الفكرة الهيجلية لمفهوم الدين

أم كلثوم الفارسي

تتَّصل الفلسفة اتصالاً وثيقاً بالدين، تلك هي القضية الأبرز التي انبثقت عنها شتى القضايا الرئيسية والفرعية على السَّواء؛ حيث كانت الفلسفة على الدوام مرافقة للدين؛ سواء كانت داعمة له أو ناقدة، إلا أنَّها في النهاية تُسَانِد الدين بقوة، ويتجلَّى ذلك في أروع صورة في تطوير الفلاسفة للديانات القديمة، ومحاولة تخليصها من طابعها الأسطوري للارتقاء بها إلى مصاف العقل والروح، ليكُون العقل دليلاً على الإيمان، ويكُون الإيمان مؤيداً بالعقل، وتلك جدلية منطقية أكَّدها الشارع الحكيم في رفعه للتكليف عن المجنون؛ لأنَّ العقل مناط التكليف، وهذا دليلٌ دامغ على مكانة الفلسفة في الدين وعظمة الدين في الفلسفة.

ففلسفة الدين هي تلك النظرية التأملية التي قدَّمها الفلاسفة حول الدين وقضاياه المختلفة لتعمق الربط بين الفلسفة والدين؛ فعلاقة الفلسفة بالدين، وعلاقة الدين بالفلسفة، هي من القضايا الشائكة التي شغلت الفكر البشري قروناً طويلة، خاصة فيما عُرف في الفلسفة الإسلامية باسم "العداء بين الدين والفلسفة"، الذي تمثل في كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة"، وفيه نقد لآراء الفلاسفة في الدين والطبيعيات، حيث انبرى ابن رشد للردّ عليه في كتابه "تهافت التهافت"، ممّا زاد المعركة اشتعالاً، وزاد الأزمة ترسخاً.

تُعتبر فلسفة الدين الدراسة العقلية للمعاني والمحاكمات التي تطرحها الأسس الدينية وتفسيراتها للظواهر الطبيعية وما وراء-الطبيعية؛ مثل: الخلق والموت ووجود الخالق. لا سيما وأن فلسفة الدين هي فرع من فروع الفلسفة تتعلق بالأسئلة المختصة بالدين، كماهية وطبيعة الرب وقضية وجوده، وتفحّص التجربة الدينية، وتحليل المفردات والنصوص الدينية، والعلاقة بين الدين والعلم. وهو منهج قديم، وُجِد في أقدم المخطوطات المتعلقة بالفلسفة التي عرفتها البشرية، وهو يرتبط بفروع أخرى من الفلسفة والفكر العام كالميتافيزيقيا والمنطق والتاريخ. وعادة ما يتم مناقشة فلسفة الدين خارج الأطر الأكاديمية من خلال الكتب المشهورة والمناظرات، خصوصاً فيما يتعلق بقضيتي وجود الرب ومعضلة الشر. وفلسفة الدين تختلف عن الفلسفة الدينية من ناحية إنها تطمح لمناقشة أسئلة تتعلق بطبيعة الدين ككل عوضاً عن تحليل المشكلات المطروحة من نظام إيماني أو معتقد معيّن. هي مُصمَّمة بطريقة تجعلها قابلة للنقاش من قبل كل من يعرّفون أنفسهم بأنهم مؤمنون أو غير مؤمنين.

تُمثِّل الكتابة في فلسفة الدين أزمة في حدّ ذاتها؛ إذ يمكن لآلاف الكُتاّب والفلاسفة أن يكتبوا فيها، ويخرج كلّ موضوع ممّا كُتب متفرداً ومتميزاً تماماً عن الآخر، قد يكون ذلك باختلاف الفلاسفة الذين تناولتهم الدراسة، وقد يكون باختلاف نوع التناول ذاته لدى المفكر أو الباحث، لكن تظل السمة المشتركة بين الجميع وحدة موضوعات وإشكاليات فلسفة الدين، وإن اختلف الفلاسفة الذين تناولوها، وتالياً تُصبغ كلّ دراسة بالأصالة والتميز على حدة وفقاً لقدرات مبدعها الفكرية والمنهجية والأدبية، وهو ما يُضفي صعوبة من نوع خاص على الكتابة في فلسفة الدين بصفة خاصة.

ونستعرض في هذا المقام الفكرة الهيجلية لمفهوم الدين، على اعتبار أنَّ عصر هيجل هو العصر الديني العميق؛ إذ كان على كل فيلسوف أن يُعالج الدين في فكره، أو يخصص له مساحة في قضاياه، معتمدين في ذلك على ما تناوله الدكتور مصطفى النشار في مقالٍ مطول -بمجلة "التفاهم"- تحت عنوان "الدين والألوهية في فلسفة هيجل"، والتي أوضح فيها أن الدين حالة ضرورية للروح في ملازمة العقل ضمن تطورهما الجدلي، ويعني هذا أن وجوده ليس بالصدفة، وإنما هو عمل ضروري من أعمال العقل، وهذه الفكرة الشاملة هي فكرة هيجلية؛ أي أنَّ العقل قادرٌ على أن يقود الإنسان إليه دون مساعدة من الوحي، وأن أشياء كثيرة في الديانات لا تُؤخذ بمعانيها الحرفية فقط لكن تؤخذ، وهذا رأي هيجل، بمعناها الداخلي ومضمونها الفكري، أي أنَّ هناك مساحة فاصلة بين الإنسان وبين الخالق، وما أسماه هيجل بالعقل الكلي الذي هو الله، وبين العقل الجزئي الذي هو الإنسان، ويعمل الدين بما يحتويه من إدراك ونقل تجارب الأوليين على ردم تلك الهوة، والعبور إلى الخالق؛ حيث تعتبر فلسفة الدين عند هيجل العمود الفقري لكل شيء؛ حتى إن هيجل يقول: "نحن نعرف وجود الله، وهذه المعرفة موجودة فينا وجودا مباشرة،        لدرجة أنها تغدو سلطانا، وهو السلطان الداخلي للوعي". ويضيف هيجل: أن "الله في حقيقته ليس محض مثال يُولده الخيال، بل إنه يتدخل في كل الواقع الخارجي، والدين عند هيجل يفعَل فهمنا للحياة الذي لا نصل إليه عن طريق الفهم والفكر" كما يقول. فعن طريق الدين، نرى الحياة المتناهية ترتفع إلى الحياة اللامتناهية، وما ذلك إلا لأنَّ الحياة المتناهية هي نفسها حياة؛ وبالتالي فهي تتضمَّن في باطنها إمكانية الارتفاع إلى الحياة اللامتناهية. ويمثل الدين جزءا من سُلم آليات إدراك ماهية الروح عند هيجل، وماهية الروح ليست الشعور أو الوجدان ولا الانفصال أو الوعي الحسي ولا حتى الفهم بلا عقلنة، لكنها بعبارة أخرى هي الفكرة الشاملة؛ وبالتالي فإنَّ أي إدراك حقيقي للمطلق لابد أن يُتعرَّف عليه بوصفه موضوعا من موضوعات الحس؛ فهو فكر خالص أو عقل كلي تجاه الخالق. لقد حولت فلسفة هيجل الدين إلى فكر وهذا إلى وجود، أي أنَّه اعتبر الدين هو الفلسفة، والعقيدة هي الوجود. لأنه لم يكتف بتأسيس الإيمان وخلود النفس على أسس عقلية كما عند ديكارت، ولم يكتف بالحديث عن الدين في حدود العقل كما فعل كانط. ولم يجعل العقل هادما للعقائد كما في عصر التنوير. بل وحد بين العقل والوحي.

فقد كان الفيلسوف فرانسس بيكون على حق؛ حين قال: "إنَّ قليلا من الفلسفة يقرب الإنسان من الإلحاد، أما التعمُّق في الفلسفة فيرده إلى الدين". فالإنسان لا يستطيع بحال أن يعيش بلا دين، فكما أنَّ الإنسان مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش منفردًا معزولًا عن المجتمع؛ فهو أيضًا متدين بفطرته لا يستطيع أن يعيش عيشًا سويًّا بلا دين؛ فالتدين فطرة طبيعية للإنسان، وليس أدل على ذلك من لجوء الإنسان إلى الله -عز وجل- حال الشدة والاضطرار.

أخبار ذات صلة