الثقافة أم العلم؟

عاطفة ناصرالمسكري

في نص" إشكالية الوحدة والتنوع في الثقافة" يُناقش الأستاذ منجي الزيدي- أستاذ تعليم عالٍ بجامعة تونس- الثقافة بمفهومها العميق عبر المسطرة الزمنية. لطالما راودتني أسئلة حول الترجمة الحرفية لكلمة ثقافة من اللغة الإنجليزية "CULTURE  " حيث إن الكلمة الإنجليزية تبدو أوسع نطاقاً من فحوى الكلمة في اللغة العربية. يجيب الأستاذ منجي في هذا النص على السؤال بطرح مفهوم الثقافة بشكل عام، حيث بات مــن المعلوم أن أغلب التعريفات المتداولــة عن الثقافة في الخطاب العلميٍ ـ بقدر كبير ـ بما اقترحه «إدوارد تايلور» نهاية القرن التاســع عشــر ترتبط بالمعرفة والاعتقــاد والفن والأخلاق والقانون. إذا نلاحظ هنا أن التعريف كان غالبا يقتصر على الأمور الفكرية أو غير الملموسة في الغالب،  ولكن هذا التعريف أعيد صياغته تحديدا في 1998 وأيضا في اليونسكو بعد قرن من الزمان سنة 1982. وأكدت المنظمة أن الثقافة ـ بمعناها الواســع ـ قد تكون اليوم عبارة عن جمع من السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية والتقاليد والمعتقدات؛ فنجد أن التعريف أصبح أكثر شمولية ليغطي الجوانب الملموسة أو المادية كذلك. وهذا يعيدنا إلى مصطلح "CULTURE " باللغة الإنجليزية التي هي أقرب للحضارة أو "ثقافة الحضارة " أكثر من كونها مصطلحا يعبر عن عناصر فكرية بحتة قد لا تترجم في الواقع الملموس.

يتطرق الزيدي مرة أخرى للمصطلح من منطلق أو زاوية أخرى. الثقافة بإضافة "ال" التعريف كمصطلح لا يحتمل الكثير من التشعبات والتأويلات بينما مصطلح ثقافة دون "ال" التعريفية، يشي بشيء من التنوع وسعة الاحتمالات والتأويلات المفاهيمية.  اليوم وفي ظل التطورات الحاصلة في مختلف مناحي الحياة وبالتزامن مع ارتفاع وزيادة الوعي وأهمية الثقافة لا على المستوى الفكري فقط إنما في كافة جوانب الحياة، أصبح المفهوم يشمل جوانب عديدة كذلك. لم تعد التراكمات المعرفية بمعنى تجميع المعلومات تحديدًا تعد ميزة، خاصة مع التطور التكنولوجي الذي يتيح للإنسان الوصول إلى المعلومة في بضع دقائق أو أقل. أصبح على الإنسان أن يُكرس طاقته الذهنية في ربط المعلومات (المادة الخام) وتطويعها في الحياة بما يتناسب مع اللحظة أو الموقف.

 يقال إن الثقافة تسير دائمًا جنبًا إلى جنب مع التواضع الفكري، ونجد هذه العبارة صحيحة إلى حد كبير فكلما ازدادت ثقافة الإنسان وزاد علمه أدرك كمية المسافة الإضافية التي يحتاج لقطعها في سبيل الاستزادة من العلم، على العكس من أولئك الذين يحبذون البقاء تحت الأضواء والذين يلجؤون لمخاطبة المجتمع من أبراجهم العاجية والتي غالبًا ما تحمل نبرة ازدراء للآخر. أن تكون مثقفًا في جانب متعلق بحياتك لا يعد ترفًا اليوم. ففي ظل الثورة المعلوماتية والفكرية والقفزة التي قفزها العالم نتيجة التطورات الحاصلة جعل الحياة سريعة جدا بما يتناسب مع التطورات السريعة التي تحصل بالمقابل. إضافة إلى ذلك، فإن الإنسان مطالب اليوم بالتأقلم مع نمط الحياة هذا وإلا اعتبر متأخرا؛ فقد لا تعطيه الحياة فرصة الخوض في التجارب والتعلم منه ليصبح أكثر قدرة على التأقلم. وفي حال حدث ذلك يعد أمرا محمودا وإن لم يحدث فلابد أن يلجأ الإنسان إلى الاطلاع والاستزادة لرفع المستوى الثقافي لديه. لا تقتصر الثقافة على الجانب العلمي فقط، حتى أبسط أو أكثر الأمور تعقيدا في الإنسان – عواطفه -  تحتاج إلى مستوى معين من الثقافة للتعامل معها. قد لا يكون من المبالغة اليوم إذا ما قلنا إن الثقافة أسلوب حياة. وفي هذا السياق كثيرا ما  تطرح أسئلة لقياس ما مدى أهمية كون الإنسان مثقفاً من كونه مُتعلماً فقط دون أن يكون مثقفا! من منظور شخصي أجد أن الثقافة والتعليم من المفترض أن يكونا وجهين لعملة واحدة حيث يصعب حقيقة الأمر أن يصبح الشخص مثقفا حقيقيا دون تعليم والعكس صحيح، وتبقى قيمة العلم ناقصة إذا اكتسبها من لا يعرف كيف يسخر العلم المكتسب ليستفيد منه في الحياة الواقعية لتنمية جانب ما في الحياة سواء أكان لنفسه أو لمجتمعه أو لوطنه أو بما يتناسب مع معطيات الواقع. حقيقة إنَّ الشهادة اليوم لا تصنع مثقفاً وأيضاً كم المعلومات المكدسة لديك لا يصنع منك مثقفاً. إنما "النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق" والتي تنعكس في الجوانب الحياتية المختلفة منها المهني، والاجتماعي والفكري. كما أنه غالباً ما يكون لديه حس المسؤولية الاجتماعية عالياً لأنَّ الفجوة غالباً ما تكون حاضرة بين معطيات الواقع الاجتماعي وبين الصورة التي من المفترض أن يبدو فيها والتي غالبا ما يدركها المثقف. يبقى النقاش معمقاً إذا ما جئنا نناقشه على المستوى الفردي والمفاهيمي لكلمة "الثقافة" أخذا بالحسبان أنه هنالك أيضاً أنظمة ثقافية تعكس الأسلوب الفكري لمجموعة ما. هنا يصبح الحديث أكثر تشعبا إذا ما تحدثنا عن ثقافة ما، العربية أو الإسلامية أو الأجنبية مثلا؛ حيث يسود الحديث في هذا السياق عن الحوار بين الثقافات وتدخل فيها عناصر متعلقة بالعولمة والاندماج الثقافي التي طرحها الأستاذ منجي الزيدي على هيئة التحولات التي حصلت للثقافات عبر الزمن وكيف أثرت العولمة في المسافات فيما بينها. غلبت فكرة "عدم التناسب" فقط لمجرد كون الآخر مختلفا إلى الحوار ومحاولة تقريب وجهات النظر من ناحية والوصول إلى نتائج مرضية لكافة الأطراف أو الثقافات من ناحية أخرى. إن الحوار مطلب ضروري لا خيارا وترفا في ظل المعطيات الواقعية وأمام العولمة تحديدا. تتغير المفاهيم ابتداء من المفاهيم المرتبطة بالأفراد وحتى أكثر المفاهيم تعقيدا والتي ترتبط بكيانات أخرى مثل الدول بسبب تغيير المعطيات  " فيبقى التغيير هو الثابت الوحيد عبر العصور " .

أخبار ذات صلة