تأليف: كارولين رولانتس
سعيد الجريري |باحث زائر في معهد هيغنز للتاريخ الهولندي
لقد تغيرت خلال العشر السنوات الماضية صورة الشرق الأوسط بشكل كبير، فبينما كان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مركزاً تقليدياً للأحداث، يبدو أن هناك استبدالاً بأحداث أخرى قد تمّت، مثل الحرب الأهلية السورية. ولعلّ أحدث صراع متصاعد الآن هو في منطقة الخليج والجزيرة العربية، حيث تنظر إسرائيل وعدد من دول الخليج إلى إيران باعتبارها الخطر الأكبر، إلى درجة أن هناك تحالفات جديدة تتشكل على نحو غير مسبوق، كدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى تحالف عربي إسرائيلي ضد إيران هذا العام. فهل لهذا الخوف من إيران ما يبرره؟ وهل إيران قوة عظمى توسعية حقاً، تسعى إلى مد نفوذها إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر؟ تساؤلات كهذه تندرج في سياق اهتمام الصحافة والأوساط الثقافية، فضلاً عن الدوائر السياسية الأوروبية عامة والهولندية خاصة، بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولقد ازداد الاهتمام أكثر منذ ما عرف بثورات الربيع العربي، في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن وتداعياتها محلياً، وتأثيرها على العالم ولاسيما الجوار الأوروبي.
ويأتي كتاب "الشرق الأوسط.. من الداخل" للهولندية كارولين رولانتس في هذا السياق، مكتسباً أهميته، واهتمام القارئ الهولندي به من كون المؤلفة مشتغلة وخبيرة بقضايا الشرق الأوسط ومشكلاته وأزماته منذ أكثر ثلاثين عاماً، محررة لشؤونه في صحيفةNRCHandelblad ذات الشعبية الواسعة. فضلاً عن أنّ للمؤلفة أربعة كتب سابقة، كان أولها "العراق خلف الكواليس، أهلاً بأمريكا إلى مقبرتها" 2007 (بالاشتراك مع الصحفي الهولندي توماس إردبرينك)، والثاني"إيران خلف الكواليس، الملالي والفتيات"2008، والثالث "المملكة العربية السعودية، الثورة التي لمّا تأتي" 2013، والرابع"ثورة أم جملة وهمية؟ هل سيُحدث الربيع العربي شيئاً؟" 2014.
يتألف الكتاب منعشرة فصول بعد المقدمة: مصلح أم طاغية؟ - إيران الخبيثة - صراع ديني أم تنافس بين قوتين كبريين - الحرب العالمية في سوريا - التطرف والخلافة - الحرب الخفية في اليمن -تحديات الديمقراطية وحقوق الإنسان - إسرائيل والحل الفلسطيني - الربيع العربي وما نتج عنه - وأخيراً المرأة، آخر فصل في الكتاب مثلما هو حالها دائماً، كما تشير المؤلفة في المحتوى.
كانت صلة المؤلفة مبكرة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي له دور رئيس في العلاقات بين الشرق الأوسط والغرب، من حيث كون إسرائيل حليفاً مهماً للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، من جهة، ومن حيث كونها جذاماً سياسياً في المنطقة العربية - باستثناء الدولتين المجاورتين مصر والأردن اللتين أبرمتا في وقت لاحق سلاماً بارداً- في ظل عدم حصول الفلسطينيين على حقهم في إقامة دولتهم على كامل أراضيهم بما فيها المحتلة في حرب 1967.
تلك نقطة محورية، تقول المؤلفة، لكن كل ذلك تغير بالتزامن مع وصول الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز إلى سدة الحكم في يناير 2015 الذي دفع بنجله المفضل محمد إلى ولاية العهد، باعتباره الرجل الأقوى في المملكة، الذي جذبت إجراءاته الكثير من الاهتمام الإيجابي ولا سيما خطته الإصلاحية الاقتصادية والاجتماعية الطموح 2030 - بعيداً عن النفط - وقراره السماح للسيدات السعوديات أخيراً بقيادة السيّارات، بعد منع وتحريم بخلفيات سياسية ودينية. لكن هناك وجهاً آخر سلبياً لابن سلمان هو شنه الحرب الكارثية في اليمن، وتفجر الصراع مع قطر وخروجها من تحالف الحرب الذي أنشأته السعودية لمواجهة الحوثي ذراع إيران في المنطقة، ووضع سعد الحريري رئيس وزراء لبنان رهينة، وإعلانه الاستقالة من الرياض، من جهة، وسجنه كل منتقدي نظامه وإجراءاته الجديدة، من الأمراء وكبار رجال الأعمال والمفكرين ورجال الدين من جهة أخرى، فضلاً عن شبهة مسؤوليته عن مقتل الصحفي الناقد جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في أسطنبول.لذلك فقد أفردت المؤلفة الفصل الأول لابن سلمان ولم تجعله للمرشد الأعلى الإيراني من حيث تصورها أن ولي العهد السعودي أكثر إثارة كونه لاعباً جديداً، يوصف بالتهوّر أحياناً، ويسعى لهزيمة إيران باعتبارها المهدد الأكبر لاستقرار الشرق الأوسط، الموصوف بالمتدني أصلاً. إلا أنّها ترى أنّ النظام الإيراني، وعلى الأقل الفصيل الأكثر راديكالية فيه، يريد المشاركة في النضال من أجل النفوذ في المنطقة، ليس كثيراً في اليمن، ولكن بالتأكيد في سوريا، حيث يحافظ على بقاء نظام بشار الأسد بدعم روسي مباشر. غير أن أهداف إيران، في تصورها، ليست هجومية من حيث المبدأ، ولكنها لتوسيع نفوذها. فهي دفاعية عن نظامها الإسلامي الشيعي ومصالحه، ضد أعدائه جميعاً، في محيط إقليمي خطير للغاية، وفي الواجهة الأولى، بطبيعة الحال، المملكة العربية السعودية، ومن خلفها، أولاً وقبل كل شيء، "الشيطان الأكبر" أمريكا وحليفها الاستراتيجي في المنطقة إسرائيل.
وتناقش المؤلفة في فصل مستقل التنافس بين إيران والسعودية، وهو سابق لوصول ولي العهد السعودي إلى واجهة الحكم، فخلفيته تمتد إلى عام 1979الذي شهد انتصار ثورة الخميني، وخشية دول المنطقة من فكرة تصدير الثورة الإسلامية، وما نتج عن ذلك من مواجهات أبرزها وأكثرها كارثية الحرب الإيرانية العراقية 1980-1988، التي تحالفت فيها المملكة ودول الخليج مع نظام صدام حسين في العراق، قبل أن ينفض التحالف بدخوله الكويت عام 1990 ثم اشتعال حرب الخليج وتداعياتها على استقرار المنطقة، حتى إسقاط نظام صدام، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
وتشغل المؤلفة كثيراً تعقيدات الحروب في كل من سوريا واليمن، بشكل متزايد على مر السنين. فبقدرما كان الأمر يبدو بسيطاً في سوريا من حيث تعلقه ببقاء بشار الأسد، وهو ما تم، إذ لم يسقط كالرؤساء العرب الآخرين في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكن التحدي القوي هو أن السلام الحقيقي بات بعيد المنال، في الوقت الحالي. هذا هو التبسيط لأجزاء المشهد، لكن ماذا حدث في الثماني السنوات الماضية، فضلاً عن الدمار والخراب المادي والنفسي، والنزوح والتهجير وتدفق اللاجئين إلى أوروبا؟ لقد نشأت الجماعات المتمردة مثل الفِطر، وازداد تطرفها بدعم أجنبي، ونشأت دولة الخلافة (داعش)، ثم تم سحقها بجهد دولي موحد، ولقد برزت روسيا مرة أخرى كقوة عالمية بموازاة أمريكا التي بدأت تنسحب من المشهد العالمي منذعهد باراك أوباما ثم رونالد ترامب. لكن الحرب في سوريا لم تكن حرباً سورية محلية لإسقاط النظام، كما في تونس مثلاً، ولكنها كانت، كما ترى المؤلفة، حرباً عالمية سورية في نطاق ضيق miniveld.
وفي اليمن لم تكن الحرب منفصلة عن الصراع الإقليمي، والتنافس الإيراني - السعودي على النفوذفي المنطقة ولاسيما الممرات الملاحية الدولية كمضيق هرمز في مدخل الخليج وباب المندب في مدخل البحر الأحمر، ثم تداعيات ذلك الصراع وتحولاته، وتضخم كرة الدم المتدحرجة، بدءاً بسيطرة الحوثيين على عاصمة اليمن صنعاء بتواطؤ من قبل عدو الأمس،الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وحزبه والألوية العسكرية العائلية التي تدين له بالولاء، ثم التدخل السعودي لقيادة تحالف دعم شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، واتساع رقعة الحرب، وتفجر الأزمات كالصراع اليمني (شمالاً–جنوباً). ولوضع القارئ في صورة المشهد وخلفياته، فقد أضاءت صفحات من تاريخ الصراع منذ حرب الملكيين الزيديين (الأئمة آل حميد الدين الهاشميين أجداد الحوثي) والجمهوريين (الثوار) في الستينيات، وتدخل مصر عبدالناصر للقتال في صف الجمهوريين، ودعم السعودية للملكيين الذين تقف الآن ضدهم، ثم توقف الحرب باتفاق بين جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز، بعد تكبد مصر خسائر فادحة، كانت من أسباب هزيمة 1967 بحسب بعض قراء المشهد آنذاك.
وتعنى المؤلفة بتطرّف ما تسمى بالدولة الإسلامية، وتحاول الإجابة عن سؤال من أين تأتي هذه الدولة الإسلامية؟ ومن أجل ذلك فهي تنظر إلى أجزاء الصورة والمشهد في كلياتها، وتفاعلاتها وتداخلاتها، فتحضر القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية كما توصف في الأدبيات السياسية المعاصرة، التي أصبحت غير قابلة للحل في الوقت الحالي بسبب اليمين الإسرائيلي، وحالة الانقسام الفلسطيني، فضلاً عن التقارب بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. الأمر الذي يلقي بظلاله على طبيعة تصور الحل ومن ثم إمكانية تحققه. فمثلا: ماذا بقي من حل الدولتين القديم والموثوق به من قبل الجميع؟ تتساءل المؤلفة.
ويحظى ما سُمّيَ بـ "الربيع العربي" بأهمية في الكتاب، رغم فشله، من حيث إن الوضع في بلدانه الأساسية: تونس، ومصر، وليبيا، مقلق، فهذه البلدان تشكل الفناء الخلفي لأوروبا، بكل ما يترتب على ذلك،كالهجرة واللجوء على سبيل المثال. لكن المؤلفة تضع تساؤلات مهمة من قبيل: لماذا خرجت تونس بشكل ديمقراطي؟ ولماذا تحولت مصر إلى ديكتاتورية العسكر؟ ولماذا أصبحت ليبيا دولة فاشلة؟ وما الاحتمالات والمآلات؟
وتعرّج المؤلفة على الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالإشارة إلى مصر كمثال، ونفاق الغرب بالنظر إلى التعامل مع مقتل خاشقجي، بما في ذلك ما تسميه "غسيل الرياضة والفنون": ممارسة إهدار الأموال في دول الخليج العربي الغنية على وجه الخصوص، لشراء الاحترام من خلال شراء متحف اللوفر(الإمارات)، أو إخفاء انتهاكات حقوق الإنسان وراء سباق الجائزة الكبرى للفورمولا (البحرين)، أو إحياءالمغنية العالمية ماريا كيري والـ دي جي تيستو حفلة موسيقية (المملكة العربية السعودية)، على سبيل المثال.
أمّا المرأة في الشرق الأوسط فقد أفردت لها المؤلفة فصلاً، قاربت فيه المشهد، بتناقضاته وتداخلاته، وسلبياته، وما له من إيجابيات وتباينات من بلد عربي إلى آخر، ومكانة المرأة في المجتمع ودورها السياسي والاجتماعي، ومدى الحرية المتاحة لها في مجالات التعليم والوظيفة العامة، غير بعيد من تأثير الخلفيات الدينية والاجتماعية والذكورية التي لها الهيمنة بالمجمل في المجتمع العربي، على تفاوت في الدرجة.
يستعرض الكتاب على نحوٍ ضافٍ مفصل مستقصٍ إلى حد بعيد أبعاد المشهد السياسي في الشرق الأوسط، ولعل مما يميزه أن المؤلفة خبيرة راصدة مشتغلة بالشأن السياسي هناك، فهي تقدم مادة مهمة للقارئ الهولندي الراغب في معرفة موثقة عما يحدث وخلفيات التطورات السياسية وترابطها سواء في علاقات الدول البينية، أو في علاقاتها بأوروبا وأمريكا. لكن مما يلحظ على الكتاب أن المؤلفة تعتمد أحياناً على المتداول في الصحافة، حيث تتعدد الروايات، أو يتم توجيهها وفق هيمنة إعلامية لأطراف بعينها ضد أخرى، فتغدو المواد غير الدقيقة أو المعتمدة على رأي طرف دون آخر أشبه بالحقائق التي تتعامل معها المؤلفة، فتبني عليها آراء أو تحليلات معينة ليست بالضرورة أقرب إلى المصداقية مع الواقع وتجلياته. ولعل ذلك مما يمكن تسويغه بشكل أو بآخر بالنظر إلى تعقيدات المشهد في الشرق الأوسط، وضعف مهنية الإعلام وتفاوت مستوياته من بلد إلى آخر. لكن الكتاب يمثل مادة موسوعية تبدو بعض فصولها أغنى من مؤلفات عربية وأثرى، وأقرب إلى الموضوعية والمصداقية في مقاربة المشهد. ولعل لذلك علاقة برؤية الأحداث من الخارج بمسافة كافية تضمن الحيادية إلى حد بعيد.
ولعل مما يلفت القارئ غير الهولندي أن المؤلفة لم تكتف بالنظر والتحليل الصحفي، وهي تخوض في فصول شائكة، بل كانت تكشف عن تقييم ما لمجريات الأحداث، ولاسيما الخروج من سكونية الأنظمة وبناها التقليدية سياسياً وإحداث تغييرات جوهرية أو ذات أهمية استثنائية سواء ما كان منها بفعل الثورات، وحركة الجماهير في بلدان معينة، أو ما كان منها استجابة لرغبات التغيير من قبل ذوي القرار في بلدان أخرى.
"الشرق الأوسط.. من الداخل " إضافة حقيقية إلى ما أنجزته كارولين رولانتس عن المشهد العام وتحولاته واحتمالاته ومآلاته في هذه المنطقة المهمة والقلقة من العالم التي تمور بأحداث ساخنة وحروب مستمرة، من جهة، وهو من جهة أخرى إضافة قيمة إلى المؤلفات المهمةعن الشرق الأوسط، في المكتبة الهولندية المعاصرة، من حيث ما اعتمدته المؤلفة من وثائق ومصادر ومراجع شاملة، اجتهدت في توظيفها وتدقيقها، فضلاً عن كونها تصدر عن خبرة طويلة في الخوض في كثير من التفاصيل التي مكنها اشتغالها الطويل بشؤون الشرق الأوسط من الإحاطة الوافية بأغلب أطرافها.
----------------------------------------------------
تفاصيل الكتاب
الكتاب: الشرق الأوسط.. من الداخل
المؤلف:كارولين رولانتس
الناشر: بروميثيوس، أمستردام 2019
اللغة: الهولندية
عدد الصفحات:272
