ناصر الكندي
في مقالها "إسهام العلوم الاجتماعية في مد جذور عابرة للثقافات وللفلسفات المختلفة"، والمنشور في مجلة "التفاهم"، تتناول أستاذة علم الاجتماع عائشة التايب، أثر العلوم الاجتماعية في اختراق مجتمعات وأمم العالم الحديث والمعاصر؛ إذ تحاول هذه العلوم فهم هذه المجتمعات وتحليل ظواهرها ومظاهرها.
وفي زمن العولمة، قامت هذه العلوم بتحديث مقارباتها وتصوراتها حول الكون والمجتمعات والثقافات؛ حيث وجدت أغلب تخصصاتها المنبثقة من رحم تساؤلات الحداثة الغربية نفسها مضطرة لتجديد أدواتها ومفاهيمها على نبض الزمن العولمي وإيقاعه. وقد طرحت الباحثة عدة أسئلة في مقالها عن كيفية تجديد هذه العلوم مفاهيمها للإحاطة بنتائج العولمة؟ وعن دور العلوم في تجميع أضداد الزمن الكوني؟ والجهود التي بذلها مفكروها في لفت الانتباه لخصوصية الثقافات وفرديتها في أزمة الشمولية؟ ودور هذه العلوم في تجسير الثقافات؟
وبسبب الثورة التكنولوجية وفضاءات العالم الافتراضي التي دمرت الحدود والحواجز، خاصة في فلسفة الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية، واللحظة الفارقة المتمثلة في التحولات السياسية من انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي، واستقلال دولها وحرب الخليج الأولى، تم طرح العديد من المقاربات منها صراع الحضارات ونهاية التاريخ وغيرها، كما اتجهت المحاولات الأكاديمية الأولى في الإشادة بالمستوى الكوني على المستوى المحلي، إلا أن التوجهات المحلية سرعان ما احتلت الساحة مدافعة عن خصوصيتها لدرجة أن تم تبني مفهوم (الكوني- المحلي) لجمع هذين المفهومين.
وانقسمت النقاشات بين مؤيد للعالمي ضد المحلي والعكس صحيح، بينما يرى "كيث ناش" أن عولمة الثقافة لا يمكن أن تكون عاملا منتجا للتجانس، نظرا لعدم تضاد العالمي مع المحلي تضادا مطلقا، بل يمكن عد كل منها مرتبطا ارتباطا حميما بالآخر. وناقش "رولاند روبرتسون" ذات المسألة حيث سلط الضوء على إهمال العلوم الاجتماعية لنشوء العولمة في المكان وفضل تعريف العولمة بأنها "نظرة عالمية مرتبطة بأوضاع محلية". وعليه، تعالت الدعوات بضرورة استيعاب العلوم الاجتماعية لهذه اللحظة المفصلية من تاريخ الإنسانية وسعيها لمحاولة فهم أبعاد السياق العولمي والإحاطة بظواهره وأبعاده.
وتشير الباحثة إلى أنَّ الساحات الغربية عرفت هذه المبادرات البحثية في العشريتين الأخيرتين، بينما لم يكن هناك صدى يذكر في الساحات الأكاديمية والبحثية العربية في العلوم الاجتماعية؛ حيث ندرت ساحات النقاش العلمي والأكاديمي الجدي والبناء حول ظواهر الكوني أو العولمي ومظاهرهما. ورغم الجهود، فإن المبادرات العربية ظلت جهودا فردية متناثرة لم تفض لمقاربات علمية تخصصية مجددة. وربما يعزى تأخر تأسيس ملامح حقل معرفي حول دراسات العولمة في الأكاديميات العربية إلى نوع من الولوج المتأخر والمتعثر لدراسة الظاهرة، إذ يلاحظ غياب ذلك عن المقررات الأكاديمية في الجامعات العربية.
ويمكن القول إنَّ وعي المفكرين الاجتماعيين بفكرة وحد العالم ومضمونها ليس جديدا في تراث العلوم الاجتماعية، ويمكن تتبع آثاره عند الفيلسوف وعالم الاجتماع "سان سيمون" (1760-1825) إذ تناول بالتحليل ما يمكن أن ينجم عن التبشير باختراع التلغراف في عصره، وما يمكن أن يسفر عن ذلك الاختراع من تغيرات جذرية في العالم. كما تم تداول هذا الحقل في ستينيات القرن العشرين عن تماثل العالم وتوحيد ملامح المجتمعات الإنسانية. وقد كان هذا الوعي مصحوبا بفهم جديٍّ للتداعيات الخطيرة المصاحبة، فقد ندد بذلك المؤرخ الأمريكي "ثيودور فون ليو" حين أشار إلى أنَّ العالم الكوني سيحكمه فاعلان أساسيان متناقضان: قوى الجماعة الكونية، وقوى الخصوصية الثقافية.
وقد انتبهت العلوم الاجتماعية لهذه المخاطر، ووجدت نفسها أمام أسئلة ملحة ومعقدة عن دورها في فهم وتفسير هذا العالم الجديد. واتجهت أسئلة العلوم الاجتماعية حول تنامي الفروق السوسيو - اقتصادية، وعدم المساواة بين البشر والدول، وتشظي الهويات. وتحاول العلوم الاجتماعية خلق جسر بين العالمي والمحلي والخصوصي والمعمم بغرض طرح مفاهيم ونظريات أرحب. واتفق الاجتماعيون على عدم اختزال الزمن العولمي في أجهزة الحاسوب والاتصالات السلكية واللاسلكية بعيدة المدى والأسواق المالية والجريمة المنظمة، بل يجب أن تفسح العولمة المجال لعولمة أخرى قائمة على قوة إحساس الأفراد والشعوب بالانتماء لهذا العالم، والاعتماد المشترك للبشر فيه بعضهم على بعض.
وتفاءلت العلوم الاجتماعية بالعولمة، وأن البشرية تتجه نحو الأفضل متفقة في ذلك مع الفيلسوف "كانط"، وقد نادى الاجتماعيون إلى إبرام "عقد ثقافي" يقوم فيه العالم الجديد بإرساء تعاقد متعدد الأركان والأسس. ويجوز القول إنَّ العلوم الاجتماعية واجهت على أعتاب هذا الزمن الكوني تحديات أهمها: اختبار مهارتها في استنباط مقاربات ومفاهيم علمية، ومقاربات قادرة على مواكبة اللحظة، وطرح بعض علماء الاجتماع أطروحات صادمة في مستقبل العولمة مثل "نهاية المجتمع" لآلان تورين وضرورة "تغيير العالم" للاتور. وبسبب المشاكل الحالية للعولمة، دفع هذا الوضع علم الاجتماع نحو ضرورة الاهتمام بقراءة جديدة بآليات جديدة مختلفة عن علم اجتماع القرن التاسع عشر.
وعليه، تبيَّن أن مفهوم الثقافة وما يتناسل منه من مفاهيم -مثل النسبية الثقافية أو الخصوصية الثقافية والتعدد الثقافي وغير الثقافي أو العابر للثقافات الأخرى- تبدو الأقدر على بناء جسور التواصل والوصل بين الكوني بالمحلي. وتحولت الهيمنة تاريخيا من الاستعمار في القرن التاسع عشر إلى الاقتصاد في القرن العشرين وفي نهايته بالأنثروبولوجيا. وأكد عالم الانثروبولوجيا "فرانس بواس" على أهمية التسامح مع الثقافات المختلفة واحترامها. ويمكن القول عموما إنَّ العلوم الاجتماعية تجاوزت إلى حد كبير بعض زلات الفكر التطوري للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما رافقهما من تشريع لاستعمار الشعوب الأخرى بهدف الارتقاء الحضاري.
ومهما يكن من أمر، فلا بد من الاعتراف بأن الساحة الفكرية اليوم تدين للعلوم الاجتماعية -ولعلماء الانثروبولوجيا تحديدا- بإبراز نسبية التجانس في كل الأنساق الثقافية. وبالرغم من معارضة بعض المفكرين الاجتماعيين للقبول بمبدأ الاعتراف بالآخر والتسامح مع الاختلاف؛ إذ يرونها تجاوزا للتنوير الأوروبي لصالح الأحكام العرقية المبسترة، فإن هذه الأصوات ظلت شاذة مقابل تعالي الأصوات المنادية بضرورة تقبل الاختلاف وتوسيع هوامش التسامح مع الآخر من خلال استثمار فرص مد الجسور العابرة للثقافات المختلفة على أسس المشتركات المؤلفة بين الشعوب والحضارات.
وتختم الباحثة المقال بأن ضرورة الحاجة لاستحضار مقاربات العلوم الاجتماعية ومفاهيمها اليوم أكثر إلحاحا من ذي قبل، وربما تكون هذه المرحلة لحظة تاريخية فارقة وفريدة في تاريخ العلوم الاجتماعية؛ بما يمكن أن تبسطه من أفكار متجددة ومقاومة لما يعمل السياق العولمي على طمسه من خصوصية الشعوب والثقافات.
