ونؤثر فيه ونتأثر به، وحررت تقنية المعلومات الإنسان من قيود الزمان، والمكان ووسعت دائرة وجوده. جعلت الإمكانات التقنية الهائلة أحلام التربويين في تحقق مفاهيم اللامركزية في التعليم والتعلم زمانا، ومكانا قريبة المنال، إذا ما تمَّ استثمارها بفاعلية، وكفاءة في تحويل نموذج التعليم التقليدي المغلق إلى بيئة مرنة، يتبادل فيها اللاعبون في المسرح التربوي (طلاب ومعلمون)الأدوار، من أجل عملية تعلم تستمر مدى الحياة.
تعد وسائل الإعلام الرقمية وسائل اتصال حديثة، تحتوي على مفاهيم، وأفكار، وإجراءات وعمليات، من أجل توسيع وتحسين مهارات المربين لتوفير أفضل تعليم، من خلال معرفة كيفية تصميم وسائط الإعلام الرقمية والتدريب على استخدامها على أفضل وجه، واكتساب المهارات الهامة في السياق المهني الحديث، وتعليم الطلاب بلا استثناء بشكل متطور، ومساعدتهم على الوصول إلى مجموعة واسعة من وسائل التعلم التي تتنافس على جذب انتباههم. وتعتمد فاعلية العملية التعليمية على القرارات التي يتخذها أصحاب القرار حول الوسائل التي يتم اختيارها، وتصنيعها وتوصيلها للطلاب.
يستخدم مصطلح الوسائط الرقمية كمرادف للوسائط المتعددة، ونعني بها "المحتوى الرقمي الذي يشمل مجموعة متنوعة من العناصر مثل "النصوص، والصوتيات، والفيديوهات، والرسوم المتحركة، ويمكن تقديمها من خلال صور مختلفة، وأسطوانات، وألعاب، عبر الإنترنت والبيئات التعليمية الجديدة كالمنصات الرقمية. ويمكن تصنيف وسائط الإعلام على أساس أصلها سواء كانت ملتقطة من العالم الحقيقي، أو تم توليفها بواسطة الحاسوب، ووقتها من حيث الفترة الزمنية التي يتم تقديمها فيها متصلة أو منفصلة.
يعرف ماير التعلم المتعدد الوسائط "بأنه بناء من التمثيل الذهني لدى الطلاب عندما تقدم لهم مجموعة من الكلمات والصور، ويشمل عناصر سمعية وبصرية ورسوما متحركة". ويعرف المكتب الوطني للفضاء، الوسائط المتعددة بأنها "مزيج من مختلف أنواع الوسائط الرقمية، مثل النص والصور والصوت والفيديو، في تطبيق أو عرض تفاعلي متكامل متعدد الحواس لنقل رسالة أو معلومات إلى جمهور".
ساهمت الوسائط الرقمية في إثراء الخبرات في مجال التعليم، من خلال التصميم والتطوير وتقييم حاجات المتعلمين من أجل إنشاء وسائط متطورة، تثبت كفاءة التكنولجيين والمدربين في إدماج الوسائط الرقمية في التعلم، فقد تطور الأمر من النص المكتوب الذي تضاف إليه صور ثابتة، إلى الصور المتحركة كأداة مختلفة من أدوات التعلم، ثم تطور إلى "الفيديو التعليمي" الذي ازدادت شعبيته خاصة بعد انتشار الهواتف الذكية التي أصبحت في أيدي الجميع، وتسبب ذلك في تنوع شديد من حيث المصدر، والنوعية، وطريقة التواصل، وسرعة انتشار الفيديو، وزيادة جودته، كما ظهرت المحاكاة بالألعاب خاصة لصغار السن، والتي يمكن أن تكون أدوات تعلم قوية جدا في البيئات المهنية، وأوساط التعليم الرسمي، إذا كانت متوافقة مع الأهداف التعليمية. وستقوم بعمل جيد في التحفيز بشكل خاص، كما يمكن أن تخلق حالة من التعاطف بين المتعلمين. أصبح التعليم الإلكتروني قاعدة وليس استثناء، لا سيما مع زيادة الدورات الإلكترونية المتاحة في القطاع الجامعي، ومجال الصناعة وبرامج تدريب الموظفين، بما يسمح به من مرونة يقدمها للمتعلمين، ففي الدورات الإلكترونية يمكن توفير مدرب أو أكثر، وتصميم دورات تفاعلية تدمج بين مختلف من وسائط المعلومات .
شهد العقد الماضي زيادة الأجهزة المحمولة واستخدامها، وأصبح من الممكن تقديم محتوى رقمي يمكن الوصول إليه من خلال الأقراص الرقمية والتطبيقات والبيانات المتواجدة على الانترنت، التي تتمتع بخاصية التنقل عبر الهواتف الذكية، والحواسيب اللوحية، والوسائط الرقمية الأخرى. أتاحت تقنيات التعلم الناشئة لنا أن نتعلم في أماكن مختلفة وأوقات متعددة؛ فقد سهل الذكاء الاصطناعي القابل للتكيف فهم احتياجات التعلم لدينا. تتركز المهارات الحاسوبية الأساسية في معرفة الوسائط المتعددة القابلة للتعميم، والوصول إلى أكبر قدر من المتعلمين، والتي تعتمد على قدر كبير من التفاعل، ويمكن تحديث المعلومات من خلالها بسهولة، وتكون متاحة من حيث التكلفة، ويمكن تداولها على نحو فردي.
تعتمد النظرية المعرفية للتعلم المتعدد الوسائط،على قناتين منفصلتين، نظرية معالجة المعلومات (السمعية،والبصرية) ونظرية الترميز المزدوج التي تعتمد على إدخال المعلومات إلى الذاكرة الحسية، إما بالكلمات أو الصور عبر الآذان والعين، وعملية اختيار المعلومات وتنظيمها وإدماجها وتوصيلها إلى الذاكرة طويلة المدى. ويجب أن يكون هدف التعليم هو المرشد في اختيار المحتوى المناسب للمتعلم. تستخدم الوسائط الرقمية لتيسير التعلم وتحسين الأداء، وإدارة المواد المتاحة بطريقة إبداعية، وتخلق بيئات مرحة على مستوى النظرية، والممارسة، والتقييم. ويقدم مبادئ إثرائية تعتمد على التكرار، والتدريب، والتواصل، والتفرد. يتم التهجين بين العديد من الوسائط، والكلمات، والصور، للوصول لأفضل نتائج التعلم. يضع التعلم الإلكتروني الأهداف قابلة للقياس للوصول لنتائج واضحة للتعلم، وتصميم واجهات سهلة الاستخدام مما يعزز نقل المعرفة، ويوفر تجربة تعلم ثرية . اعتمد "ماير" في نظريته المعرفية للوسائط المتعددة على الدمج بين أفضل الاستراتيجيات التي تيسر التعلم، وربط بين مبادئ ثلاثة، مبدأ اختيار التصميم المعرفي، والتنظيم، والادماج بنظرية معالجة المعلومات.
توجد نماذج مختلفة توفر إطارا لجمع، وتنظيم وهيكلة المعلومات بصورة منهجية من أجل تطوير وتقديم وسائط الإعلام التعليمية وتلبية احتياجات المتعلمين. وقد تم وضع العديد من هذه الأطر لاستخدامها في مجالات الهندسة، وعلوم الحاسوب، وتصميم البرمجيات للحصول على تعليقات فورية من العملاء، ولتلبية احتياجات بيئة عمل دينامية، وتنافسية على الصعيد العالمي، ووجد المصممون أن من الضروري استخدام منهج يتكيف بشكل ملائم مع قيود الوقت والميزانية، ويتيح مرونة الاستجابة بسرعة لقوى السوق المتغيرة باستمرار، واستخدام نماذج مختلفة قابلة للتطبيق على مجموعة متنوعة من أنواع المشاريع التي تقوم على إجراء تحليل الاحتياجات وتحليل المتعلمين،وتحليل السياق، ثم استخدام التقييم الذاتي لمساعدة المتعلمين على فهم الأفكار، والمفاهيم، والإجراءات والعمليات للتوسع في مجال الاتصال لتوفير أفضل تصميم وإنتاج للوسائط الرقمية.
تتفاوت وسائل الإعلام ما بين الأشياء الصغيرة التي نتقاسمها مع الأصدقاء والأسرة، والمواد السمعية والبصرية ذات الجودة المهنية العالية التي تبث حول العالم. أصبح لدى الأغلبية العظمى القدرة على الوصول إلى أدوات إنتاجية، الأمر الذي يسمح بإنتاج وسائط متعددة، والتي يستطيع أن ينتجها كل من يملك هاتفا لوحيا. وإن كانت هذه الأدوات تمنحنا بعض السلطة على وسائل الإعلام،إلا أنَّ هذه الأدوات لا تستطيع أن تتخذ قرارات استراتيجية في مجال التعليم؛ فنحن بحاجة إلى مهارات إدارية وتصميمية بارعة لإنتاج نوع من وسائط الإعلام الفعالة والمتطورة ذات التصميم التعليمي،التي تسهم في إنتاج ثروة كبيرة من المعرفة، والخبرة يتم الاختيار فيما بينها. لم يعد التعليم الالكتروني في وقتنا الحالي استثناء؛ فالطلاب الآن متطورون مستهلكون للتكنولوجيا، تتنافس وسائل الإعلام على جذب انتباههم، وتعتمد فعاليتنا التعليمية على القرارات التي نتخذها بشأن وسائل الإعلام التي نخترعها، ونبتكرها ونتشاركها. يوجد لدى مؤلفي الكتاب ثروة معرفية كبيرة وخبرة في إنتاج وسائل الإعلام الرقمية والتصميم التعليمي، وقدما شرحا منظما ومستفيضا للإنتاج الإعلامي التعليمي.
يواجه التعلم الإلكتروني بعض التحديات العاجلة التي تحتاج إلى معالجة علمية من خلال الدراسات والأبحاث العلمية الدقيقة لتجاوزها منها: وضع وإقرار رؤية استراتيجية وسياسات ولوائح تنظيمية لاستخدام التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد ورسم معالمها، وانعكاساتها المستقبلية، والشروع في بناء منصات تعليمية لاستيعاب الطلب المرتفع داخل الدول نفسها على التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد،كما يستلزم التحول الرقمي للتعليم إلى إعادة صياغة في كليات التربية بحيث تعكس مناهجها وبرامجها التغيرات المستقبلية،وإعادة تأهيل المعلمين الذين يمارسون العملية التربوية بالفعل، مع تأكيد وتعميق الوعي بأهمية التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد لكل أفراد المجتمع، وطرق التعامل معه واستخدامه وتوظيفه بأفضل الطرق، والعمل على تأكيد جودة التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد المفقودة اليوم لدى العديد من الأنظمة التعليمية؛ ليتم بناء العديد من المواصفات العالمية التي تضمن جودته واعتراف دول العالم به وبمخرجاته؛ إذ لا يزال الكثير من دول العالم مترددا في الاعتراف بما ينتج عن هذا النوع من التعليم.
يؤكد العديد من خبراء التعليم الإلكتروني أن مما سيساعد على سرعة انتشاره وزيادة الاعتماد عليه وحل العديد من المشاكل القائمة أمامه هو ظهور وانتشار تكنولوجيا الجيل الخامس التي ظهرت حاليا في العديد من الدول المتقدمة، وهو ما سيسرع بدرجة كبيرة في تطوير وتوظيف الأدوات والوسائل والتطبيقات التكنولوجية التعليمية الحديثة داخل الصف الدراسي، وتفعيل الواقع الافتراضي في التعليم بصورة كبيرة وسريعة بحيث تصبح عملية التعليم الالكتروني مقبولة ومدمجة كفصول دراسية مفتوحة توفر طرائق جديدة للتعلم؛ ما سيساعد على الوصول الى بيئة تعليمية تعلمية رقمية أكثر فاعلية وتفاعلية في التعليم والتعلم. وهذا ما سيسهم في تحقيق الأهداف التعليمية بكل يسر وسهولة وتشجيع المعلمين والتربويين على زيادة استخدامها. وكل ذلك يؤكد تعزيز انتشار التعليم الإلكتروني في المستقبل وحتى بعد انتهاء جائحة كورونا.
ولا يعني ذلك أن الاعتماد سيكون فقط على التعلم الإلكتروني وإهمال التعليم التقليدي؛ كلا بل سيسير الاثنان معاً من خلال التعليم المدمج، حيث يرى القائمون على كل من شركات سيسكو، وزووم، وميكروسوفت وغيرها من الشركات التكنولوجية الرئيسة التي قدمت حلولاً رقمية للتعليم، بأنه سيكون من المحتم على الكثير من أنظمة ومؤسسات التعليم عن بعد القيام بتوسيع منصات التعليم الإلكتروني، واللجوء إلى نظام التعليم المدمج أكثر بما يوازن بين الاحتياجات التعليمية التي تناسب كل الأنظمة التعليمية، وبرامجها التعليمية المتعددة؛ ولتحقيق الأهداف التعليمية والتعلمية المتنوعة، خاصة تلك التي تسعى لتنمية المهارات التي يصعب تحقيقها من خلال التعلم الإلكتروني فقط. إن الاتجاه نحو التعليم الإلكتروني يسير اليوم، وخاصة بعد هذه الجائحة بقوة نحو تمكينه والتوسع في استخدامه وصرف المبالغ الطائلة للاستثمار فيه، وفي تثبيته ونشره وحل كل مشكلاته وإشكالياته ليتنافس بجدارة مع التعليم التقليدي، وعلى كل من أراد المنافسة في مستقبل التعليم أن يهتم بتطوير التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد ويستثمر في البحث فيه.
----------------------------------------------------
العنوان: وسائط التعلم الرقمية: النظريات والعمليات والحلول
المؤلف: فلورنس مارتن وأنتوني كارل بيتروس
الناشر: سبرينجر-2020
اللغة: الإنجليزية
