حرية المعتقد في الإسلام

فيصل الحضرمي

يُعدُ الحق في اختيار الدين ومُمارسة شعائره بحرية تامة أحد أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان، بل إنَّ إسلام المرء نفسه يُشترط في صحته أن يكون نابعاً من إرادته الشخصية، وألا يكون خضوعاً لإكراه، ولا اتباعاً لتقليد. ولحرية المعتقد أهمية بالغة في الإسلام، نظراً لما تمثله من دعامةٍ أساسية للاجتماع البشري القائم على التآخي، أو بتعبير آخر؛ لكونها قاعدة صلبة للتعايش، حسبما جاء في عنوان مقالة الباحث الجزائري قدور سلاطة المنشورة في مجلة التفاهم: "نظرة الإسلام لحرية المعتقد كقاعدة صلبة للتعايش"، والتي نستعرض هنا أهم ما جاء فيها حول هذا الموضوع.

من حيث التعريف، يُقصد بحرية المعتقد تمتع الإنسان بالحرية الكاملة في اختيار الدين الذي يراه مناسباً، كما في إقامة الشعائر والطقوس التي نصَّ عليها دينه، وهو ما يستلزم توقير أماكن العبادة، والمحافظة عليها، ودفع الأذى عنها. وحرية المعتقد مبنية على ثلاثة عناصر أساسية لا تقوم لها قائمة بدونها. أولها: أصالة التفكير وتحرره من التقليد. وثانيها: حرية الاختيار وبرؤه من أشكال الإكراه المُختلفة، تهديداً أو إغراءً. وثالثها: حرية الإنسان في مُمارسة دينه، فلا يُضطهد، ولا يمنع من إقامة شعائره التعبدية.

ولقد أقرت الشريعة عدداً من التدابير التي من شأنها حماية حرية العقيدة. فقد وجه الشرع الناس إلى ضرورة احترام حق الآخرين في اعتناق ورفض ما يشاؤون من معتقدات. وحض صاحبَ العقيدة على الدفاع عن عقيدته وحمايتها بشتى السبل، بما في ذلك الهجرة إن اقتضى الأمر. كما أنه جعل الاعتداء على حرية الناس في مُمارسة عقائدهم أحد موجبات الجهاد في سبيل الله عز وجل.

وقد تطرقت النصوص الشرعية لمسألة حرية المعتقد من عدة جوانب. فمنها ما جاء مؤكداً على الحرية الاعتقادية، مانعاً من الإكراه على الدين، مثل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويُؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}. وقوله: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}. ومنها ما جاء مدافعاً عن حرية المعتقد، كقوله تعالى: {الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

وسعياً منه إلى ضمان حرية المُعتقد، سلك القرآن الكريم منهجاً واضحاً يقوم على أربع ركائز. أولى هذه الركائز تتمثل في تحديد وظيفة صاحب الرسالة. وبحسب الكاتب، فإن الحرية الدينية "هي التي حددت وظيفة صاحب الرسالة". فوظيفته تقتصر على الشرح والبيان، وتحبيب الناس وترغيبهم في الدين، دون أن تتجاوز ذلك إلى إكراههم على اعتناقه. قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} وقال أيضاً: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

وتتمثل الركيزة الثانية في عدم التدخل في الشؤون العقدية لمعتنقي الأديان الأخرى، وتركهم وما يدينون به. وهو ما يعني إعطاء غير المسلمين الحرية التامة لممارسة معتقداتهم، شريطة أن يبقوا موفين بعهودهم، ملتزمين بآداب النظام العام. قال تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنَّ الله يحب المتقين}. وثمة العديد من الشواهد التاريخية التي تثبت سير المسلمين على هدي كتاب الله في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، نهى سيدنا محمد عن التدخل في شؤون اليهود. قال صلى الله عليه وسلم: "لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم". كما نهى عن التعرض لرجال الدين في الحرب. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع".

وثالثة الركائز هي عدم مُحاسبة الناس على معتقداتهم المختلفة، وترك الفصل في أمرهم إلى الله وحده. قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}. فتنوع البشر والاختلاف فيما بينهم سنةٌ اقتضاها الله سبحانه وتعالى في خلقه، ولا مبدل لسنن الله. قال تعالى: {ولن تجد لسنة الله تبديلاً}. وما كان للإسلام أن يقف في وجه سنن الله الثابتة، بل هو يتعامل معها باعتبارها واقع إرادة الله عز وجل.

أما الركيزة الرابعة، فتتمثل في توجيه الناس إلى التنافس في الخير بغية صرفهم عما يُثير الحزازات بينهم. فبعد أن نهى القرآن الكريم عن التخاصم في الأمور العقدية، ها هو يوجههم إلى البديل الذي يتحقق به تفريغ الطاقات على النحو الأمثل. قال تعالى: {ولكلٍ وجهةٌ هو موليها فاستبقوا الخيرات}. فما ينبغي أن يشغل الناس جميعاً هو عمل الخير لا سواه، فبه يتحقق التفاهم بين الأديان، وبه يتحقق التعايش السلمي بين شعوب الأرض جميعاً.

ولأن الحرية في الإسلام كلٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتخصص لفئة من الناس دون غيرها، فقد كفل الإسلام الحرية الشخصية للمسلمين وغير المسلمين. والقاعدة الفقهية التي سار عليها المسلمون في هذا الشأن هي "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة". وتتعدد مجالات الحرية الشخصية المكفولة لغير المسلمين ضمن ضوابط معينة حددها الشرع لضمان عدم الإخلال بالنظام العام. فلهم الحرية في إقامة الشعائر التعبدية، ولهم الحرية في الدعوة إلى دينهم والمُجادلة عنه، ولهم الحرية في الفكر والتعليم، ولهم الحرية في التنقل والسفر من بلد لآخر بغرض التجارة وسواها.

أخبار ذات صلة