مربو الأمس واليوم- أنطونيو بانفي: فلسفة التربية، كتابات مختارة

Picture1.png

 ماسسيمو بالداتشي

 فاتنة نوفل

خلال ما يقرب من أربعين عامًا "من بداية هذا القرن إلى الحرب العالمية الثانية" من الهيمنة المثالية في المجال الفلسفي، ظهرت مواقف فكرية أخرى في إيطاليا ونضجت بعض البدائل النظرية المرتبطة بمجموعات ومدارس من أصول مُختلفة. من بين هذه التوجهات غير المثالية، تحتل العقلانية النقدية لأنطونيو بانفي مكانة مركزية لاتساع أفقها الثقافي والتخميني وثمار تطوراتها.

ولد بانفي عام 1886 في فيميركاتي "ميلانو" ودرس في ميلانو تحت إشراف الفيلسوف الكانطي بييرو مارتينيتي وفي عام 1910- 1911 تابع ندوات لسيميل وهوسرل في ألمانيا. عمل مدرساً لعدة سنوات في المدارس الثانوية، وعمل أستاذا في جامعة ميلانو من عام 1939 حتى وفاته عام 1957. من أعماله الرئيسية الفلسفة والحياة الروحية 1923، ومبادئ نظرية العقل 1926 والرجل الكوبرنيكي 1950. أُعِيدَ نشر كتاباته التربوية الرئيسية بما في ذلك التيارات التربوية الألمانية المعاصرة ومشكلة النظرية الفلسفية للتعليم عام 1925 تحت عنوان "علم أصول التدريس وفلسفة التعليم".

كان الفيلسوف أنطونيو بانفي من بين الأوائل الذين قدموا التيارات الفكرية الرئيسية القادمة من الفلسفة الألمانية في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين في إيطاليا، من الظاهراتية لهوسرل وسيميل وشيلر ومن ثم اقترب من فكر ماركس. قام بانفي، القادم من فكر المثالية المتعالية لمارتينيتي المتأثر بكانط بتطوير فلسفة عقلانية معارضة لفكرة العقل المتزمت، إذ يقترح الفيلسوف عقلانية معادية للأصولية المتزمتة مطلوب منها القيام بمهمة عالمية نقدية في مجال المعرفة ليصل أنطونيو بانفي إلى مرحلة النضج في فكره التربوي في نهاية إعداد دقيق لتأمله في علم أصول التدريس الألماني المعاصر والتَحَقُق من إمكانية تطبيق الظاهراتية المتعالية والتمييز بين فلسفة التربية والتعليم العملي التي يعتبرها ضرورية لنقاء ودقة النظرية وإلى مرونة الممارسة. يركز بانفي على مؤلفين متوافقين تمامًا مع رأيه لمفهوم الطبيعة الإشكالية للتعليم وهما سيميل وكابوني لبحثهما في التمايز في عالم الثقافة للنظام التعليمي ومشاكله الخاصة من خلال الاتصال ورد الفعل مع الجوانب الثقافية الأخرى وامتدادها إلى جميع أشكال الحياة.

تجربة المقاومة كانت مهمة أيضًا بالنسبة لبانفي والتي ساعدت على تعزيز التحول في المعنى الماركسي لعقلانيته النقدية ودفعته في فترة ما بعد الحرب على طريق التزام سياسي قوي أدى إلى تأكيد بانفي على صلاحية الماركسية كنظرية للثورة الاجتماعية وكمبدأ للتجديد الأخلاقي والثقافي في فترة الحرب وأزمة ما بعد الحرب. والواقع أن الماركسية في رأيه تعزز "الموقف النقدي للفكر" وتصبح أغنى أشكال الوعي التاريخي والنشاط الفكري. لينضج التوجه الماركسي في بانفي ليس فقط فيما يتعلق بدراسات وقراءات معينة، ولكن أيضًا فيما يتعلق ببعض التجارب الشخصية والسياسية.

بين عامي 1922 و1943 نظم بانفي وضعه الفلسفي في الإطار العقائدي بشكل أكثر وضوحاً إلى جانب العقلانية الأخلاقية "التعبير من قبل بانفي نفسه" التي تدمج الخبرة والعقل في منظور غير متزمت حيث ينفذ منطق العقل مهمته من خلال ثلاث لحظات: "الجدلية" التي يطور فيها العناصر البديهية للمعرفة من خلال اللغة ويرفعها إلى مستوى العقلانية؛ "الاستدلالات" التي تحدد الأفكار المختلفة باعتبارها قوانين لتنظيم وتطوير الخبرة؛ " الظاهراتية" التي تحدد العلاقة بين الفكرة ومجالات الخبرة والمعرفة المختلفة.

كان جوفانني ماريا بيرتين الأستاذ الفخري في علم أصول التدريس في جامعة بولونيا الإيطالية، هو الذي طور ونشر وتعمق في الإشكالية التربوية وأعاد اقتراح بانفي في التمييز بين علم أصول التدريس وفلسفة التعليم باعتباره الوحيد القادر على إعطاء الكرامة الثقافية المناسبة لكليهما، فضلاً عن تجنب التعريف العام جدًا لفلسفة التعليم مع الفلسفة بأكملها في عمله الرئيسي الذي اهتم أيضًا بالأبعاد الأخلاقية والجمالية والدينية وهو "تعليم العقل" عام 1968.

حيث يقول إنِّه من الضروري البدء من ظاهرة التعليم بمعنى التحليل النظري للعرض التاريخي الثقافي الذي تتحقق فيه المُثُل التربوية. بالنسبة لهيجل، فإنَّ دراسة ظاهرة تَعاقُب الشخصيات التاريخية والثقافية التي من خلالها يتحقق الوعي الذاتي ليُعزز العلاقة الجدلية لهيجل بين العقل والواقع والحاجة إلى التفكير المنهجي الوحدوي في التجربة التي يُنظر إليها على أنها المُهمة الأساسية للفلسفة، والمفهوم الديناميكي الحيوي العملي لهذه التجربة نفسها. وفقًا لشهادة بانفي الخاصة: كان هيجل "أول السادة العظماء" الذين أرشدوني "على طريق التفكير التأملي.

وبالنسبة لهوسرل: يشير المصطلح إلى استعادة معاني الواقع الأكثر أهمية ووضوحًا كظاهرية الوعي لأنه يعتقد أنه من الضروري وضع وجود العالم نفسه بين قوسين كشيء مستقل عن علاقته بالوعي. في هذا المسار يصل بانفي إلى تمييز أساسي بين علم أصول التدريس وفلسفة التعليم:

إن فكرة التعليم لا تُمَثِل بالتالي وجود التعليم لأن التعليم مجموعة من نماذج الظاهراتية الذاتية والموضوعية الإيجابية والسلبية وهو في توترها وعدم اختزالها في حد ذاتها، التوتر وعدم الاختزال الذي يتجلى عالميًا في الوعي مثل العلاقة بين المثالية والواقع والتي لم تنجح أبدًا في المجال التعليمي. حتى في الفلسفة الحالية لتعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية، هناك اهتمام كبير بالظاهراتية خاصة من جانب تلك الأساليب التربوية الملتزمة سياسياً بالنقد الأصولي للمعرفة التربوية والتجريبية المنهجية. ومع ذلك، فإن القاسم المشترك بين كل هذه الخطوط من التفسير الفلسفي للتجربة التعليمية هو عدم اختزال الأخيرة في مجموعة من الحقائق.

إن مبادئ نظرية التعليم بالنسبة لبانفي هي في القدرة على تحديد مفهوم التعليم باعتباره توليفة بين "لحظتين متعارضتين للوحدة المركزية الفردية والعلاقات العالمية"؛ حيث أن العملية التربوية يجب أن تكون مصحوبة بالتطور النفسي للشخص من خلال الإيمان القوي بأن التعليم مرغوب فيه كوسيلة مؤكدة لا غنى عنها لإضفاء الروحانية على الحياة البشرية.

القيمة التربوية والعقلانية القوية هي المساهمة الأساسية للمؤلف في التفكير في التعليم المعاصر، فمن الضروري تثقيف شخصية الرجل العقلاني؛ لإنه الرجل الذي يعيش التناقضات وتحديات العالم التكنولوجي والصناعي والذي يجد نفسه يعمل في المجتمع الذي ولد فيه وينمو ويتشكل، ولذلك يضع بانفي نظريات العبور والتغلب على الأزمة الإنسانية التي تكاد تكون برنامجًا جديدًا للتنوير.

أما عِلم أصول التدريس فإنِّه يتشكل كنظام ناضج وكامل عندما ينتقل من مستوى المبادئ العملية المجردة إلى مستوى التفكير النظري المعياري للوصول أخيرًا إلى "التفكير المثالي" الذي يحدد "الهدف المثالي للتعليم في نقائه وعالميته" وفي دستور كامل ومتناغم للإنسان.

يوجد جانب آخر من أصول التدريس البانتيانية في تصوره للنموذج المدرسي في إنعكاس الأزمة الأخلاقية الاجتماعية على المدرسة كرفض القبول من قِبَل المدرسة للاتجاه التقني العلمي للحضارة الحديثة وفي النظر إلى البرجوازية أنها أنكرت المساواة بين جميع المواطنين في حق التعليم، ووافق بانفي من ناحية أخرى على مدرسة التكافؤ بشروط معينة بينما عارض المدرسة الطائفية. فالحوار فقط ضروري للتعليم بروح نقدية ولكنه يتطلب أيضًا تعليمًا يتضمن معرفة موضوعية للواقع العلمي والتاريخي وتوجها ملموسا لممارسة الحياة الاجتماعية الديمقراطية القائمة على العمل. تم بناء علم أصول التدريس في سياق الفلسفة المتعالية ويُوَجَه تطوره سواء من خلال ربط المؤسسات العالمية بالمؤسسات الفردية والمحددة، ومن خلال تجاوز الأبعاد الملموسة والفردية واستيعاب الإحساس بالتحولات المحددة للفرد ومن خلال البحث عن استقلالية التعليم في جميع المجالات دون أن يحدد نظرية معينة مطلقًا.

 

في مجال الأخلاق، يتعمق بانفي قبل كل شيء في العلاقة بين الروح والفرد، فعندما تدخل عادة جماعية معينة في أزمة، تبرز مشكلة موضوع الإنسان المتمثل في تجديد فكرة الشخص وصورة المجتمع وإعادة ربطهما على أسس جديدة، وهكذا ينشأ توتر بين القيم العامة التقليدية والمطالب القِيَمِيَة الجديدة التي تفضل ظهور الأخلاق كمسؤولية وخيار لتحول شخصي. هناك نظام جديد للمبادئ يتعارض مع الروح القائمة؛ في هذا التناقض يتم تأكيد المبدأ الأساسي للحرية حتى من خلال المشاكل العميقة وفي الوقت نفسه من خلال عمل الفرد ليصل مستوى الروح أيضًا إلى مرحلة النضج.

يبدو أن الأخلاق عند بانفي مرتبطة بمنظور شخصي للغاية تتميز بالطبيعة الإشكالية الحميمة لجميع الخيارات الممكنة للفرد. وبحسب بانفي، فإن التجربة الدينية تُبنى من خلال جدلية غنية ومعقدة تنشأ بين اللحظة العقائدية لتأكيد الإيمان بالله ولحظة الضمير الديني الذي يعيش داخليًا المشاكل المرتبطة بالعلاقة بين الإنسان والله (الخطيئة، الخلاص والنعمة).

من خلال دراساته، اقترح بانفي إعادة قراءة الفلسفة الأوروبية التي وجدت لحظاتها المركزية في التفكير في أشكال الخبرة والثقافة وفي تفسير الأزمة التاريخية للحضارة الحديثة وفي الحاجة إلى إعادة تأسيس الفِكِر وفقًا لوجهات نظر العقلانية المناهضة للأصولية والتعددية. أنتج التدريس الجامعي لبانفي تدريجيًا "مدرسة" حقيقية تطورت بما يتجاوز مواقف المعلم وأيضًا في اتجاهات مُختلفة فيما يتعلق بعقلانيته النقدية لتغذي النقاش الفلسفي الإيطالي حتى السبعينيات. كان ريمو كانتوني وإنسو باشي وجوليو بريتي من أهم دعاة هذه المدرسة، الذين عمّقوا أفكاره حول الفن والجماليات.

أما بالنسبة للعلم، فإنَّ بانفي يفسره على أنه معرفة نقدية تتكون من النظرية والتطبيق والتفكير المنطقي والمنهجي والتطور التقني. من الضروري أن يُدرِك العلم "فكرته" بشكل مُناسب وأن يصبح أكثر صرامة بالمعنى النقدي المنهجي وينظم نموذجًا لـ "العقل العلمي" يبرر التعقيد والتنوع و"المرونة" من هذه الأشكال من المعرفة ويسمح بتقييم النتائج بنفس الطريقة. وبهذا المعنى فإنَّ العلم مستقل عن الفلسفة ولكنه يعود بالضرورة إليها باعتبارها ضمانة خاصة له حيث يسعى إلى دمج عالمية قوانينه وأنظمته الفئوية.

فِكْر بانفي، يفترض أنَّ للفلسفة دورًا بارزًا في تأليف إشكالية الطبيعة في التجربة والتعبير من خلال العقلانية المتعالية التي يتم تغييرها في مختلف مجالات المعرفة.

تشير الإشكالية والظواهر إلى العقلانية النقدية التي تهدف إلى التحقيق في المعرفة والعمل وتفسيرها ليس في اتجاه دستور ميتافيزيقي أو علم ما وراء الطبيعة، بل نحو معرفة عملية وتخطيطية ومتسامية تُفْهَم على أنها نمو وبحث، وهي تفعل ذلك في معارضة شديدة لإدعاء المنهجية؛ ويبدو أنَّ هذا هو الاتجاه الذي يتخذه جزء من الفكر المعاصر من التفسير إلى التأويل. لا تتكون هذه النماذج من مبادئ أو قيم عالمية مجردة ولكنها تعمل في واقع إنساني وتاريخي ملموس وتتخذ مجموعة كبيرة ومتنوعة من الجوانب والمعاني، أما الفلسفة فهي تُفهَم في المقام الأول على أنها وعيٌ عقلاني للعلاقة المعقدة بين التجربة المعاشة والأشكال الروحية، تتمثل وظيفتها الأساسية في استيعاب وتحليل ما يتعلق بمختلف مجالات الثقافة في كل من افتراضاتها المسبقة وهياكلها التأسيسية وظواهرها الثرية، حتى مفهوم الجمال هو "نتاج غير مستقر لجدلية متجددة باستمرار بين القاعدة المثالية المجردة ومنظومة الذوق والحكم الفني ".

----------------------------------------

العنوان: مربو الأمس واليوم- أنطونيو بانفي: فلسفة التربية، كتابات مختارة

المؤلف: ماسسيمو بالداتشي

دار النشر: كونوششينسا

بلد الإصدار: إيطاليا

لغة الكتاب: الإيطالية

تاريخ الإصدار: تشرين الثاني 2019

عدد الصفحات: 212

 

أخبار ذات صلة