الأسواق والعقول والمال: لماذا تقود أمريكا العالم في البحث الجامعي

Picture1.png

ميغيل أوركيولا

محمد السالمي

لسنوات عديدة، احتلت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الأمريكية المراتب الأولى ضمن التصنيفات العالمية مقابل الدول المتقدمة الأخرى مثل ألمانيا وفرنسا. بل نرى أن الفائزين بجائزة نوبل المُنتمين للجامعات الأمريكية أكثر من تلك الدول التسع والعشرين التي تليها في القائمة مُجتمعة. ولكن لماذا تقود أمريكا العالم في الأبحاث الجامعية وما هو السر في ذلك؟. في كتاب "الأسواق والعقول والمال"، يجادل الخبير الاقتصادي ميغيل أوركيولا بأن المصدر الرئيسي لهذا الاستحواذ يتمثل في نهج السوق الحرة للتعليم العالي.

التطورات الكبيرة في الأبحاث الجامعية تساهم في النمو الاقتصادي ورفاهية الإنسان. على سبيل المثال، أدى بشكل مُباشر إلى أدوات طبية مثل الأشعة السينية والدقة المغناطيسية، وساعد أيضاً في زيادة استخدام المضادات الحيوية. كما أنها تقف وراء التقنيات المستخدمة من قبل العديد من الشركات مثل بوينج وجوجل وغيرها. وهذا قد يساعدنا بشكل نسبي في تفسير سبب استمرار امتلاك الولايات المتحدة لواحد من أكثر الاقتصادات ديناميكية.

حتى أواخر القرن التاسع عشر، كان مجال البحث العلمي في الجامعات الأمريكية فكرة متأخرة إلى حد كبير، ويُعاني من نفس السبب الذي جعله يزدهر الآن؛ فالسوق الحرة تسمح بالإدارة الذاتية للمؤسسات. ولذلك استغلت معظم الجامعات هذه المرونة لتوفير ما تريده العائلات الميسورة والكنيسة. لم تكن هذه المدارس مثل الجامعات الألمانية التي قادت العالم في البحث والتدريب المتقدم. لم يبدأ النظام الأمريكي في التحول إلا عندما أدركت بعض الجامعات، التي تتمتع بحرية تغيير نموذج أعمالها، أنه يجب على الطلاب كسب مواهب استثنائية لمواكبة التطور الاقتصادي. ومن هنا قادت جامعات مثل كورنيل، وجونز هوبكنز الطريق، تلاهما هارفارد، وكولومبيا، وغيرها من الجامعات لتأسيس مراكز البحث العملي. بحلول العشرينيات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة في طريقها لتكون في مُقدمة السباق.

مؤلف الكتاب هو ميغيل أوركيولا ويشغل منصب أستاذ الاقتصاد والشؤون الدولية بجامعة كولومبيا، كما أنه يرأس قسم الاقتصاد بالجامعة نفسها. يعمل ميغيل أيضاً باحثاً مشاركاً في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، والبنك الدولي.

 يبحث هذا الكتاب في العديد من الأسئلة أبرزها: لماذا كان نظام الجامعة الأمريكية في أسفل القائمة حتى القرن التاسع عشر مُقارنة بالدول المتقدمة؟ وكيف تمكنت لاحقًا من الوصول إلى القمة؟ لماذا تستمر في التفوق على الأنظمة الأكاديمية الأوروبية التي كانت تتبع نهجها سابقًا؟ تركز إجابة الكتاب على حقيقة أن الولايات المتحدة فريدة من نوعها في اتباع نهج السوق الحرة للتعليم بين الدول الغنية.

يتمحور الكتاب حول ثمانية فصول مقسمة على جزأين. الجزء الأول يحتوي على خمسة فصول، تركز على مستوى أداء البحوث في الجامعات الأمريكية. الفصل الأول بعنوان اللغز، يتساءل فيه ميغيل عن سر تطور الجامعات الأمريكية لتكون في مقدمة السباق. يناقش الفصل الثاني خدمات التدريس في الكليات الأمريكية قبل الحرب الأهلية. أما الفصل الثالث فكيف بدأ إصلاح التدريس في التركيز على المواهب، بينما يناقش الفصل الرابع كيف أدى تصنيف الفرز إلى نفس الشيء بالنسبة للموارد. يمضي الكتاب في الفصل الخامس ليستعرض الجوانب التي تضمن استخدام هذه المدخلات على شكل منتج. الجزء الثاني من الكاتب يأتي بعنوان: "الإدارة الذاتية، والدخول والنطاق الحر". يشرح الفصلان السادس والسابع سبب انتشار أو ركود نهج السوق الحرة في الولايات المتحدة وأوروبا. أما الفصل الثامن والأخير فينظر في مستقبل أداء البحوث الجامعية الأمريكية.

 

 

 

 

 

 

 

في محاولته للإجابة على سؤال "كيف ارتقت الجامعات البحثية الأمريكية إلى الصدارة؟" وكجزء من منهجية ميغيل أوركيولا، قام باستخدام قائمة الفائزين بجائزة نوبل عبر التاريخ لمراقبة الإنتاجية البحثية للجامعات في الدول المتقدمة الكبرى. على الرغم من منح جوائز نوبل لأول مرة في عام 1901، فقد استخدم السير الذاتية للمتلقين الأوائل لتقدير أنشطتهم البحثية الجديرة بالملاحظة من خمسينيات القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر. وباستخدام هذه البيانات، يتتبع تطور الجامعات الأمريكية وتطورها أيضاً في نطاق البحوث، منذ بداياتها المتواضعة في القرن السابع عشر إلى مكانتها الحالية.

يشير المؤلف إلى أنَّ تطور المؤسسات الأمريكية كان مقاربًا لنظيراتها الأوروبية، إلا أن هناك ثلاثة اختلافات مهمة في تنظيم ونمو الجامعات الأمريكية. تتمثل هذه الاختلافات في قوى السوق، والإدارة الذاتية، والدخول الحر، والنطاق الحر. لا يهدف المؤلف إلى استبعاد تأثير الحرب العالمية الثانية، والذي سيبدو في الواقع صعوبة تفسير التراجع الألماني بدونها. ومع ذلك، ينصب تركيز هذا الكتاب على شرح الصعود الأمريكي، والنقطة الرئيسية هي أنه لا يمكن عرض الاعتماد فقط على الأحداث في أوروبا. على وجه الخصوص، يجب أن يتناول حساب الأداء البحثي للجامعات الأمريكية قبل القرن العشرين.

نظرًا لأنَّ المؤسسات المبكرة كانت طائفية أو تميل لمجموعات مُعينة، كان الدخول المجاني مُمكنًا. حيث يمكن لكل طائفة إنشاء مدرستها الخاصة، مما أدى إلى زيادة عدد المؤسسات الجديدة في حقبة ما قبل الحرب. ومن ثم أصبح التعليم مهمًا للغاية، ورغب السكان أيضًا في وجود كليات قريبة منهم. حصلت الكليات الأمريكية المبكرة مثل هارفارد وييل، على دعم حكومي استعماري أولي مع سيطرة الكنيسة والدولة. مع مرور الوقت، تغير هذا بسبب زيادة عدم تجانس الدين، وتغييرات الحوكمة، ومصادر التمويل.

للبقاء كمؤسسة في ذلك الوقت، أصبح من الضروري زيادة خيارات الخدمة والتخصصات للطلاب. يعرّف ميغيل ذلك بمصطلح "النطاق الحر" على أنَّ الجامعة حرة في تنويع منتجاتها إذا رغبت في ذلك. يذكر نوعين من الخدمات للطلاب يتمثل في التدريس والفرز. ومن هذا المنطلق أصبحت إصلاحات التدريس جزءًا لا يتجزأ من تطوير التعليم العالي الأمريكي بعد الحرب الأهلية.

يُشير ميغيل إلى الفرز على أنه تجربة الطالب مع الدوائر المختلفة داخل الكلية. كان إصلاح الفرز عاملاً حاسماً في ظهور الجامعات البحثية. تضمنت الإصلاحات الأولية القبول الانتقائي على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا، والاستثمارات في الإقامة، والتحكم الأكبر في الخبرة الجامعية. تؤدي هذه الانتقائية المتزايدة في القبول إلى زيادة الانتقائية في أعضاء هيئة التدريس وتحديد مدة الخدمة. تسعى جميع الجامعات البحثية الكبرى إلى الحصول على أفضل أعضاء هيئة التدريس لجذب أفضل الطلاب. كل هذه العناصر أعطت أفضل الجامعات الأمريكية ميزة تنافسية، والتي مثلت حاجزًا لاحقاً لدخول منافسين في السوق الأكاديمي.

بالإضافة إلى ذلك، التنافس في إنتاجية البحوث خلق عدم المساواة في التمويل. وتجدر الإشارة أن الحروب العالمية جعلت تمويل البحوث الفيدرالية ضرورة؛ إذ تم إنشاء مكتب البحث العلمي والتطوير (OSRD) ومشروع مانهاتن خلال الحرب العالمية الثانية. استمر تمويل أبحاث ما بعد الحرب من خلال وكالات تمويل محددة مثل ناسا ووزارة الدفاع الأمريكية والمركز الوطني للصحة وغيرها. يوضح ميغيل أنه منذ عام 1968 ذهب غالبية تمويل الأبحاث الفيدرالية إلى جامعات الأبحاث من الدرجة الأولى. يولد الناتج البحثي تدفقات كبيرة من الدولارات. وهناك أسباب نجاح نظام جامعة الأبحاث في الولايات المتحدة؛ وتشمل آليات ومقاييس لتحديد المواهب، والقدرة على جذب المواهب وموارد التمويل المختلفة. بالإضافة إلى وجود "مشترين" محددين (مثل الوكالات الفيدرالية) يمكنهم تحديد خدماتهم واستخدامها. جميع هذه العوامل تسهب في هذه البحوث لتكون عالية الجودة وذات أهمية كبيرة.

السؤال الأعمق هو: لماذا تخلفت الولايات المتحدة في البداية عن أوروبا في إنشاء مثل هذه الجامعات، وكيف تغير ذلك؟. تركز إجابة هذا الكتاب على حقيقة أن الولايات المتحدة تتبع نهج السوق الحر في التعليم. لنكون دقيقين، سنقول إن نظام الجامعة يعمل كسوق حر عندما يكون له ثلاث سمات: الحكم الذاتي. يتميز نظام الجامعة بالإدارة الذاتية وكذلك عندما تكون مدارسها حرة في تحديد اتجاهها. يمكن أن يوجد الحكم الذاتي حتى عندما تمول الدول الجامعات، طالما أنها تتيح لها مجالًا واسعًا من العمل. زيادة على ذلك، يعرض النظام الدخول الحر وذلك عندما يكون من السهل نسبيًا فتح جامعة جديدة. بالإضافة إلى ذلك، يتميز نظام الجامعة بنطاق حر عندما يُسمح للمؤسسات بتقديم مجموعة متنوعة من الخدمات. يظهر نظام الجامعات الأمريكية هذه السمات أكثر بكثير من تلك الموجودة في معظم البلدان الغنية. أولاً، مؤسساتها الخاصة مستقلة إلى حد كبير، وتتمتع معظم جامعتها العامة باستقلالية كبيرة. ثانيًا، يمكن للدول والمؤسسات والشركات الربحية إنشاء جامعات جديدة بسهولة. ثالثًا، تواجه الجامعات قيودًا قليلة على أنشطتها. على سبيل المثال، يقدم العديد منها مجموعة كبيرة ومتنوعة من الدرجات العلمية في نفس الوقت الذي تدير فيه المستشفيات، ويعني عزو الضعف الأولي للجامعات الأمريكية وقوتها اللاحقة إلى هذه السمات أنه في التعليم.

 

في الفصل الأخير، يتناول ميغيل موضوعات في الوقت الحالي وكذلك مستقبل أداء البحوث الجامعية الأمريكية. يشير ميغيل إلى أربعة تحديات رئيسية يجب أن تكون الجامعات على دراية بها في المستقبل. أولاً، تعطيل النطاق. نظرًا لأن البحث مدعوم من خلال التدريس في المرحلة الجامعية وألعاب القوى، فقد تتعرض للتهديد من خلال التكنولوجيا في شكل التعليم عبر الإنترنت (عن بعد). يوفر التعليم عبر الإنترنت منافسة يمكن أن تقلل من الالتحاق بالجامعة وتوفر أقل للمبادرات البحثية. التحدي الثاني، يتمثل في الهوية المؤسسية، وقد تم توسيع هذا على مر السنين ليشمل مجموعات من النساء والأقليات العرقية وغيرها ممن لم يتم تمثيلهم في كل من وظائف هيئة التدريس والإدارة. تقوم المؤسسات بعمل المزيد ويجب أن تفعل في هذا المجال في الوقت الراهن. سيتطلب ذلك طرقًا جديدة لزيادة القوة المتجددة واستخلاصها من التنوع أثناء تحديد المواهب البحثية وتوظيفها. ثالثاً، المخاطر السياسية المتعلقة بعدم المساواة والتمويل والهجرة. يُؤكد المؤلف أنَّ نظام الجامعات البحثية قد استفاد على مر السنين من عدم المساواة في التمويل، مما يزيد بشكل كبير من قدراتها البحثية. لذلك، يمكن أن تؤثر التغييرات السياسية على مصادر واستخدامات التمويل حيث يمكن أن تنبع المخاطر السياسية من اليسار أو اليمين. بالإضافة إلى ذلك، كانت الهجرة موردًا مهمًا للمواهب البحثية. يمكن أن يكون الحد من الهجرة سيفًا ذا حدين قد يُؤثر على الجامعات البحثية الأمريكية وكذلك العالمية. وأخيرًا، التكاليف الخارجة عن السيطرة. يصبح هذا الجزء مثيرًا للاهتمام حيث يحاول ميغيل تبرير ارتفاع التكاليف باستخدام "تأثير بومول" ، والذي يتعارض مع النظرية الاقتصادية الكلاسيكية لزيادة الرواتب المرتبطة بزيادة إنتاجية العمل. ببساطة ، يشير إلى أن التعليم عالي الجودة يأتي بسعر أعلى. نظرًا لأن العديد من الجامعات البحثية العُليا فيها مبتكرون تقنيون، فقد كانت مهمة في تطوير المنتجات والخدمات والعمليات التي توفر فوائد متسقة للمجتمع.

كتاب الأسواق والعقول والمال يقدم قراءة مُمتعة حول كيفية تطور نظام التعليم العالي في الولايات المتحدة وكيف أصبح في موقع فريد لقيادة العالم في مجال البحث. يجمع الكتاب ببراعة بين النظرية الاقتصادية والتحليل التاريخي ليُجادل بشكل مقنع كيف جاءت الجامعات الأمريكية في مرتبة غير متكافئة في قمة العالم، وإلى أين قد يأخذنا المستقبل.

-----------------------------------------------

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: الأسواق والعقول والمال: لماذا تقود أمريكا العالم في البحث الجامعي

المؤلف: ميغيل أوركيولا

الناشر: Harvard University Press

سنة النشر: 2020

اللغة: الإنجليزية

عدد الصفحات: 360

أخبار ذات صلة