نيكلاس ماكسويل
محمد الشيخ
لَئِنْ هي شكَّلت السنوات التي رافقت الحربين العالميتين سنوات التشكيك في "التنوير" ونقد ثمراته "المُرَّةِ"، من عقلانية ضيقة وعلموية مختزِلة وحداثة بوليسية؛ بله ونزعة استعمارية جامحة؛ وذلك على النحو الذي عكسه "جدل الأنوار" (1944) عند الفيلسوفين الألمانيين هوركهايمر وأدورنو، مثلا، في تأكيدهما على جنوح "التنوير" إلى تدمير الطبيعة وتحطيم العقل نفسه؛ فإنَّ بعض الفلاسفة، في العقدين الأخيرين، وأمام تفشي "الظلامية الجديدة"؛ بله "القرون الوسطى المستأنفة"، عادوا إلى رفع شعار: "الأوبة إلى التنوير" أو "الدفاع عن التنوير". وقد عبر عن هذا المطلب خير تعبير المفكر الكندي ستيفن بينكر (1954- ) في آخر كتبه: "التنوير الآن: دفاعاً عن العقل والعلم والإنسانية والتقدم" (2018).
حركة التنوير وخصومها اليوم
على أن صاحب كتابنا لهذا الشهر، وإِنْ كان يدافع بدوره عن "التنوير"، فإنِّه لا يوافق بينكر في تركيزه على "العلم"و"العقل"؛ وذلك لأن، في تصوره، من أن شأن الاقتصار على "العلم" و"العقل"، بعد أن تبين أن هذا التصور للعلم ما عاد يمكن القبول به وأن ذاك التصور للعقل تصور غير عقلاني في ذاته؛ أن يؤدي إلى ألوان من "زيغ الأنوار" عن أهدافها المسطورة؛ أي إلى يعتبره نيكلاس ماكسويل "ضلالات" حركة التنوير التقليدية. بل يرى المؤلف أن بينكر ألف كتابه ذاك وقد تجاهل فيه كل النقود التي أوردت في الأربعين سنة الأخيرة على "الأنوار التقليدية"، وتبيانها كيف أنَّ هذه الأنوار كانت مضرة بالحضارة البشرية.
من العلم إلى الحكمة
موجز مسار فيلسوف علم وتعلم وتعليم
على مدار أزيد من أربعة عقود من الزمان، كرس فيلسوف العلم المفكر الإنجليزي المُعاصر نيكلاس ماكسويل (1937- ) قسماً عظيماً من بحوثه لما دأب يدعو إليه من إحداث "ثورة" في ما يسميه "العالم الجامعي"؛ بما يجعل من مسألة التعلم والتدريس مسألة "حكمة" ولا يبقيها مُجرد مسألة "معرفة"؛ وذلك بدءا من أحد أوائل أعماله في هذا المضمار: "من المعرفة إلى الحكمة: ثورة في أغراض العلم وطرائقه" (1984)، ثم كتابه: "من العلم إلى الحكمة: ثورة من أجل العلم والعلوم الإنسانية" (2007)، فكتابه: ""الحكمة في الجامعة" (2008)، وكتابه: "كيف يمكن للجامعات أن تساعد على خلق عالم أكثر حكمة: في مسيس الحاجة إلى ثورة أكاديمة" (2014)، وكتابه: "معضلتان شديدتان في التعلم: العلم والحضارة" (2016)، إلى آخر كتاب أصدره ـ وهو كتاب: "العلم والتنوير. معضلتان شديدتان في التعلم" (2019).
وإذا صح ما زعمه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون من أن من شأن الفيلسوف، في كل ما يكتبه، أن يعبِّر عن "استبصار" واحد ووحيد، يصوغه أول ما يصوغه إشارة؛ فعبارة، ثم ما يفتأ ينوِّع فيه العبارة، بله العبارات، بدءا واستئنافا وقبضا وبسطا وطيا ونشرا وتلميحا وتصريحا، طيلة مسار فكره؛ فإنه يصح بهذا أن فيلسوفنا نيكلاس ماكسويل هذا وطوال مسيرته الفكرية ظل يُردد، في ما يخص المعضلة التعليمية، فكرة واحدة اهتدى إليها وتنزلت من فلسفته في التعلم والتعليم منزلة القطب من الرحى، وذلك بمختلف السبل؛ وهي الفكرة التالية: نحتاج نحن، معشر البشر، إلى القيام بثورة ذهنية في جامعاتنا إِنْ رمنا حقاً تحقيق خطوات من التقدم نحو عالم ـ عادة ما يصفه بأوصاف مترادفة ثلاثة: عالم أفضل، وعالم أكثر حكمة، وعالم أشد تنورا ـ بحيث يمكن معه ضمان تفادي ما يسميه "الكارثة" المهددة للبشرية جمعاء.
من الإنسان العارف إلى الإنسان السالك
الحال أنَّ الكتاب الذي بين أيدينا يتوج أربعين سنة من المنافحة عن هذه الفكرة الهِجِّيرَى (اللازمة) التي أخذت بمجامع عقل الفيلسوف وقلبه. وهو أوضح كتاب في ما كتبه يعبر عن تلك الفكرة المحورية التعبير المجمل والأشد اختصارا؛ حيث يبسط فيه حجته على الحاجة المستعجلة لإحداث "منعطف" في إرث ثلاثة قرون من التنوير، بلا تنوير حقيقي، وتوجيه هذا الإرث توجيها سليما، وإثماره إثمارا حكيما.
يدافع صاحب الكتاب في كتابه هذا عن أطروحة جوهرية مفادها أن البشرية باتت تواجه اليوم إعضالين كلاهما دائر على مسألة التعلم والتعليم. فأما الإعضال الأول؛ فيتمثل في كيف يمكن للبشرية أن تتعلم الشيء المزيد عن الكون وعن ذواتنا وعن أشكال الحياة الأخرى التي تشكل جزءا من هذا الكون. وأما الإشكال الثاني؛ فيقوم في كيف يمكن للبشرية أن تنشئ ما يسميه المؤلف "عالما حضاريا أصيلا". وهو يرى أن البشرية تقدَّم لها أن حلّت الإعضال الأول في القرن السابع عشر الميلادي لمّا أنشأت هي العلم الحديث؛ فكان أن أقامت أنموذج "الإنسان العارف" وبوأته الدرجة العليا. لكنها لم تحل أبدا الإعضال الثاني ـ إنشاء عالم حضاري أصيل ـ والمتعلق لا بأمر "الإنسان العارف"، وإنما بشأن "الإنسان السالك". والحق أن غياب هذا الإنجاز هو الذي ألجأ البشرية إلى مواجهة خطر غير مسبوق. ذلك أن البشرية الحديثة إذ سعت إلى حل المعضلة الأولى، بإنشاء العلم والتكنولوجيا الحديثين، فإنها عززت مقدرتها على الفعل وسطوتها في التصرف، وقد استعملت تلك المقدرة وهذه السطوة لتحقيق الرفاهية لبني البشر بشتى السبل؛ منها تطوير الطب والنظافة، والصناعة والفلاحة، والنقل والاتصالات؛ وكل تلك عَلِمْناها من مِنَنِ الحداثة. لكن، في غياب حل للمعضلة الشديدة الثانية، تظل هذه النجاحات الناجمة عن تعظيم مقدرات البشرية على الفعل والتصرف وبسط السيادة والتحكم، على الأغلب، تقود إلى إلحاق الضرر وإذاقة الموت للكثير من البشر. ذلك أنها تأدت إلى تكاثر البشر التكاثر، وإلى الإضرار البالغ بالبيئة، وإلى انقراض العديد من الأنواع، وإلى التفاوتات الشديدة بين بني البشر، وإلى الطابع المميت الذي اكتسته الحرب الحديثة، وإلى التهديد النووي، وإلى تلويث البر والبحر والجو؛ وفوق هذا وذاك انتهت إلى تهديد التغير المناخي ...ولهذه الحيثية، يرى المؤلف أنه بات من مسيس الحاجة العاجلة اكتشاف كيف نحل المعضلة التعليمية العظمى الثانية؛ إذ لَئِنْ نحن لم نتعلم الآن كيف نحقق تقدما نحو عالم أكثر تحضرا، فإننا سوف ننتهي إلى الإلقاء بأيدينا إلى التهلكة.
ويعلن المؤلف المرار العدة، وعلى طول صفحات هذا الكتاب، أن كتابه هذا إنما يدور على طرح اقتراحات لحل المعضلة الثانية؛ لا معضلة "الإنسان العارف" في هذا الكون، وإنما معضلة "الإنسان السالك" في هذه الحياة. ويبدأ بالإقرار بأن بين الإعضالين تعالقا يصوغه في الطرح التالي: يتعين علينا ـ معشر البشر مأخوذين كافة دون تميز أو تحيز ـ أن نتعلم من حلنا لمعضلة التعلم الأولى العظمى كيف نسلك إلى حل معضلة التعلم الثانية الكبرى. ويقر المؤلف بأن هذه الفكرة ما كانت بدعا من الأفكار الرائجة؛ إذ تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي (عصر التنوير التقليدي). ذلك أن الفكرة الجوهرية في ذاك العصر، لا سيما في الأنوار الفرنسية، كانت هي أن نتعلم من التطور العلمي كيف نحقق التقدم الاجتماعي نحو عالم متنور. لكن جديد المؤلف يتمثل في نقده للأنوار التقليدية باسم روح الأنوار نفسها: فهو يعيب على من يسميهم "الفلاسفة" ـ قاصدا بهم على وجه الخصوص فلاسفة فرنسا من الأنواريين: فولتير وديدرو وكوندورسيه وآخرين ـ أنهم ارتكبوا ما يسميه "ضلالات مرعبة". ويحصي عليهم ألوانا من الفشل عدة: فشلوا هم في درك تحقق تقدم طرائق العلم إدراكا مناسبا. ومن ثمة فشلوا في تعميم هذه الطرائق التعميم الملائم لتيسير التقدم في مجالات السلوك البشري الذي ينبغي أن يسير في مواكبة الكشف العلمي. وأخيرا ـ وهذا هو الأمر الأشد كارثية في نظره ـ فشل هؤلاء في تطبيق الطرائق الحديثة، المستمدة من العلم، على ما يسميه باسم "العالم الاجتماعي"؛ وبالتالي فشوا هم في النهوض بمهمة تحقيق التقدم في "عالم متنور" تنورا حقا وأصيلا.
أكثر من هذا، ما فشلوا هم في الصياغة المناسبة لطرائق العلوم، وقد عُممت بدءا من العلم الطبيعي، وإثمارها في ما يتعلق بسلوك بني البشر، وإنما الأنكى من ذلك أنه ما دار بخلدهم أبدا حتى تصور هذه المهمة تصورا منهجيا. وبالبدل من ذلك، حسبوا أن المهمة تكمن في تطور العلوم الاجتماعية جنبا إلى جنب مع العلوم الطبيعية. على هذا النحو تصور فلاسفة الأنوار تطوير العلوم الاجتماعية: الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان والبقية. وبالبدل من السعي إلى إنفاذ العقل، وقد استنبط من العلم، في مهمة تحقيق تقدم نحو عالم متنور، لم يسع فلاسفة الأنوار اللهم إلا إلى تحقيق تقدم في المعرفة المتعلقة بالعالم الاجتماعي، ضانين أن مثل هذه المعرفة يلزم أن تكتسب بوصفها تمهيدا يثمر من تلقاء ذاته مهمة تحقيق تقدم اجتماعي نحو الأنوار أو الحضارة.
والحال أن هذه النسخة الشوهاء من الفكرة الأصلية العميقة التي جاءت بها الأنوار هي ما طوره خلال القرن التاسع عشر كل من جون ستوارت مِلْ وكارل ماركس وماكس فيبر وغيرهم. وهو ما تأتت عنه معرفة أكاديمية في مستهل القرن العشرين مع إنشاء أكاديميات العلوم الاجتماعية. والنتيجة أن العلم والبحث الجامعي الحديثين لا زالا يرسخان هذه "الضلالة" القديمة سليلة القرن الثامن عشر. فالبحث الأكاديمي والجامعي، على النحو الذي بات ينهض عليه اليوم، إنما هو ثمرة تطبيق فكرة الأنوار العميقة والجوهرية ـ فكرة التعلم من حلنا لأول أعظم معضلة في حل المعضلة الكبرى الثانية. لكن المؤلف يعلن أن هذا السعي، مع الأسف، سعي مرتجل. فالمبادرة التعليمة الأكاديمية والجامعية اليوم لا تعمل، كما ينبغي لها، على السعي إلى مساعدة البشرية في حل مشاكل العيش هذه التي تتضمن مسائل شمولية والتي تحتاج إلى أن تُحل إذا ما هي سعت البشرية جمعاء إلى التقدم نحو عالم أفضل وأكثر حكمة وأشد روية وتحضرا وتنورا. وبالبدل من ذلك، لا زالت هذه الأوساط تنذر نفسها لاكتساب المعرفة والمزيد من المعرفة في سورة المعرفة ـ المعرفة بالعالم الطبيعي والمعرفة بالعالم الاجتماعي. وإذا ما نحن عمدنا إلى تقويم هذا المسعى، من جهة نظر مدى مساعدته البشرية على خلق عالم أفضل، يبدو البحث الجامعي والأكاديمي، الذي يكرس كل جهده لاستقصاء المعرفة بلا مزيد، فاقدا للعقلانية التي نشدتها حركة الأنوار الأصيلة. والحال أن افتقاد مؤسساتنا التعليمية للعقلانية يمت بصلة وثيقة إلى الوضع الخطير الذي ألفينا نجد أنفسنا عليه اليوم.
بدائل تعلمية ممكنة
يخلص الباحث إلى القول: لقد فشلنا في تعلم كيف نحقق التقدم نحو عالم أفضل؛ وذلك لأن مؤسسات تعليمنا انشغلت بالمعضلة العظمى الأولى وتجاهلت الداهية الثانية الكبرى؛ بما جعلها باتت تعاني من خلل في التصور؛ إذ هي ورثت من حركة الأنوار "ضلالاتها". ويتمثل الحل الذي يرتضيه المؤلف في القيام بمبادرة أكاديمية عقلانية حقا وفعلا منذورة إلى مد يد العون إلى البشرية بغاية تحقيق التقدم نحو عالم أفضل وأروى وأبصر وأنور وأحكم. وما من سبيل إلى ذلك سوى النهوض بثورة في العلم، وفي البحث الأكاديمي بعامة، بحيث تتوقف المهام الأساسية عن أن تظل مجرد مسألة خبرة ومعرفة وتخصص، لكي تمسي، بالأولى، مسألة مساعدة للبشرية كي تتعلم كيف تتقدم نحو عالم أفضل.
تأسيسا عليه، يختم المؤلف كتابه بتذكيرنا بالخطوط العريضة التالية: أولا؛ من أجل خلق عالم أفضل، نحتاج إلى أن نتعلم كيف ننشئه إنشاء؛ أي أنه يتعين علينا أن نتعلم كيف نحل نزاعات العيش وصراعاته حلا تآزريا عقلانيا أكثر مما نفعل اليوم. ثانيا؛ بغية تحقيق ذلك، نحتاج إلى تقاليد ومؤسسات تعليم عقلانية. إذ في عالمنا هذا الشاسع المعقد المتنوع السائل، الذي يعج بالنزاع ويضج بالظلم، ثمة أمل قليل في أن نكتشف كيف نحل نزاعاتنا ومشكلاتنا حلا سلميا وعادلا وتعاونيا. ثالثا؛ لن يحدث هذا المراد اللهم إلا إن نحن تمكنا من تأسيس تقاليد ومؤسسات بحث مجعولة لمساعدتنا على تعلم كيف نأتي ذلك. فما نتوفر عليه اليوم من مؤسسات إنما هو منذور بالكلية إلى تقصي المعرفة وإلى التسلح بدريئة التقنية؛ وكلا السلوكين غير عقلاني على نحو فظيع ومضر. رابعا؛ نحن أحوج ما نكون إلى تقاليد ومؤسسات تعليم وتعلم منذورة إلى ترويج الحكمة العقلية، تعطي الأولوية في المهام إلى بسط معضلات العيش المشترك، وتقترح حلولا تعاونية، وتستتبع إليها المسائل المعرفية والتقنية وما كان الأمر على الضد. أخيرا؛ لن يتحقق هذا الأمر إلا بإحداث تغيير جذري في مؤسسات التعليم وأكاديمياته. وبعد هذا وذاك نحتاج إلى إحداث تغيير في البحث الاجتماعي والبحث في العلوم الإنسانية بحيث تغدو مهمتنا التشجيع على التعاون العقلاني في العالم الاجتماعي.
عنوان الكتاب : العلم والتنوير معضلتان شديدتان في التعلم
اسم المؤلف : نيكلاس ماكسويل
الناشر: سبرينجر
السنة : 2019
