أمجد سعيد
"كل ما هو عقلي هو واقعي، وكل ما هو واقعي هو عقلي".. مقولة هيجل التي أدرجها في كتاب مبادئ فلسفة الحق، هي ما بدأ به الأكاديمي يوسف أشلحي في مقاله عن حقوق الضيافة والجوار، تحت عنوان "مداخل المؤتلف الإنساني: حقوق الضيافة والجوار"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، وهذه العبارة هي التي تبيح التساؤل التالي: هل ما يبدو في الواقع ليس إلا انعكاسا لطبيعة العقل نفسه، أم هو شأنه شأن العالم الشعوري الذي ينفصل عن عالم العقل بل يتحداه في أحايين كثرة؟
إذا كانت هذه التساؤلات من بين عدة تساؤلات مشابهة، والتي تبحث في ماهية العقل، هي ذات إجابات تحمل الإيجاب في مجملها، فيجب علينا إدارك ذلك التماثل والتآلف الذي أراد الفلاسفة أن يقبضوا عليه بين العقل وواقعه. ثمة فارق عميق بين وحدة العقل وشدة التباين الذي يخلق التصميم الوجودي في عالم الإنسان. وللواقع عالمه الخاص الذي يحمل منطقاً مختلفا، ويبرهن على نسبية مقولة هيجل في كثير من المواقف. وعلى مر الزمن حاول الفلاسفة فهم العلاقة المتباينة بين العقل وواقعه، وظلت هذه المسألة التي تناقش العقل في ذاته حبيسته هو بذاته، فلم يستطع الفلاسفة شخصنة أو تسهيل هذه العلاقة، ولم يحاول أحد تفكيك هذه العلاقة التي يكتنفها الغموض بين العقل ونمط الوجود في العالم، وهذا يأتي ضمن العملية التي ما زالت تجدد نفسها مع كل جيل، وهي عملية فهم مغزى العقل بشكل كلي وما هي القوانين التي يرتضيها الاستخدام العملي لواقع العقل ومنطق التفكير، والهدف الأسمى الذي يسعى الجميع إلى تحقيقه هو أن يتم استخدام العقل بطرق جديدة مبتكرة، سواء في التفكير العملي وفي أنماط مختلفة من الواقع المعاش، وأن تكون هناك طرق مختلفة لسبر أغوار العقل ومنعه من التقهقر ثانية نحو ذاته، وسوف يستفيد العالم من قدرات العقل في شتى المجالات ومن ضمنها مسائل التعايش وتقبل الآخر والاختلاف والتباين بين الواقع النسبي للعقل والواقع الكلي.
وأصبحت حياة الناس في هذه الأوقات حياة ذات تباين وتنوع شديدين، وهناك تمايز واضح وجلي في القدرات والمهارات، واختلاف في الأساليب المستخدمه في إنجاز العمل وبناء التصورات حوله وحول الحياة ككل، وبهذا أصبحت هناك حاجة ماسة لبعض التغييرات التي تقوم مقام المقرب والمساوي لهذه الفروقات الواضحة، لأن هذه الفروقات قد تؤدي لاختلاف من نوع سلبي وإن صح القول هو اختلاف غير صحي البتة. ولأن إصلاح الذوات والنفوس من الجوانب التي اشتغلت بها الفلسفة ضمن مباحث الأخلاق، لكي نكون على بينة من بعض جوانب التدبير الفلسفي لواقعة الاختلاف البشري وبهذا يمكن الوقوف على بعض المبادىء التي تحمل بداخلها قيمة لتحقيق التوافق والألفة بين الذوات.
1- المحبة والصداقة:
هناك تكديس فلسفي هائل حول هذه المسألة بالذات، ويجب أن نشير له هنا؛ فالكثير من الفلاسفة كتبوا حول هذا الموضوع كتبا عدة، وبطرق مختلفة أيضا قد تكون مستقلة أو ضمن مسائل تشترك في الجذر ذاته، بدءا بأرسطو في كتاب الأخلاق، إلى جاك دريدا في كتابه سياسة الصداقة، وهناك أيضا إسهام الفلاسفة المسلمين حول هذا الأمر منهم: مسكويه والتوحيدي. إن وجه التباين بين المحبة والصداقة يكمن في العمومية للأول والخصوصية للثاني. إن مصادقة الإنسان ليست من ضمن النزوات العابرة أو إطفاء لذة متقدة، بل هو تعبير حقيقي وصادق عن الحاجة لهذا الفعل. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف مسكويه وعبر عن هذه الضرورة، وأن هذه الضرورة أي الصداقة تحتاج لفعل التوحيد والإئتلاف وهما اللذان يملأن المحرك الأول لفعل المصادقة. بالنظر إلى الصداقة على أنها أرقى أنواع الأشكال الجمع بين طرفين، يجب علينا التأكد أولا من أن هذه العبارة هي عبارة نسبية، فهذا الرقي لا يعمم على كل أشكال الصداقة، وهناك وجهان أو شكلان للصداقة لا ينسحب عليهما هذا التعميم، هما صداقة المنفعة وصداقة اللذة. لذلك نجد أن الفلاسفة أجمعوا على أن مثالية الصداقة تكمن في البحث عن الفضيلة والخير للجميع.
2- التسامح:
إنَّ السياق الذي نشأ فيه مفهوم التسامح لهو سياق خاص ويحمل معه بعض التعقيدات؛ فهذا السياق هو الذي عبّد الطريق لظهور التسامح، فكان سياقاً يتسم بالانتماء المطلق والتعصب الأعمى لمعتقد ما أو مذهب ما يرى أنه يمتلك حقيقة مطلقة. إن مثل هذا الاعتقاد كان له ما كان من إهدار النفوس وإنهاء الحياة لمن ينتمون لمذهب واحد، فما بالنا بالذين ينتمون لمذاهب مختلفة؟ إن مثل هذه الأوضاع التي تهدد إمكانية العيش المشترك، كانت هي الدافع الأقوى للدعوة والدفاع عن التسامح ونشر القيم التي يتسم بها، والتي ارتبطت بمرحلة رجوع وانبعاث النزعة الإنسانية، والذهاب بالمجتمع نحو الإصلاح والنهضة والتحديث.
إنَّ الواقع في تجلياته المتبانية، والتي تنقسم لقمسين أساسيين؛ هما: قسم الخير وقسم الشر، إنما هو تعبير عن فكرة سرمدية تعشش في عقولنا، وهو رؤية تمت ترجمتها لتشكل لنا تصورنا نحو وضع معين. حينما ننفي من عقولنا أي إمكانية مستقبلية للاختلاف، ونقوم بتفريغه من كل إمكانية أن يحتضن الوجود في تعدده وتباينه، فنقوم باستخدامه بشكل يحمل في طياته ثقة عمياء وحقيقة واحدة مطلقة يجب أن يعتقد بها الكل وينصاع لها الجميع.
