عالم من دون عمل

81G-ACi1OLL.jpg

دانيال سوسكند

محمد السماك

يروي هذا الكتاب قصة علاقة الإنسان بالعمل. وتحديداً علاقة الإنسان بالآلة التي يعمل هو نفسه على إنتاجها وتطويرها، والتي يعمل بواسطتها لكسب قوت يومه وبناء مجتمعه وتطويره. ويرسم الكتاب علامات استفهام كبيرة ومقلقة حول مستقبل هذه العلاقة، وحول المُستقبل الإنساني القائم على أساس العمل بواسطة الآلة، وذلك من خلال التطورات المتلاحقة والمتسارعة في الإنتاج الإلكتروني الحديث.

إنَّ هذه التطورات تنعكس بصورة عميقة ومباشرة على فلسفة التعليم وليس على منهجيته فقط. فالتعليم ليس مجرد أداة معرفية أو الأداة المعرفية ولكنه أداة معيشية –أداة للحياة- أيضاً. وهو ما يلقي هذا الكتاب الضوء عليه بشكل أساسي.

ليست العلاقة بين العلم والحياة علاقة جديدة وطارئة. لقد بدأت مع بداية إنتاج الآلة. ولكنها تتخذ اليوم أبعاداً اجتماعية وإنسانية واسعة وعميقة لأنَّ الآلة الإلكترونية ولو أنها صناعة إنسانية، فإنها بدأت تتجاوز حدود الذكاء الإنساني.. حتى إنها دخلت مرحلة التطوير الذاتي .. والتفوّق المعرفي.

ولتقديم هذا الموضوع في العام 2020، تجدر رواية القصة التالية: في عام 1589 اخترع عالِم بريطاني يدعى "وليم لي" آلة الخياطة. وتقدم بطلب إلى القصر الملكي للحصول على براءة الاختراع. كان ذلك في عهد الملكة إليزابيث الأولى. درست الملكة الطلب وردت بما يلي ترجمته حرفياً: "تصور نتائج هذا الاختراع على رعيتي الفقراء. لا شك في أنَّه سيؤدي بهم إلى الهاوية، لأنه سوف يحرمهم من العمل". إلا أن إنتاج ماكينة الخياطة لم يتوقف، ولكنه واصل تطوره مع تقدم العلم وانكشاف آفاق المعرفة. حتى أصبحت "يوركشاير" مصدراً لإنتاج الأقمشة التي غزت أسواق العالم كله.

مع ذلك، استمرت هذه العقلية حتى القرن التاسع عشر. حتى الرئيس الأمريكي الأسبق جون كندي حذّر مما سماه "مخاطر المكننة" خلال حملته الانتخابية في عام 1960. وفي الهند خاضت الأحزاب السياسية الانتخابات على قاعدة "وقف المكننة"، أي التطور العلمي. مع ذلك فإنَّ العقل الإنساني لم يتوقف عن التحدي. وتمثلَ ذلك في مزيد من المكننة وفي مزيد من تطويرها والتمسك بها.

وفي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، انتقلت الثقافة التحذيرية والتخويفية من الآلة العادية إلى أجهزة الذكاء الاصطناعي التي يخشى أن تحل تدريجياً حتى محل الطبيب في غرف العمليات الجراحية.. وحتى محل المحامي في إعداد أطروحات الدفاع عن القضايا الحقوقية أمام المحاكم. وينشر الكتاب دراسة إحصائية تقول إن 30 بالمائة من الأمريكيين يعتقدون اليوم أن الآلة –الإلكترونية- سوف تحل محلهم وخلال فترة حياتهم.

ليس هذا الكتاب هو الأول للمؤلف سوسكند الذي يعالج فيه هذا الموضوع. فقد سبق أن صدر له بالاشتراك مع والده "ريتشارد" كتاب بعنوان "مستقبل المهن" The Future of Proffessions. وفيه ركز المؤلفان –الأب والابن- على الأخطار التي يشكلها تطور إنتاج أجهزة الذكاء الاصطناعي على مهن فكرية راقية مثل الطب والمُحاماة والهندسة، وحتى التدريس الجامعي. أما الكتاب الجديد الذي نحن بصدده هنا، فإنه يركز على بعْد آخر، وهو التأثير العميق والمباشر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

يقول المؤلف إن العلاقة بين الإنسان والآلة كانت تتمحور حول عاملين أساسيين؛ العامل الأول هو الاستبدال. أي استبدال الآلة بالعامل الإنساني، الأمر الذي أدى إلى خسارة وظائف وتالياً إلى تغيير أسلوب الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية؛ أما العامل الثاني فهو التكامل، بمعنى تمكين العامل من الإنتاج أكثر بوقت أقل وبنوعية أفضل.

هنا يدق المؤلف جرس إنذار يقول فيه إن العامل الأول –أي الاستبدال- هو المرشح أكثر لأنه يسود ويفرض ذاته. بمعنى أن تحلّ الآلة محل العمل الإنساني، مما يؤدي حتماً إلى ارتفاع حاد في نسبة البطالة، وبصورة خاصة في المجتمعات المتقدمة.

ويرى المؤلف أن سرعة واستمرارية تطور الآلة في الإنتاج الأفضل نوعاً والأكثر كمية،  تتواصل بشكل يتعذر معه على الإنسان اللحاق بها بعقله وبيده. وبالتالي فإنَّ الإنسان معرّض لأن يصبح ضحية الآلة التي أنتجها .. أي ضحية نفسه !!.. ويرى المؤلف أنه نتيجة لذلك ستقوم طبقة اجتماعية جديدة من الذين ينتجون هذه الآلات المتطورة ويسيرونها، والذين سوف يحظون بعوائد مرتفعة جداً تدفعهم إلى قمة هرم الأثرياء في دولهم وفي العالم الذي يكاد يصبح سوقاً واحدة . ويرى أنه ستقوم بالمقابل طبقة أخرى واسعة جداً من الذين حلّت الآلة محلهم والذين سيتدحرجون إلى أسفل درجات السلم الاجتماعي من حيث الدخل. من هنا أهمية إعادة النظر في التعليم، فلسفةً ومنهجاً.

يضع المؤلف إصبعه على جرح المستقبل قبل أن يبدأ بالنزيف. فيقول إن هذا السيناريو –الذي يبدو حتمياً بالنسبة له- يتطلب تغييراً في التفكير السياسي ومقاربة مختلفة لاحتواء النتائج والعواقب التي لا بد أن تترتب على ذلك . فيقترح مثلاً أن تؤمّن الدولة حداً أدنى من الدخل للذين استولت الآلة على أعمالهم كلياً، أو جزئياً . على أن يتم توفير هذا الدخل الإضافي من فائض العائدات الضخمة التي ستكون من نصيب منتجي ومالكي الآلات الحديثة . بمعنى أن ترفع الدولة نسبة الضريبة على الدخل المرتفع، وأن تخفضها على الدخل المنخفض –حتى الإعفاء- تحقيقاً للتوازن وللاستقرار الاجتماعيين . ومن ذلك أيضاً أن تتولى الدولة التي تجبي ضرائب مرتفعة من أصحاب الدخل المرتفع جداً، تقديم الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية للفئات العاجزة نتيجة التحوّل من الآلة اليدوية إلى الآلة الالكترونية !!..

ويعالج الكتاب زاوية أخرى سوف تواجهها المجتمعات المتطورة في العالم، وهي الفراغ . فالاعتماد على الآلة الحديثة يوفر مزيداً من الوقت الحرّ . وسيكون من العبث إضاعة هذا الوقت –كما يقول المؤلف- في العبثيات واللهو أمام شاشات التلفزة، أو حتى أمام الأجهزة الذكية للتواصل. ويقترح إعداد برامج للعمل في ميادين التعليم والخدمة الاجتماعية الإنسانية . وهذا سبب آخر له أبعاد اجتماعية وإنسانية يحتم ضرورة إعادة النظر في فلسفة التعليم، وكذلك إعادة النظر في الأولوليات التي يقوم عليها .

تتباين هذه النظرية مع نظرية عالِم الاجتماع "روجر بوتل" Roger Bootle  ؛ ففي كتاب له صدر في عام 2019 عنوانه :" اقتصاديات : الذكاء الاصطناعي : العمل، الثروة، والاطمئنان في عصر الآلة الالكترونية " The  Economy : Work, Wealth, and welfare in Robot Age، قال بول :" إن الذكاء الاصطناعي والآلات الالكترونية سوف يطوران الإنتاج والنمو الاقتصاديين، وإنهما سوف يحرران الإنسان من القيام بأعمال مملة ومتكررة .

أما بالنسبة للحاجة إلى يد الإنسان، فإن هذه الحاجة لن تزول أبداً، وستبقى قائمة ومستمرة بصرف النظر عن مدى التطور الإلكتروني ".

ويقول أيضاً : "كما أن هناك حاجة إلى الآلة لتقسيم رغيف الخبز إلى قطع، هناك حاجة أولاً إلى اليد لإنتاج الرغيف !".

من هنا السؤال: أي النظريتين على حق ؟ وأيهما على خطأ ؟

إن المستقبل كفيل بالإجابة. والمستقبل يقف خلف الباب.

وبالفعل فإنَّ البطالة في المجتمعات المتقدمة خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك في اليابان وكوريا الجنوبية والصين، لم ترتفع نسبتها نتيجة للتقدم التكنولوجي . فأرقام البطالة صعوداً أو هبوطاً ليست مرتبطة بالضرورة بالاعتماد على أجهزة الذكاء الاصطناعي أو على الآلة . ثم إن المزيد من الإنتاج أثبت أنه لم يؤدِ إلى المزيد من السعادة أو حتى إلى المزيد من الشعور بالاكتفاء . فالقضايا متداخلة إنسانياً وآلياً، فردياً واجتماعياً . من أجل ذلك يعترف المؤلف أن المشكلة تكمن في طي صفحات المستقبل . وهذه الصفحات لن تكشف عن ذاتها، أو لن ينكشف ذاتها إلا في المدى البعيد . غير أن على الإنسان، وخاصة على علماء الاجتماع وعلماء المستقبليات أن يلقوا الأضواء على هذا الأمر وأن يعدّوا المجتمعات الإنسانية للتعامل معه ولمواجهة نتائجه بكل ما قد يكون فيه من سلبية أو إيجابية، وأن لا يتركوا الأمر حتى يصبح واقعاً، فيأخذ الإنسانية على حين غرة .

وبالفعل فالتطور الإلكتروني يتسارع الخطى ليشمل مرافق الحياة كافة، وعلماء الاجتماع يلهثون وراء نتائجه وتداعياته المتسارعة. حتى النظريات التي يصيغونها سرعان ما يعاد النظر فيها، وسرعان ما تتعرض للانتقاد بعد أن تكون قد استُقبلت بالترحيب الحار والتصفيق الشديد، كما كان الأمر مع النظرية التي أطلقها مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده "دانيال سوسكند" حول عالم من دون عمل.

فإذا ما أعدنا قراءة ردّ فعل الملكة اليزابيت الأولى في عام 1589 على اختراع آلة الخياطة في ضوء تطور الحاجات الإنسانية إلى آلات الخياطة الحديثة، نجد أن مشكلة الإنسان ليست في الاختراع من حيث المبدأ ولكن في استغلال الاختراع وفي سوء توظيفه .

وفي الحسابات الأخيرة فإنَّ كتاب "عالم من دون عمل"، كغيره من الكتب العديدة التي يشكل تكاثرها ظاهرة اجتماعية بحد ذاتها تحثّ على إعادة النظر في فلسفة التعليم، هو قراءة في المستقبل وليس تنجيماً لما قد يحمله المستقبل؛ فالمتغيرات تتسارع مع تسارع حركة الاختراع العلمي والاستيعاب الإنساني له وكذلك مع قدرته العلمية على توظيفه في تحقيق الحاجات والمتطلبات المُتزايدة مع تزايد عدد سكان الكرة الأرضية.

وأقل ما يُمكن أن يُقال في هذا الكتاب وأمثاله، أنه يفتح نافذة لرؤية المستقبل بصورة أفضل .. وليس بالضرورة لصناعة المستقبل بشكل أفضل. فالذين يصنعون في واد .. والذين يصفون هذه الصناعة في وادٍ آخر.

----------------------------------------

الكتاب : عالم من دون عمل

المؤلف : دانيال سوسكند

الناشر : Metropolitan Books

عدد الصفحات : 307

تاريخ النشر : 2020

 

أخبار ذات صلة