أسطورة الجامعة وهيكل التعليم في القرن الحادي والعشرين
جيورجي ليوبارسكي
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
يأتي صدور كتاب العالم الروسي جيورجي ليوبارسكي في فترة صعبة يُواجهها التعليم العام الروسي بوجهيه العام والعالي، حيث أصبح يُعاني حالة حرجة لاسيما خلال انتشار جائحة الفيروس التاجي الجديد الذي اجتاح العالم مؤخرًا. بيد أن علينا الاعتراف أنه، وحتى قبل انتشار الوباء، كان الاستياء العام من الطريقة التي يتم بها تنفيذ المناهج الدراسية عالياً في روسيا وذلك تزامنا مع سلسلة من التغييرات والإصلاحات التي تشير إلى أن نظام التعليم يتجه إلى طريق مسدود وبأنه سيصطدم لا محالة بمنعطف حاد. يأتي هذا الكتاب ليشكل بحثا أساسيا وشموليا للإجابة عن الأسئلة الملحة في قضايا التعليم الراهنة.
ينقسم الكتاب الذي يضم ما يربو على 500 صفحة إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يحتوي عرضا نظريا للمؤسسات الاجتماعية التي توفر التعليم، كما يتعرض للتغيرات الأخيرة في أهداف التعليم ودوافعه التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات بشأن التعليم وإنشاء مؤسسات تعليمية جديدة. أما الخيط الضابط لعملية التعليم برمتها فيجملها الكاتب بالثقافة التي يعتبرها مدمكا أساسيا لا محيص للعملية التعليمية عن الوقوف عليه، ليس هذا وحسب، فغياب الثقافة عن اللحمة التعليمية سينتج لنا نظاما قضائيا فاسدا وخلوا من العدالة، ناهيك عن إحلال نظام تعليمي غير فعّال.
يتناول الجزء الثاني الذي أخذ سمة تاريخية، الطرق التي تطورت بها فكرة التعليم العالي في أوروبا بشكل عام، فيتحدث عن مركز الحياة الفكرية للمجتمع، وتحولاته الحالية، كما يحكي عن ظهور أشكال اجتماعية جديدة في مجال التعليم، وكيفية انبثاق ما يمكن تسميته بالمعجزة الاجتماعية في مجال التعليم، إلى جانب حديثه عن الهيئة التعليمية الحديثة.
يقدم الجزء الثالث الذي جاء تحت عنوان "زيُّ غوتنبرج الجديد" صورة لآراء رصدها العديد من استطلاعات الرأي وتحليلات شبكات التواصل الاجتماعي. يعكس هذا الجزء الأحلام التي تصنع مستقبلنا. فقبل كل شيء علينا أن نتمتع بالمقدرة على بلورة الحلم، عندها فقط يتم تقديم الخطط والمشاريع والقوى والوسائل لتنفيذها وتحقيقها. ما الذي يحلم به المجتمع في عصرنا وما هي المُثل التي يمكن أن يصنعها؟ وهل للمجتمع القوة الكافية لأنجازها؟
ووفقاً للمؤلف فإنَّ أكبر مشكلة للتعليم في عصرنا هي أن تعليم اليوم لا يساهم في تكوين صورة عامة مشتركة للعالم لدى أفراد المجتمع، ولا يمنع بأي شكل من الأشكال إزالة التفرقة الاجتماعية داخل المجتمع الواحد. يتساءل الباحث: "يتم إنشاء المفاهيم العامة والصورة المشتركة للعالم في سنوات المدرسة. في عالم المدرسة هذا يمكن للمرء أن يقول: لدينا عشر سنوات مدرسية مشتركة، كلنا فيها متشابهون، ونظل على حالة من التماثل حتى مستوى الدراسة الثانوية، بعدها، أي في مراحل الدراسة الجامعية، يبدأ الاختلاف وينبثق عدم الفهم بين المتعلمين. إن مسألة التخصص، ومسارات الحياة التعليمية المختلفة تجعلنا غير قادرين على فهم بعضنا البعض، وذلك بعد أن كُنا مُتشابهين ونحن في الصف العاشر، ولدينا ذاكرة مشتركة، ومعرفة مشتركة، وحياة مشتركة. لقد كان بمقدورنا، منذ وقت ليس ببعيد، أن نتفاوض فيما بيننا بطريقة فعّالة. فما الذي يحدث بعد سنوات المدرسة؟ أين تضيع كلماتنا المشتركة ونظرتنا الواحدة للمستقبل؟ وأين هي، بالتالي، الحقائق المشتركة التي تجمعنا في حياتنا اليومية؟ أين هي الجذور اللغوية المشتركة بين الجميع؟ ومن أين لنا، بعد هذا، صورة مشتركة للعالم يفهمها الجميع؟ " (ص: 18)
يلاحظ المؤلف أنَّ التواصل الاجتماعي لا يتم بمجرد أننا نعيش بجوار بعض. ويرى أن الحياة المشتركة التي تقوم على أساس التفاهم مشكوك في وجودها في عالمنا المعاصر. إن العالم الاجتماعي ينهار، والناس اليوم محبوسون في صناديق يسمونها شققا وبيوتا، كما أن طرق الحصول على المعلومات مختلفة فيما بيننا. ليس هناك ما يضمن أن يعيش جارك في نفس العالم الذي تعيش فيه أنت. لذلك، فإنَّ حقيقة الجوار التي ضمنت سابقًا القواسم المشتركة للعالم الاجتماعي، لا ضمانة لها اليوم عملياً، ولم يعد من المستغرب البتة أن يكون عدم الفهم هو السائد بين الجار وجاره، وأن يفاجئ أحدهما الآخر بتصرفات غير مُتوقعة.
ويخلص الباحث إلى أن المدرسة باعتبارها مجالا مشتركا للجميع تشهد تناقصا مستمرا، علاوة على أنها تفقد موقعها أمام وسائل الإعلام بصورة مضطردة. يقول الكاتب: "إن وظيفة تكوين صورة للعالم تتنقل ببطء بين مختلف المؤسسات الاجتماعية. كانت الأولوية للمدارس ثم أضيفت إليها الصحف ثم التلفزيون واليوم ينفسح المجال لأشكال جديدة. في السابق كان التعليم يقدم نوعًا من الصورة الفقيرة للعالم ولكنها كانت حقيقية. والآن المصدر المهيمن لصورة العالم هو الإعلام. وهذه الصورة ليست لنقل الحقائق الموثوقة ولكن للتخدير والطمأنينة ولخلق الثقة في عالم غير مستقر ومحفوف بالمخاطر. والحق يقال إن صورة العالم التي تبثها وسائل الإعلام مبنية بشكل مختلف تمامًا عن الصور التي تنقلها المؤسسات التعليمية. المشكلة ليست أن الكثير من الحقائق التي تبثُّ خاطئة، بل الأهم من ذلك أن يتم تقديمها على هيأة فوضى من الأخبار أو حزمة من الحقائق العشوائية. هناك تناسق في الرسائل الإعلامية لكن الغرض من هذا الاتساق ليس تكوين صورة حقيقية للعالم، وإنما تقديم هذا الاتساق عن طريق الصدفة وعدم التوقع، بحيث لا يلمح المشاهد هذا الاتساق. نتيجة لذلك، فإن متلقي الصورة الإعلامية للعالم محكوم عليهم بالتشرذم، وإن بدا هذا التشرذم أمرا طبيعيا ومعتادا يتعرض له المرء منذ نعومة أظفاره. إن الناس، وبكل بساطة، لا يتلقون تعليمًا عاديًا وصورة منظمة وواعية للعالم، مما يسمح لهم بالبحث عن الثغرات والأخطاء وعدم الترابط وتعلم أشياء جديدة".
وينتقد ليوبارسكي التخصص المبكر للأطفال الذي دخل حياتنا مؤخرا والذي اكتسب شعبية في السنوات الأخيرة في روسيا. يتعلم الأطفال البرمجة من سن الرابعة أو ينخرطون في وقت مبكر جدًا في دورات خاصة في الرياضيات! الرأي السائد هو أن عامل الوقت حاسم في سوق التخصص والمنافسة فيه على أشدها ولا يمكن الدخول إلا بامتلاك خبرة مسبقة، والحال كذلك، فكل ما يمكن فعله هو البدء فورا في الممارسة التطبيقية وذلك من أجل الاستعداد للمهنة المستقبلية وإتقانها، فتكون النتيجة: متخصصٌ أكثر خبرة ونضجًا يتمتع بميزة تنافسية ... مع ذلك يطرح ليوبارسكي أسئلة تجبرنا على التفكير: هل نحن على الطريق الصحيح؟ ما هو هذا التخصص الذي ينبني على انتقاص جوهر المدرسة؟ ما الذي سيحل محل المعرفة العامة؟ ويوضح قائلا: "يكون التعليم ممكنًا عندما يمتلك المُعلم تصورا واضحا للقيّم العامة ويسعى لتطويرها، وما هي العوائق التي تقف في طريقه. إن التعليم الخاص المبكر لا يفعل شيئا إلاّ إغلاق الباب أمام العديد من الفرص العلمية والتربوية (...) وفي هذه المتاهة الكئيبة التي ينخرط فيها علم نفس الطفل وعلم التربية وبعض العلوم الأخرى لا نعرف حتى الطرق العامة لاجتراح الحلول واتخاذ القرارات الصائبة. إن مدرسة التعليم العام اليوم تبني خططها التعليمية الجديدة للفصول الابتدائية والاعدادية والثانوية بعد أن عصبت عينيها عن الوظائف الحقة للمدرسة، أما النتيجة فأجيال من الطلبة الذين لا يستطيعون التعامل مع أمور حياتية بسيطة ولا مقدرة لهم على اتخاذ قرارات هامة" (ص: 84)
يتحدث المؤلف عن الجامعة في القرن التاسع عشر باعتبارها صرحا نخبويا يتمتع بروح العلمية الخالصة، بينما تتسم جامعة أواخر القرن العشرين حسب رأيه بالطابع الجماهيري والتسويقي والتعليم الجماعي عن بعد، أما جامعة القرن الحادي والعشرين فيصفها بكلمات مثل التفرقة والطبقية الاجتماعية والاستقلالية التجارية والتعليم الفردي عن بعد والذي يختلف ببرامجه ومستوياته وطرقه من شخص إلى آخر.
يخلص المؤلف إلى أن الطبيعة الجماعية للتعليم العالي وسهولة تلقيه اليوم تنخفض جودته بسبب انخفاض طلب السوق. كما يتجه التعليم العالي الجماعي إلى النطاق الإقليمي، حيث يكون موقع الجامعة مجاورا لسوق العمل. ومن ناحية أخرى، يشهد التعليم العالي الجديد تطورا غير تقليدي، حيث يتم إعداد نخبة متنقلة مفصولة بحواجز عن المجتمعات الإقليمية. ومع تطور التسويق التجاري تنتقل الجامعات إلى وضعية المؤسسات المالية، وتصبح الجامعة مؤسسة مستقلة اقتصاديا، تبيع نوعًا خاصًا من السلع. وتساوقا مع هذا التطور سيشهد التعليم الفردي عن بعد نقلات نوعية متواترة حيث سيكتسب كل طالب بيئة تعليمية معينة يقوم بتشكيلها وفقا لرغباته.
ويطرح المؤلف تأملاته الخاصة لما يسميه "أمثولة الجامعة الروسية" ويقول: "لا وجود لأمثولة إيجابية تخص الجامعة الروسية تشبه تلك التي تتمتع بها الجامعة الألمانية أو الأمريكية. ولا يجد الروس حاجة لمثل هذه الأمثولة، ولذلك فهم يفوتون الفرصة لخلق أمثولتهم الخاصة، وبالتالي فإن صورة روسيا الجامعية مجهولة حتى الساعة، إذ لا يمكن لأي ثقافة أخرى أن تدرك هذه الأمثولة، مهما كانت إيجابية، ما لم يتم إنشاؤها من الداخل بقصد إبرازها للآخرين". (ص: 245)
أما في واقع الحال فإن أمثولة الجامعة الروسية تمتلك طابعًا وقيمة خاصة فيها. فإذا ما أخذنا عنصر المساواة مثالا، وهو عنصر يختلف من ثقافة إلى أخرى، فرب ثقافة تجده في تكافؤ الفرص وأخرى في المساواة أمام القانون... إلخ، سنجد أن المساواة في الجامعة الروسية ترتبط باكتساب المعرفة. انطلاقا من هذا فإن المعرفة تخلق المساواة، وتكون المُعادلة كالتالي: إننا جميعا نمتلك الحق في اكتساب مقدار واحد من التعليم، وبالتالي فالمعرفة التي نحصل عليها تضمن لنا المساواة في المجتمع. من جهة أخرى فإن الجميع متساوون أمام العلم، الأمر الذي طبع صفات العالم الروسي بالتواضع وقبوله العمل في ظروف بسيطة. وإلى جانب المساواة يأتي عنصر الأمن الذي يكتسب قيمة كبيرة في عالمنا الحديث. ومرة أخرى، يختلف هذا العنصر باختلاف المجتمعات والثقافات. فهناك من يتعامل مع احتمالية وجود المخاطر تعامله مع الخطر نفسه ويعمل باستمرار لإبعاد مسببات وقوعها. أما في الجامعة الروسية فتكمن قيمة الأمن في التحرر من الخوف. وهكذا، ولأن الزيادة في التدابير الأمنية تفاقم الشعور بالخوف، ترفض الجامعات الروسية زيادة تلك التدابير، ولا تريد لنفسها أن تقع تحت غائلتها. وفي مقابل ما تشهده الكثير من جامعات العالم من تدابير أمنية تصل حد المبالغة، وذلك للتقليل من احتمالية وقوع المخاطر، نجد الجامعات الروسية باقية على نهجها في محاربة المخاطر جنبا إلى جنب مع مجابهة الخوف منها. فكما ذكرنا فإن غياب الخوف هو لبُّ المفهوم الأمني لديها وتتقدم أهميته على غياب الخطر.
أخيرا تطبق الجامعة الروسية سياسة تبدو ديموقراطية فيما يتعلق بالقبول والتسجيل فيها، فللجميع الحق في التقدم بأوراق انتسابه، ولكن ثمة عقبة لا يستطيع الجميع اجتيازها، ألا وهي اجتياز امتحانات القبول التي عادة ما تكون مصممة لاختيار النخبة.
---------------------------------------------------
الكتاب: التعليم في المستقبل.
المؤلف: جيورجي ليوبارسكي .
دار النشر: جمعية النشر العلمية/ موسكو/ 2020.
اللغة: الروسية
عدد الصفحات: 526
*أكاديمية ومستعربة روسية
