التنوع والاختلاف نعمة وإغناء

أحلام المنذرية

مما لا شك فيه أن الحرية من القيم الأساسية في حركة تحضر الإنسان أفرادا وجماعات؛ فنهوض الأمم وسقوطها مناط بمدى شيوع قيم الحرية في مجتمعها.. نتطرق في هذا المقال لأهم ما ورد عن محمد الناصري في مقاله "حرية الاعتقاد في القرآن الكريم الأصل المنهجي لفقه التعارف والاجتماع الإنساني"، والمنشور بمجلة "التفاهم".

ويتحدث الناصري عن أنواع الحرية الأكثر أهمية للوجود الإنساني وهي حرية الاعتقاد من حيث حرية الإنسان في أن يتبنى من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير، أو ما يصل إليه بأي وسيلة أخرى من وسائل البلاغ؛ فتصبح معتقدات له. ومن العناصر المكونة لحرية الاعتفاد الإعلان عن ذلك المعتقد والتعبير، وحرية الممارسة السلوكية من القيام بالشعائر التعبدية، مثلا، وإقامة الاحتفالات بالمناسبات والأعياد الدينية، وما إلى ذلك من مظاهر التطبيق السلوكي، وحرية إعلامية بوسائلها المختلفة في البلاغ والنشر، ومن حرية في تجمع الناس وتجميعهم من أجل تبليغ المعتقد إليهم وشرحه لهم.

 

إن هذه العناصر المكونة لحرية الاعتقاد إذا ما اجتمعت اكتملت بها تلك الحرية؛ فقد تضافرت آيات القرآن الكريم على توكيد حرية الاعتقاد، قال الله تعالى: "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا"، وقوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ"، وبين طريق الخير والشر، وترك له ساحة الاختيار الحر، ولم يشأ الله التدخل لإكراه الناس على اتباع طريق الرشاد. وتؤكد هذه الآيات على حرية الإنسان خاصة فيما يعتقده، والخيار الأمثل الموافق لفطرة الإنسان وسُنن الوجود الإنساني هو ضمان حرية الاعتقاد والتدين. ولعلَّ من أعمق الآيات القرآنية دلالة وأشدها وضوحا في الاستدلال على توكيد حرية الاعتقاد وتثبيتها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"؛ وعليه فحرية العقيدة كما جاء بها القرآن الكريم قضية اقتناع بعد الإدراك، وليست قضية إكراه وإجبار.

ويضيف الكاتب بأنَّ القرآن الكريم أقر حرية التفكير والتعبير؛ إذ يقرِّر الله لك حرية التفكير والتعبير للناس، ويمنحهم الحرية في أن يفكروا ويعبروا بما شاؤوا. ولقد ضرب القرآن أمثلة في تقديره لحرية التفكير والتعبير، يتجلى ذلك من خلال دعوته المتكررة إلى إعمال العقل للنظر في كل شيء منها: الدعوة إلى النظر في الكتاب المنظور (الكون): "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، والدعوة إلى التفكر في الكتاب المسطور (القرآن): "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"، كما يتجلى تقدير الله لحرية التفكير والتعبير من خلال ثنائه على الذين يستخدمون عقولهم ويميزون بين الأشياء فيتبنون أحسنها  في مقابل ذلك ذم الذين يعطلون عقولهم وشبههم بالدواب.

ويعد القرآن الكريم الاختلاف من الخصائص الواضحة في تكوين الاجتماع البشري؛ فهو يحدثنا عن الاختلاف والتنوع في أكثر من خطاب، بل جاءت نصوص أخرى تؤكد عليه في أمر انقسام البشر إلى مجموعات بشرية، تشكلت في أمم هي القبائل والشعوب. ففي القرآن يتحول التنوع والاختلاف من نقمة إلى نعمة وعطاء وإغناء للمسيرة الإنسانية؛ ذلك أن الناس منحدرون من أصل واحد، والاختلاف المناخي والجغرافي والديموغرافي والقومي والعرقي والديني هو الطريق إلى التعاون والتكامل والتعارف والتحاور والتعايش.

وعلى الرغم من كل هذا، نجد أنَّ بعض المفسرين قد حكموا بنسخ قوله تعالى: "لا إكراه في الدين"، بآية السيف، شأنه شأن باقي الآيات التي تؤكد حرية الاعتقاد، وأن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال، وأنها من آيات الموادعة التي نسخت، وحجتهم في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا بالإسلام.

 

ردود على هذه الدعوى

الأول: تاريخ النزول "لا إكراه في الدين" من الآيات المتأخرة نزولا؛ مما يتعارض والقول بأنها من آيات الموادعة المنسوخة بآية السيف؛ فالظاهر أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة للهجرة.

 الثاني: إنَّ الغاية من قتال المشركين المنصوص عليها في آية السيف ليست إكراههم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح؛ مما يدل دلالة صريحة وقاطعة على أن آية السيف ليست عامة، وأنها نزلت في خاص من المشركين كان بين رسول الله وبينهم عهد فنقضوه وظاهروا عليه أعداءه، وقد بَرِئ الله ورسوله منهم، وآذنهم بالحرب إن لم يتوبوا عن كفرهم.

الثالث: الآية من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين، والنسخ لا يكون في الكليات، ويدل على أن النسخ لا يكون في الكليات الاستقراء التام، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء.

الرابع: إذ كانت آيات القرآن الكريم قد حددت بوضوح إطلاق حرية الاعتقاد وأحاطتها بسائر الضمانات؛ فلا يتوقع من السنة النبوية أن تأتي على خلاف ذلك.

 

إشكال قتل المرتد

ويوضِّح الكاتب المقصود بالمرتد في قوله: "من بدل دينه فاقتلوه"، المقيد بقوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة"؛ هو الخائن للجماعة مرتكب الجرائم ضدها كإفشاء أسرارها للأعداء، أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية. يأتي هذا الإشكال أي إشكال قتل المرتد ليمثل حلقة ضعف في الخطاب الإسلامي المتعلق بالحرية، بالنظر إلى ما سبق ذكره؛ فإن هذا السؤال يتحول إلى استفهام إنكاري أقرب منه إلى أي شيء آخر، وأن الردة لو اقتصرت على تغيير إنسان لمعتقده دون أن يتبع ذلك بجرائم ضد الجماعة، أو تصاحبها خيانة عظمى، أو محاربة لدين الجماعة؛ فلا إكراه في الدين، وليس لأحد أن يلزمه بقوله بالإسلام.

ويسرد الناصري مظاهر حرية الاعتقاد التي كفلها الميثاق للنصارى؛ منها: حرية الحوار الديني ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأينما كانوا من البلاد، وحرية ممارسة الشعائر التعبدية كاحترام الأساقفة والرهبان وعدم التعرض لهم بالتغيير، وقد أعطى الرسول القدوة في الالتزام بهذا الأمر، يشهد لذلك موافقته لوفد نصارى نجران أداء طقوسهم التعبدية وإقامة صلاتهم بمسجده، وأيضا حق إقامة المعابد ولا يقف الميثاق عند حد إقرار حق إقامة المعابد للنصارى، بل يتجاوز ذلك في تسامح كبير إلى حد التعهد بالدفاع عن كنائس وبيع وبيوت صلوات النصارى، والحرية في التزوُّج بالمسلمين ولا يحق للمسلم إكراه النصرانية على تغيير دينها، إن قبل الزواج منها، بل عليه الرضا والتسليم بذلك.

ويختتم الناصري مقاله بقوله: "بهذا الفهم، يُمكن أن نستنكر استخفاف الحركات الدينية المتطرفة بمشاعر الناس، المدمرة لمفهوم الحرية في الإسلام، ومتحولة بالإسلام إلى وجهة محاكم التفتيش ضد أسسه الكونية، وموقع الإنسان في هذه الكون).

أخبار ذات صلة