«تحرير المدرسة»

Picture1.png

ماركو كامبيونه وإيمانويلي كونتو

عزالدين عناية*

يُشكّل تكوين الأجيال الجديدة لدى أيّ حكومة مسؤولية جوهرية، لأنّ التعويل على التعليم والتربية والتكوين هو من الأساسات التي يقوم عليها تواصل النظام الديمقراطي وتطوّره، جنب متانة النظام الاقتصادي الصناعي. ففي إيطاليا وإلى غاية فترة قريبة كانت المهمّة التعليمية تهدف بالأساس إلى "نقل" المعارف الصحيحة، ولكن تطوّرات العلوم الحديثة أملت ضرورة ترافق نقل المعرفة مع اكتسابها، من خلال توظيف الذكاء النقدي، والبحث، والتعمّق، ضمن عملية تمزج الخطة المعرفية بالخطة التطبيقية.

في هذا الكتاب الموسوم بـ "تحرير المدرسة"، الذي أعدّه كلّ من ماركو كامبيونه وإيمانويلي كونتو، حيث يعمل الثنائي خبيرين في السياسات التعليمية العامة، كما باشرا العمل في سلك التدريس، وسبق أن ساهما في صياغة مشاريع قوانين لإصلاح التعليم. يحاول الخبيران طرح جملة من الرؤى بغرض تخليص المؤسسة التعليمية وتحريرها من سلسلة من المُعوقات التي تحدّ من تطوّرها وفاعليتها. يخصّصُ المؤلّفان القسمَ الأولَ من الكتاب إلى قضايا عاجلة يرتئي كلاهما ضرورة أن تتخلّص منها المدرسة. يأتي في مُقدّمتها إلغاء الرفت المدرسي (الإقصاء التعليمي): فقد راجَ في السنوات الأخيرة حديثٌ عن اعتماد مقاييس الانتقاء والأفضلية والاستحقاق في المدرسة، بما قلّص مساحة التساوي والاحتضان، أي بمعنى، بما أزاح عددا وفيرا من الدارسين جانباً، ودفعهم خارج المؤسسات التعليمية. حيث تتوجّه انتقادات لذلك الانتقاء في المدرسة بوصفها حاوية وشاملة للجميع. وفي واقع الأمر تزيح المدرسة الإيطالية عددًا لا بأس به من التلاميذ، لاسيما في السنتين الأوليين من التعليم الثانوي، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسة لارتفاع معدّل التشتّت التعليمي، حيث تبلغ تلك النسبة ما يناهز 14 بالمئة. الأمر الذي دفع إلى تقديم حلول عاجلة تتمثّل في إلغاء الرفت، وجعْل الأقسام آمنة، بشكل يقي التلميذ الذي يتعثّر في مادة دراسية من إعادة العام الدراسي، وما ينجرّ عنه من تغيير المدرِّسين وزملاء الدراسة. وهذا المقترح الحازم من قِبل بعض البيداغوجيين يسير جنبًا إلى جنب مع ما يُعرف بإلغاء علامات التقييم. ولكن مؤلِّفيْ الكتاب يقلّلان من خطورة ذلك مُقارنة بالطرد المدرسيّ التعسفي، الذي يتهدّد كثيرا من التلاميذ.

ولكن في خضمّ تلك المعايير التقييمية المعتمَدة، أكان للنجاح والترقي، أو لتكرار العام الدراسي، أو للرفت النهائي، لابدّ أن نعيَ أنّ التقييمَ العدديّ لمن يَدْرُس عادة ما يغدو العلاقةَ الوحيدة الرابطة بين المدرِّس والتلميذ وعنصرَ الاعتراف الوحيد بين الطرفين. فالتقييم الفعلي والشامل للطلاب اليوم غير معتمَد سوى من طرف قلّة من المدرِّسين، وأمّا الغالبية فهي تعتمد التقييم العدديّ. ولذلك تتعالى أصوات تنادي بمُراجعة التقييم العددي، المعتمد على إسداء العلامات، ومحاولة الاستعاضة عنه بتقييم مُغاير شامل. في هذا السياق عادة ما يُطرَح نموذج المدرسة الفنلندية التي لا تعتمد تقييم العلامات والأعداد إلى غاية سنّ الثالثة عشرة. وفي إيطاليا جرت أيضاً تجارب مُماثِلة لمدارس لا تعتمد العلامات، كما هو شأن "مدرسة كيارا لوبيش" في مدينة بيزارو. وقد تمّ إجراء تلك التجربة عبر اتّفاقٍ مسبَق وتحاورٍ بين المُدرِّسين وأولياء التلاميذ، وقد أعطت نتائج مُعتبَرة على المستوى النفسي والتعليمي للتلاميذ. صحيح بدت عملية إلغاء العلامات صعبة ومحفوفة بالمخاطر، لكن تبيّن لاحقاً أنّ تطويرَ حسّ المسؤولية لدى التلميذ كان أحد الأسباب في نجاح العملية.

في القسم الثاني من الكتاب، ودعمًا لذلك التمشّي من أجل تحرير المدرسة ممّا يعوق تطوّرها، اقترح مؤلِّفا الكتاب إلغاء تمويل المدارس الخاصة ودعمها، حيث يدور نقاشٌ حول الوظائف والخدمات التي يُقدّمها التعليم الخاص في إيطاليا، والتساؤل عن إمكانية التخلي عنه، سواء بتقليص دعمه أو بإلغائه نهائيًا. يتساءل مؤلِّفا الكتاب: هل المدارس الخاصة تقدّمُ خدمات تعليمية فعلية للدولة والحال أنّ الاعتمادات التي ترصدها الدولة للتعليم العموميّ غير كافية؟ كما أنّ هناك سؤالا يتوجّه إلى المدارس الخاصة: هل تضمن بحقّ حرية التعليم بناءً على ما يصرّح به الفصل 33 من الدستور الإيطالي؟ لا شك أنّ التعليم الخاص موجود في جميع أنحاء العالم: ولكن نسبه مختلفة من دولة إلى أخرى، ففي الصين وفنلندا حيث حضور الدولة في التعليم بارز وحازم، فهو لا يتعدّى نسبة ثلاثة بالمئة، في حين في إيطاليا فهو يبلغ نسبة عشرين بالمئة. لكن تلك المدارس في فنلندا تتلقّى تمويلا عمومياً فقط، باسم التساوي المتاح أمام الجميع.

نشير إلى أنّ المادة 33 من الدستور الإيطالي، في السطر الثالث، تؤكّد على أنّ "المؤسّسات الخاصة لها حقّ تشييد المدارس والمعاهد التربوية، دون دعم الدولة". لكن وبخلاف ذلك النصّ، يجري تمويل المدرسة الخاصة من قِبل الدولة. وعلاوة على ذلك يلاحظ المؤلّفان تفريطا في المدرسة العمومية للخواص، جرّاء توجّهِ الخصخصة المتقدّم في إيطاليا والعالم خلال العقود الأخيرة. ويبرّر القائمون على النظام التربويّ الحالي التناقض الحاصل بشأن صريح الدستور، وواقع تلقّي المدارس الخاصة التمويل الداعم من الدولة الإيطالية، أنّ تلك المدارس تخفّفُ العبءَ الملقى على عاتق الدولة في مجال التعليم والتربية والتكوين. حيث يرتاد تلميذٌ من بين عشرة تلاميذ إيطاليين المدارس الخاصّة: ويتجمّعُ القسم الأكبر منهم في رياض الأطفال، وتقريبا عشرين بالمئة في المدارس الابتدائية، وسبعة بالمئة في المدارس المتوسّطة، وأحد عشر بالمئة في المعاهد الثانوية.

وعلى ما يذكر المؤلّفان، تمّ تخصيص 500 مليون يورو دعمًا للمدارس الخاصة، في القانون الأخير المتعلّق بالميزانية العائد إلى العام 2018، إيمانًا بأنّ المدرسة العمومية ترعى ثمانية ملايين ونصف المليون من المسجَّلين، في حين ترعى المدرسة الخاصة مليون مسجّل. ولو افترضنا غلق المدارس الخاصة أبوابها بشكل فجائي، فستواجه الدولة عبءَ صرف عديد المليارات سنويا لضمان التمدرس لكافة الأطفال والصِّبْية. ودعمًا لخيار المدارس الخاصة جرى إقرار منحة خاصة للعائلات خُصّصت للمدرسة، في منطقة لومبارديا في عهد حكومة الوزير بوسيتي خلال العام 2000، بما سمح للأولياء الاختيار بين المدرسة العمومية والمدرسة الخاصة، بقصد تعزيز التنافس بين المؤسّستين. وبوجه عامّ تشهد المدارس الخاصة في إيطاليا تناقصا، حيث تتراجع الأعداد، ومقارنة بدول أخرى تأتي المدارس العمومية متقدّمة على المدارس الخاصة بشكل واضح.

قضية أخرى أساسية أثارها الكتاب في القسم الثالث، تتعلّق بإعادة التفكير في المنهج التعليمي وفي التكوين المستمرّ للمدرِّسين. فخلال العام 1951، صدر كتابٌ يؤرّخ للمدرسة الإيطالية من تأليف الكاتب الإيطالي لامبيرتو بورغي بعنوان: "التربية والسلطة في إيطاليا خلال الحقبة الحديثة". طرح فيه صاحبه مسألة الاستمرار والتواصل في النظام التعليمي، منذ فترة النهضة وإلى غاية الفترة الفاشية، في ما يتعلّق بإيديولوجيا المدرسة والسياسة التعليمية: فهناك سلطوية متجذّرة، وخطة تعليمية قائمة على سلطة المدرّس بدل المقارَبة التعاونية. لا يزال ذلك الكتاب، رغم مرور سبعة عقود على صدوره، يخاطب أوضاعنا التربوية، وكأنه يعالج قضايانا الراهنة. فمنذ العام 1951 تغيّرت أشياء كثيرة، لكنّ تكوينَ المدرِّسين بقي على حاله. هناك آلاف المدرِّسين الإيطاليين يدرّسون اليوم في المدرسة الإيطالية دون تلقّي التكوين المناسب من ناحية بيداغوجية وتعليمية.

بدت المناداة بضرورة إعطاء أولوية لتكوين المدرِّسين قَبل الشروع في أي إصلاح تعليمي حاسمة وملحّة. حيث غالبا ما يتمّ انتداب مدرِّسين على أساس المعرفة التقنية في المادة المدرَّسة والتخصّص المطلوب، في غياب تامّ لجانب التقييم النفسي، وهو عنصر أساسي في القدرة التواصلية للمدرِّس مع التلميذ ومع المحيط التعليمي. حاول الكتاب في هذا السياق ضرب عديد الأمثلة ذات الصلة بالجانب التواصلي النفسي، وإبراز دورها في إنجاح العملية التعليمية.

ودائماً ضمن مقترحات إصلاح التعليم، ولغرض إنشاء مدرسة حرّة وطليقة، تخلّلت الكتاب دعوة لمراجعة المهمّة التعليمية للمدرِّسين. حيث جرى التأكيد على أنّ تقييم المدرّس المهنيّ ينبغي ألّا يرتبط بتقدّم العمر وبالوضع البيروقراطي، بل من الضروري أن يخضعَ إلى الكفاءة المهنية. وأنّ الانتداب السائد في أوساط المدرِّسين، القائم على التراتبية، هو غير مناسب، بل هو مصدر إجحاف وحيف أحيانا. ولذا لزم التكوين المستمرّ للمدرّسين بوصفه دعامة من دعائم خلْقِ تعليم إيجابيّ وسندا لمهمّة المعلّم والأستاذ. فقد بات من الضروري في عالم اليوم دعْم المدرّس بقدرات تربوية متـينة من العالم الرقمي والتقني. وليست إعادة تأهيل المدرّس تشكيكًا في قدراته أو تدخّلا في نظام سير عمله، بل هي عملية تجديد حتى لا لتكون قدراته عرضة للتقادم.

في قسم رابع من الكتاب انشغل المؤلّفان بمسألة تحديث النظام التربويّ باقتراح جملة من التحويرات، بقصد مواكبة التحولات العالمية، إيمانًا بأنّ النظام التربويّ هو الوسيلة المثلى لبلوغ مستويات من التطوّر الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ومن بين تلك المقترحات:

- العمل على رفع المستوى الثقافي وتحسين المنظور العلمي، أكان بين المدرِّسين أو التلاميذ، مع التأكيد على ترسيخ ثقافة التسامح، وتثمين الاختلاف، وبيان أهمية التعددية، وترسيخ قيمة الحرية.

- العمل على تطوير الحسّ الديمقراطيّ وتفعيل مفهوم المواطَنة الشاملة والواعية.

- تجاوز التقسيم الثلاثي للتعليم المدرسيّ، الابتدائيّ والمتوسّط والثانويّ إلى تقسيم ثنائي. فقد تخطّت جلّ الدول الأوروبية تقريبا التقسيم الأوّل واعتمدت التقسيم الثاني. ففي بعض البلدان، على غرار الدنمارك وفنلندا والبرتغال وإسبانيا وسويسرا، يوجد مستوى تعليميّ أوّلي أساسي يمتدّ من سبع سنوات إلى تسع، وهو ما يشمل المرحلتين القديمتين الأساسية والمتوسّطة. وفي بلدان أخرى، مثل بلجيكا والنمسا وألمانيا، يتمّ الارتقاء إلى المدرسة الثانوية بعد المدرسة الابتدائية مباشرة.

وبشأن المرحلة الثانوية يوضّح الكتاب أنها تاريخيا لم تنشأ كمدرسة للتعليم ولكن بمثابة القناة المؤدّية إلى مختلف المهن، إمّا بالحصول مباشرة على دبلومات في الغرض، أو بطريقة غير مباشرة عبر الإعداد والتأهيل للجامعة، وبالنهاية كوسيلة لتحضير الطبقة المسيِّرة في جميع القطاعات الحيويّة. وفي إيطاليا، وكما هو الحال في فرنسا وألمانيا، لعبت المعاهد الثانوية وظيفة الإعداد للدراسة الجامعية والتأهيل لممارسة المهن التي يُطلَق عليها "المهن الحرّة". ولكن بعد الإصلاحات الكبرى المعتمَدة في الدول الصناعية، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، تمّ هجران تلك المقارَبة وبقي الحفاظ عليها في ألمانيا والنمسا فقط. حيث ساد توجّهٌ نحو إطالة العملية التعليمية الأساسية، وليس المهنية، وتفويض الأمر إلى المرحلة العليا خلال السنوات الأولى من الدراسة الجامعية. وقد بلغ هذا التوجه أعلى تطوراته في النُّظم التعليمية الأنغلوسكسونية -في إنجلترا والولايات المتحدة-، حيث لا تختلف السنوات الجامعية الأولى عن التكوين في المعاهد الثانوية الإيطالية كثيرًا.

فالانسجام بين التكوين المسمّى الثقافي والتكوين المسمّى المهني اليوم، هو مسألة تهمّ كلّ مستوى تكوينيّ، من المدرسة الابتدائية إلى المؤسسة الجامعية، ضمن رؤية دائمة للتربية والتعلّم، تولي اعتبارًا لمسألة ألّا وجود لمجتمع يدرس فيه المرء في مرحلة أولى ثم يعمل مدى الحياة، وربما في المكان نفسه. ومن المقترَحات في الشأن المراوَحة بين المدرسة والشغل. لأن ثمة نظرة أنّ البطالة ليست ناتجة عن الأزمة، ولكن عن فقدان الصلة الرابطة بين المدرسة والشغل.

في قسم أخير من الكتاب يولي ماركو كامبيونه وإيمانويلي كونتو قضيةَ الانتداب والتشغيل أهمية كبرى لأجل خلق تحرّر إيجابي في المدرسة. حيث تشكو المدرسة الإيطالية من نقص انتداب المدرِّسين وتجديد الإطار التدريسيّ، في الوقت الذي تضمّ فيه قرابة المئة وستين ألف مدرّس مؤقّت يشتغلون في المدارس طيلة الموسم الدراسي المتراوح بين شهريْ سبتمبر ويونيو، وإن كانت المدرسة الإيطالية، على مستوى واقعي، تشكو من شغور يُقدَّر بما يزيد عن الخمسين ألف مدرِّس. يترافق ذلك المطلب الإصلاحيّ مع سعي حثيث لتقليص أعداد التلاميذ في الأقسام الدراسية التي يتراوح فيها العدد بين 29 و 30 تلميذا. حيث لا تتوفر شروط السلامة في مقرات التدريس في حال حصول كوارث طبيعية كالزلازل، أو حدوث حريق، أو حصول انهيار، أو غيرها من الأحوال الطارئة.

يبدو تحرير المدرسة على النحو الذي صاغه المؤلفان ماركو كامبيونه وإيمانويلي كونتو هو تخليص للمؤسسة التربوية من الأعباء التي تعوق تقدّمها. فقد استطاع المؤلفان حصر جملة من التحديات التي تواجه المدرسة الإيطالية، وهي تحديات تلتقي في بعض من أوجهها مع تحديات المدرسة عامة أكان داخل إيطاليا أم خارجها.

------------------------------------------

الكتاب: تحرير المدرسة

إعداد: ماركو كامبيونه وإيمانويلي كونتو.

الناشر: إيل مولينو (مدينة بولونيا-إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2020.

عدد الصفحات: 360 ص.

* أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا

أخبار ذات صلة