أوليفيا شامبار
سعيد بوكرامي
منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازداد الوعي بـ "ريادة الأعمال" وأنظمة التدريب على مهاراتها في مستويات التعليم العالي جميعها. من أين أتت هذه التعليمات المُتزايدة لتثقيف الشباب على "روح المقاولة"؟ ما هي القيمة المضافة التي يضيفها هذا المنهج التعليمي إلى العالم الاقتصادي وللعمل الجامعي؟ ما هي الرهانات السياسية والاقتصادية وراء صناعة مهن الريادة؟ وهل لليبرالية الجديدة مطامح إيديولوجية وراء تدويل هذا المنهاج التعليمي ودعمه بلوجيستيك من الموارد والوظائف؟
بناءً على دراسة استقصائية استغرقت سنوات من البحث تجمع بين المقابلات والملاحظات والأرشيف، يتتبع كتاب أوليفيا شامبار نشأة هذا المشروع التعليمي وفلسفته وطرائق نشره في الجامعات والمدارس الفرنسية الكبرى - لا سيما من خلال تخفيض قيمة المعرفة النظرية لصالح "الدراية التقنية" و"المهارات الشخصية" التي من المفترض أن تكون سريعة المردودية في العالم الاقتصادي، نظراً لاعتمادها معايير جودة العمل والإنتاجية في المؤسسات ذات الطابع المقاولاتي.
وهكذا ينشر المشروع التربوي تحت شعار "ريادة الأعمال" ويساهم في نشر الأيديولوجية النيوليبرالية. وإذا كان هذا النوع من التعليم يوهم بأنَّ الجميع يمكنه القيام به، فإنِّه يهيئ أولاً الفئات الأقل موهبة من الشباب المتخرجين لشغل مناصب محفوفة بالمخاطر على هامش نظام الأجر (ريادة الأعمال الصغيرة، على سبيل المثال) بينما يسمح للشباب المحظوظ للوصول إلى وظائف مستحدثة ومجزية (في عالم الشركات الناشئة على وجه الخصوص).
وهكذا يُفهم التعليم العالي على أنَّه يقوم بدور غير مسبوق كمختبر للأيديولوجيات الرأسمالية - عندما كانت الجامعة، على الأقل منذ عام 1968، مكانًا للنقد الاجتماعي - ولكن أيضًا "هدفا" لتحقيق النماذج التعليمية التكوينية والتثقيفية التي، من خلال اختراقها، تخربت جزئيًا أهدافها وأنماط عملها. تدرس أوليفيا شامبار طرائق استخدام تعليم ريادة الأعمال في التعليم العالي الفرنسي، الذي بدأ منهاجه في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبحيث يُقدم كبرنامج للتنشئة الاجتماعية للطلاب على "روح المقاولة والمنافسة على الريادة"، التي تأسست كروح جديدة للعامل المعاصر "(ص 288). يركز الكتاب على تحليل تقاطع العلوم السياسية وعلم الاجتماع التربوي وعلم الاجتماع الاقتصادي، وبشكل أكثر دقة على نشأة وتشغيل ثمانية أنظمة للتوعية والتدريب على ريادة الأعمال في الجامعة، التي تعتمد على نظام (ثلاث وحدات منتظمة، وثلاث دبلومات وماستر في الأعمال التطبيقية الموجهة، كشكل من أشكال التدريس الذي يجعل من الممكن تطبيق المعرفة المكتسبة أثناء الدورات النظرية أو تقديم مفاهيم جديدة . يعمل الطلاب بشكل فردي على تمارين التطبيق أو الاكتشاف، بحضور المدرس، الذي يتدخل للمساعدة في التمارين وتصحيحها، كما تنجز الدروس في إطار مجموعة صغيرة، بحيث يمكن للمدرس أن يساعد الطلاب بشكل أكثر سهولة مكيفا تدخلاته على الصعوبات التي يواجهونها).
يقدم هذا الكتاب نتيجة مسح نوعي طويل الأمد أنجز ما بين عامي 2009 و2017. ويستند إلى مواد تجريبية كثيفة (أرشيفات، مقابلات، ملاحظات، استبيانات) وعلى مجموعة من المعارف العلمية البارزة. بحيث يهتم الفصل الأول بنشأة التعليم من أجل ريادة الأعمال وترى المؤلفة أنه يعتبر أولاً وقبل كل شيء قضية سياسية حديثة تاريخياً، لهذا يسمح لنا التاريخ الاجتماعي برؤيته على أنه نتاج "مشروع منتشر على مستوى النخب الجامعية، لكنه لم يتحقق تعميمه إلا بقدر يسير" (ص 71) بقيادة تحالف متنوع من التكنوقراط ورجال الأعمال والأساتذة الجامعيين. وبذلك يمدد تعليم ريادة الأعمال المشروع التاريخي لبرجوازية الأعمال لجعله أقرب إلى متطلبات عالم الأعمال وسوق الشغل. هذه الميولات الإصلاحية المتذبذبة، التي يمكن ملاحظتها بالفعل في النظام القديم، شهدت انعطافة جديدة في السبعينيات. بعد أن دافعت عن مفهوم "ملائم ما بين الدراسة والممارسة" (ص 42) في التعليم العالي الذي يجب أن يكون لديه قدرة على تلبية الاحتياجات القوى العاملة للشركات، وبذلك يتحول نشاط أرباب العمل إلى تعزيز روح المبادرة، والذي يقدم كوصفة علاجية للركود الاقتصادي الموروث من الصدمات الإقتصادية المتعاقبة. لقد اعتمد منذ الثمانينيات هذا "التأطير التعليمي" (ص 50) تدريجيًا من قبل المنظمات الدولية (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والمفوضية الأوروبية) والمدرسين في كليات الأعمال الباريسية، المستوحاة من الصعود الباهر للدراسات حول ريادة الأعمال القادمة من وراء المُحيط الأطلسي. وقد شهد أخيرًا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أخيراً هيمنة الإدارة الفرنسية على مشروع تعليم ريادة الأعمال من خلال وزارتي الاقتصاد والمالية من جهة والتعليم العالي والبحث العلمي من جهة أخرى.
يبحث الفصل الثاني في تعليم ريادة الأعمال من منظور علم الاجتماع السياسات العمومية، وتتعلق دراسته أكثر تحديدًا بمخطط طلاب رواد الأعمال، الذي عرف انطلاقته في عام 2009 وتعزز في عام 2012 من قبل الأغلبية الجديدة، وكان المقياس الرئيسي لها هو إنشاء أقطاب رواد الأعمال. وقد كان ملف تعليم ريادة الأعمال حتى ذلك الحين من مسؤولية الدوائر الوزارية المسؤولة عن البحث والصناعة، لكنه في النهاية أصبح من مسؤولية التعليم العالي، كجزء من مهمة إذماج الطلاب الطامحين للريادة في الأعمال والمقاولات وبذلك تتمكن مؤسسات التعليم من "إعادة التأهيل التربوي لسياسة تشجيع روح المبادرة" (ص 75) يُعد تعليم ريادة الأعمال أيضًا أحد الأمثلة على "السياسات الصغيرة" (ص 94)، التي تُعاني من ضعف التمويل والإشراف من قبل المكاتب الوزارية. وقد يوفر التجديد الإداري استقلالية معينة للأطر الوسيطة المسؤولة عن الملف، وكذلك الجهات الفاعلة خارج الدولة التي يعتمد عليها (مديرو المؤسسات، ومعلمو الإدارة، وممثلو أرباب العمل، إلخ..). تقوم هذه السياسة على أساس الحافز وليس الإكراه، عبر المُنافسة بين المؤسسات من خلال عروض المشاريع. وبهذه الطريقة، فهي تدين بجزء من نجاحها إلى النقص المزمن في تمويل الجامعات، مما يجبرها على مُمارسة لعبة المنافسة على الرغم من انخفاض مستوى المُساعدة.
إن البيداغوجيا الخاصة لريادة الأعمال هي موضوع الفصل الثالث الذي يدرس على وجه الخصوص "التوتر بين الهدم للنموذج المدرسي والتكيف معه" (ص 16) كمُمارسة تعليمية، تجعل من ريادة الأعمال على مسافة بيّنة من التعليم الأكاديمي. يعتمد الاعتماد الممنوح للأطر التعليمية، سواء من جانبهم أو من قبل طلابهم، إلى حد كبير على "شرعية تنظيم المشاريع المقاولاتية" (ص 135)، أي على خبرتهم في إنشاء شركة أو مقاولة. يرسخ المعلمون أيضًا لدى طلابهم الترتيبات المعادية للمناهج الأكاديمية من خلال تحديد أهداف تدريبهم (مما يعطي مكانة كبيرة لمهارات التعامل مع الآخرين)، أو تنسيق الأعمال المطلوبة (في مجموعات وفي حالات الطوارئ) أو منطق التقييم (غلبة الخطاب الشفوي على المكتوب، والتحريض على "الحيل"، ومعايير التسجيل الضمنية، وغير ذلك). وباستخدام كلمات ماكس ويبر، ترى أوليفيا شامبار إعادة تكييف التقرير البيداغوجي للعودة إلى شكل من أشكال الشرعية المؤثرة والجذابة، وذلك على حساب الشرعية القانونية العقلانية التي يقوم عليها النموذج المدرسي. ومع ذلك، فإنَّ دخول ريادة الأعمال إلى الجامعة لا يُمكن أن يتأتى إلا على حساب "تعليم أكاديمي" أو "تعليم مدرسي" معين (ص 194). لقد بني التدبير كفرع من فروع الإدارة تدريجياً باعتباره تخصصًا فرعيًا مستقلاً من خلال تكوين هيئة من المعلمين والباحثين المتخصصين من جهة، ومن جهة أخرى تحديد المعرفة المتوقعة من الطلاب وكذلك طرق نقلها. لذلك، فإن وضعها المتناقض كنظام معادٍ للتوجه الأكاديمي هو الذي يمنح تعليم ريادة الأعمال إمكاناته المهدمة.
أما الفصل الرابع فيستكشف تعدد استخدامات وامتلاك تعليم ريادة الأعمال من طرف الأفراد الذين ينظمون انتشار نموذجه البيداغوجي. وتُؤكد المؤلفة على الغموض السياسي لهذا البرنامج التعليمي، كما تستنتج أنَّ قدراته على المرونة ليست كاملة. تشترك بعض استخداماته في التقارب الواضح مع الليبرالية الجديدة. إن أنصار "الاستخدام الاقتصادي"، على سبيل المثال، يقومون بإضفاء الطابع الاجتماعي على الطلاب أو ما يطلق عليه "الاتجاه المشترك لليبرالية الجديدة" (ص 211)، أي تدريبهم على مجموعة من القيم والمعتقدات التي تسمح بالتقارب الاختياري مع الرأسمالية المعاصرة. يشير "الاستخدام الداخلي" (ص 231) إلى محاولة بعض الجهات الفاعلة في استخدام ريادة الأعمال في خدمة الإصلاح التربوي والمؤسسي للجامعة. وقد أكسبهم هذا الالتزام أحيانًا دعمًا خاصًا من معارضي "الاتجاه التربوي التقليدي" بالجامعة (ص 234)، مما ساهم في زيادة غموض هذا المنهاج البيداغوجي. وعلى نفس القدر من التناقض، فإنَّ الخطاب المرتبط بالاستخدام "التربوي الاجتماعي" (ص 222) يشتمل على عناصر معينة من "النقد التقني" للرأسمالية، الذي حدد معالمه كل من لوك بولتانسكي وإيف شيابيلو، اللذان أبرزا عدم استقلالية العمل المأجور. يمكن بعد ذلك تقديم ريادة الأعمال كطريقة لتحرير الذات من العمل المأجور عن طريق اتخاذ قرار بشأن نشاطها الفردي واكتساب مؤهلات النجاح في سوق العمل. أخيرًا، قد تظهر الاستخدامات "المحبطة" (ص 239)، مثل العديد من الفاعلين الذين يستجيبون لدعوات الوزارة للمشاريع دون ربطها بقيم أخلاقية محددة. ومع ذلك، وبخلاف هذه التخصيصات المتعددة لريادة الأعمال، تصر أوليفيا شامبارد على آليات " استعادة القوة" (ص 256) التي يمارسها هذا المشروع التعليمي على الوكلاء، الذين لا يمكنهم استخدام استقلاليتهم (أو توكيلاتهم) إلا ضمن حدود معينة وُضعت سلفاً بواسطة المصطلحات والدلالات المرتبطة به.
وفي الختم يوضح الفصل الخامس والأخير، المخصص لمكانة التدريبات على ريادة الأعمال في المسارات التعليمية للطلاب، كما تخلص المؤلفة إلى أن "ريادة الأعمال مجرد كلمة" (ص 281)، مبرزة من خلال مقارنة المسارات المهنية للطلاب السابقين المتدربين على ريادة الأعمال أن هذا التدريس يساهم في نهاية المطاف في تعزيز التسلسل الهرمي الاجتماعي للرأسمالية؛ نظرًا للعدد القليل من الملتحقين بهذه الدورات التدريبية، ونخبويته الجامعية. كما أن إنشاء شركة غالباً ما يقدم على أنه طريقة لتجنب العمل المأجور. اعتمادًا على ما إذا كان الأمر يتعلق برغبة حقيقية أم مجرد هروب؛ فإن فرص نجاح الشركة غير متكافئة، لأنها تعتمد أيضًا على ما يتمتع به الأفراد من رأس مال اقتصادي وثقافي واجتماعي. بالنسبة للطلاب الآخرين، فإنَّ أغلبهم ينظر إلى التدريب على ريادة الأعمال على أنه وسيلة تميز اجتماعي يُمكن لأصحاب العمل تقديرها، وبالتالي يصبح التعليم والمهارات والطموح ينحصر في الوصول إلى عمل مأجور بشروط مجزية، وليس هدفاً لتحقيق طموحات صناعية واقتصادية.
يقدم هذا الكتاب الفريد في منهجه وموضوعه رؤية نقدية لتجربة التعليم الجامعي في ريادة الأعمال. من خلال نسج حوار مع العديد من المُفكرين في الشأن التعليمي، من ماكس ويبر وإميل دوركهايم إلى بيير بورديو ولوك بولتانسكي، وكان هدف أوليفيا شامبار من ذلك ليس إبراز هيمنة الأجهزة التعليمية الجديدة التي تسعى إلى بناء بيداغوجيا الريادية ونشر روح جديدة للرأسمالية، ولكن أيضًا في طرائق هدم النظام التعليم المعرفي عامة. في الواقع يفتح هذا الكتاب الجاد وجهات نظر بحثية مثيرة للاهتمام من خلال دراسة إحصائية للمسارات الاجتماعية المهنية للمعلمين والطلاب في ريادة الأعمال، على سبيل المثال، يمكن أن تمتد ملاحظات أوليفيا شامبار على منطق الاختيار المسبق والتوجيه المهني اللاحق إلى ما تنتجه فلسفة التعليم المعاصر من توجهات تقنية وصناعية ومقاولاتية تروم إلى خلق متعلمين يتوافقون مع سوق الشغل ومخططات الليبرالية الجديدة. لهذا ينبه الكتاب إلى أن الجامعة أضحت تدريجيا "مختبرا جديدا للأيديولوجية الليبرالية الجديدة" الذي يتمتع بالدعم والمتابعة، لإنتاج عمالة تقنية تنحصر ثقافتها ووعيها في إطار تخصصها ولا تتجاوزه، وبما أن هذه الفلسفة المقاولاتية تروم إلى امتلاك الصدارة في التعليم، فإن تخصصات العلوم الإنسانية والفنون الجمالة تبدو مناهجها التعليمية وكأنَّ الزمن قد عفا عليها. وبذلك، تظهر هذه الفلسفة التعليمية بصورة راديكالية، وإقصائية، لأنها تنفصل عن جذورها وهويتها بل يجب أن تطور سؤالا دائمًا حول أسس وأسباب وأغراض ظاهرة التعليم عامة التي تهدف إلى تكوين الطالب-المتعلم، بحيث يكون قادرًا على اكتساب مرجعية منفتحة على مختلف المعارف ثم تمكينه من الوسائل المعرفية والمهارية لحل المشكلات المتعلقة بمهنته من خلال تفعيل معرفته في الإنتاج التقني والفكري واليدوي، لا أن نوجه المتعلمين في اتجاه واحد كقطيع لخدمة الرأسمالية الجديدة وبرامجها التوجيهية لصناعة العمالة التقنية التي تزيد من الإنتاج والاستثمار ونمو الأعمال التجارية في الاقتصاد العالمي وتحقيق الأرباح المتزايدة.
-------------------------------------------
الكتاب: الأعمال النموذجية : الجامعة، مختبر جديد لإيديولوجيا ريادة الأعمال.
المؤلف: أوليفيا شامبار
الناشر: دار لاديكوفيرت. فرنسا
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 360 ص
اللغة: الفرنسية.
