جرايم جرارد وجيمس برنارد مورفي
محمد الشيخ
ما أعقد الصلة بين الفكر السياسي والممارسة السياسية! وبين صورة مهاجمي سجن لاباستي الفرنسي الرهيب عشية الثورة الفرنسية وهم يحملون كتاب الفيلسوف السويسري جون جاك روسو "العقد الاجتماعي"، وصورة الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو وهو يتساءل: لأي شيء تصلح الثقافة إذا لم تمنع ما حدث في الحرب العالمية الثانية من أهوال ومآسي، تتناسل عشرات التساؤلات.
وهُوَ ذا ما تَنبَّهَ إليه صاحبا هذا الكتاب لما عنونا خاتمة كتابهما بالعنوان المُشْكَل التالي: "في الزواج غير السعيد بين السياسة والفلسفة". إذ يعتقد الباحثان أن السياسة أكثر من مجرد صدام مصالح، وأن من شأن الأفكار أن تلعب دورا حاسما في شؤون البشر التي ما كانت على وجه الجملة بالشؤون العملية وحسب. ذلك أن "السياسة" معركة أفكار وما كانت مجرد معركة أسلحة؛ على نحو ما أثبتت ذلك الثورتان الفرنسية والروسية، وكما هي سائرة إلى إثباته "الثورة الشعبوية" في الغرب ضد العولمة والإسلام والهجرة والتي هي معركة هوية وقيم أكثر منها معركة سلطة ومصالح.
ولهذا السبب تعرض الباحثان، في هذا الكتاب، إلى مناقشة الأفكار والمفاهيم في كل نظام سياسي كائنا ما كان. والذي عندهما أن نقطة التقاء الأفكار بالواقع تكون دوما مجال تعادي وتصارع، ومثالية وكلبية، ورجاء وفقدانه. ومن هذه الحيثية بالذات يمكن للفلسفة أن تلقي مزيدا من الضوء على السياسة. ومن دون إلقاء الضوء هذا تبقى السياسة لعبة مصلحة مدلهمة تتواجه فيها أسلحة الجهل تحت جنح الظلام.
تُرى من هم هؤلاء المفكرين والدارسين ورجال الدولة الذين شكلت أفكارهم العالم؟ يعرض مؤلفا هذا الكتاب إلى ثلاثين مفكرا ورجل دولة من الغرب والشرق وعلى مر مراحل التاريخ -والتي أداروها على أربع مراحل: مرحلة القدماء ومرحلة الوسطويين ومرحلة المحدثين ومرحلة المعاصرين. وأغلبية هؤلاء وأولئك من أهل الغرب؛ اللهم باستثناء ستة: كونفشيوس -الذي يفتتح اللائحة- والفارابي وابن ميمون وغاندي وسيد قطب وماو تسي تونج. كما أن معظمهم ذكور؛ اللهم باستثناء ثلاثة: واحدة هي الفيلسوفة والمفكرة النسائية الإنجليزية ميري ولستونكرافت -من المحدثين- واثنتان من المعاصرين: حنة أرندت ومارتا ناسبوم. وهكذا، نجد، في المجمل، من القدماء أربعة: كونفشيوس وأفلاطون وأرسطو وأوغسطينوس، ومن الوسطيين ثلاثة: الفارابي وابن ميمون وتوما الأكويني، ومن المحدثين -وهم الأغلبية- خمسة عشر من أشهر فلاسفة السياسة الغربيين؛ فضلا عن ثمانية من المعاصرين: من غاندي -فاتحتهم- إلى المفكر البيئي النرويجي أرن نيس -خاتمتهم.
ويعرض المؤلفان، بداية، إلى الصورة السلبية السائدة اليوم عن "السياسة": إنما السياسة "مستنقع آسن" لم يعد يشكل سوى مشهد سوقي يجمع بين الخداع والطموح والانتهازية؛ بحيث لا مجال فيه للمثل العليا وللأفكار النبيلة. لكن المؤلفين يرومان تنسيب هذا الحكم: كلا؛ إنما الشأن في "السياسة" أن تُجلي وتُسفر عن البشر في أنفس ما لديهم وأخس. ولئن كنا اليوم نعيش الأخس، فلقد كان لنا في التاريخ أسوة حسنة. حيث كانت السياسة تترك مجالا للأفكار والمثل لكي تلقي الواقع العياني، وحيث كانت محاسن المقالة تلتقي مع مناقب الفعالة. والحال أن الشأن في "السياسة" أنها نشاط بشري عظيم وتمديني، وهي البديل عن أن يساس البشر بالقوة وبالخداع. هذا فضلا عن أن "السياسة" هي ما يحدد مصير الإنسان. وكما قال تروتسكي: لئن أنت لم تهتم بالسياسة، فإنها تهتم بك. هذا لا سيما في زمن تكوثر وسائل الاتصال بحيث صارت الأخبار هي باطل الأخبار.
ويرى صاحبا الكتاب أن غاية وضع هذا الكتاب: "كيف تفكر سياسيا" أن يساعد القارئ على أن يتنشط في ما وراء الخبر السياسي لكي يكسب معرفة عن "الشأن السياسي"؛ ومن ثمة أن يقتدر على أن يحكم على عالم السياسة والسياسيين. ذلك أن من شأن "الخبر" أن يدور على "الوقائع"؛ ومن هناك يكون مخصوصا، بينما أمر "المعرفة" أن تكون أعم وأشمل، وأن تتضمن الفهم والتحليل. أَوَ ليست الحكمة هي أعلى وأعمق شكل استبصار لواقع الأمر؟
لذلك؛ يعتبر هذا الكتب دعوة للقارئ -من خلال ثلاثين فصلا قصيرا- إلى الولوج لعالم شخصيات وأفكار استثنائية: من كونفشيوس، حكيم صين العوائد القديمة، إلى أرن نايس، متسلق الجبال وحكيم الطبيعة النرويجي المعاصر؛ ومن الفارابي الحكيم المسلم الباحث عن الإمام الفلسفي، إلى حنة أرندت المثقفة الألمانية اليهودية المنفية؛ ومن أفلاطون الذي اكتوى بنار السياسة اكتواء وخبر حقيقتها، إلى جون راولز الأستاذ السياسي الليبرالي صاحب نظرية العدالة بوصفها إنصافا. ويؤلف هذا الكتاب بين مرويات مشوقة للأحداث وعروض مبسطة للأفكار. ولا يفقد مع ذلك خيطه الناظم: كيف فَكَّرَ هؤلاء المفكرون في "الحياة الطيبة"، سواء حياة الفرد أو حياة الجماعة، من مدخلها السياسي؟ وينهي الباحثان كل فصل بحكمة تلخص فكر من عرضوا إلى فكره.
هذا ويُمكن إجمال معظم الأفكار الواردة في هذا الكتاب، الذي هو أشبه شيء بجولة باذخة في معرض لوحات، في الجواب عن ثلاث مسائل جوهرية:
1- هل السياسة مجرد صراع على السلطة؟ ولئن هي كانت كذلك، فكيف لها أن تختلف عن سلوك الحيوانات حين نشاهدها تتصارع في ما بينها البين حول السلطة والهيمنة والإخضاع؟ وهل الاحتجاج السياسي شيء آخر غير طقوس أشبه شيء تكون بتساطح رؤوس؟ وهلّا كان الزعماء السياسيون مجرد "قردة عراة" يسعون إلى بسط نفوذهم؟ الواقع أنه سعى بعض فلاسفة السياسة إلى المقارنة بين السياسة البشرية وصراعات القوة التي تشهد عليها مملكة الحيوانات. لكن أرسطو اعتبر أن ما يجعل من السياسة البشرية أمرا فريدا إنما هو أن النزاع فيها لا يكون فقط من أجل السلطة، بل يتم أيضا بغية العدل. ولئن كان بمكنة سائر الحيوانات أن تعبر عن اللذة والألم، لكن وحدهم البشر يعبرون عن الخير والشر والصواب والخطأ والعدل والظلم. وإذن؛ ثمة تعالق بين السلطة والعدالة: من شأن سلطة بلا عدالة أن تشن الحرب على مواطنيها، ومن شأن عدالة بلا سلطة ألا تقتدر على حماية مواطنيها. ومَنْ ذَا الذي يمكن أن يحيا تحت حكم السلطة فقط أو يملك العدالة فحسب؟ شأن السياسة الحقة أن تجعل السلطة تمارس بعدالة، وأن تجعل العدالة تراقب السلطة. فما يجعل السياسة نبيلة إنما هو التطلع إلى العدالة، وما يجعل السياسة دنيئة إنما هو الصراع من أجل السلطة.
ويعتقد المثاليون السذج أن مدار السياسة على العدل فحسب، ويعتقد الكلبيون السذج أن السياسة تدور على السلطة فحسب. والحال أن المفكرين السياسيين الذين يتم الحديث عنهم هنا أبعد ما يكونوا عن السذاجتين؛ إذ عَدُّوا هم السياسة ملقى السلطة والعدالة. بعضهم شدد على جانب السلطة: أوغسطينوس، مكيافيللي، هوبز، نيتشه، ماو؛ كل هؤلاء شددوا على "سياسة السلطة"؛ إذ قارن أوغسطينوس الحكام بمقترفي الجريمة المنظمة، بينما ادعى ماو أن السلطة السياسة تنبعث من فوهة سلاح ناري. لكن آخرين؛ شأن أفلاطون والقديس توما الأكويني وجون لوك وروسو وتوماس بين وكانط وستيورات مِلْ وراولز وناسبوم، شددوا على "سياسة العدالة": اعتقد أفلاطون أن شأن السياسة أن تتبدى تبديها الأجلى عندما توكل أمور الحكم إلى الحكماء، بينما دافعت ناسبوم على فكرة أن العدالة تسود فقط عندما يتم إقدار المواطنين على حكم أنفسهم بأنفسهم.
2- لكن، كيف ارتبط المفكرون السياسيون الكبار بسياسة زمانهم؟ والجواب: بعضهم كانوا منظرين أقحاحا أبعد شيء كانوا عن مزاولة السلطة -الفارابي، ولستونكرافت، كانط، هيجل، نيتشه، آرندت، هايك، راولز- حيث كانوا إما من الجذرية بمكان أو من المهنية بمقام بحيث ما شاركوا في السياسة المشاركة المباشرة. وبعضهم تولى مهام سياسية: مكيافيللي وهيوم كانا من الدبلوماسيين، وبيورك وتوكفيل ومِلْ كانوا من المشرعين، ماديسون وماو كانا من بناة الدول. لكن معظم الفلاسفة السياسيين ما كانوا منظرين سياسيين خُلَّص، ولا كانوا ممارسين سياسيين فاعلين، وإنما كانوا مستشارين حاولوا التأثير في زعماء السياسة في زمانهم: قدم كونفشيوس، مثلا، نصائح مهمة إلى الحكام الصينيين المحليين، وخاطر أفلاطون بحياته في رحلته إلى صقلية أملا باطل الأمل في تطبيق جمهوريته، وكان أرسطو مربي الإسكندر الذي لم يعمل بنصائحه السياسية أبدا! ولعب توماس بين دورا رائدا في حشد الجماهير لا في ثورة واحدة وإنما في ثورتين. وبالجملة، معظم الفلاسفة السياسيين سعوا إلى التأثير في حكام زمانهم، لكن ما تم اختيار أسماء الثلاثين لهذا السبب وحده، وإنما لئن هؤلاء دوّنوا أعمال خالدة في الشأن السياسي وطرحوا قضايا ووضعوا أسئلة وقدموا أفكارا تجاوزت ظرفهم المباشر. ولذلك لديهم العديد مما يقولوه لنا، ويدعونا المؤلفان إلى إصاخة السمع إليهم.
3- عندما ننظر إلى التاريخ الطويل للفكر السياسي، من الطبيعي التساؤل عما إذا كان من شأن انتشار الأفكار أن ينشأ عنه أي تغيير في العالم الواقعي. كان كارل ماركس يعتقد بأن لا أثر للفكر في الواقع؛ إذ الفكر نفسه أثر للواقع. ومن شأن التسيس أن يتقدم على التفلسف. ومن أمر البشر أن يتصرفوا قبل أن يتفكروا. وحين يتم التفكر، فلأن هناك صعوبة اعترضت، وبات يراد تصحيح الرؤية. لكن تباين وجهات نظر الفلاسفة تمنع من الإجماع حول مُثُل الممارسة السياسية. أكثر من هذا، يرى نيتشه أن من شأن التفكر أن يفسد السياسة؛ لأن تقحم الأمر واتخاذ القرار بشأنه يتطلب اليقين والثقة، والفلسفة مثار الشك والتفكر والتردد. وقد كان هاملت شكسبير مارس الفلسفة قبل الإمارة، وهو ما يفسر عدم قدرته على اتخاذ القرار؛ إذ كان أدمن التفكر حتى ما عاد قادرا على التصرف. وحده أفلاطون آمن بمقدرة الفلاسفة على تولي الحكم وحسن إيالته.
ولهذا الداعي، يمكن النظر إلى الفلاسفة السياسيين، بالأولى، بكونهم أصحاب رؤى مستقبلية ونبوءات أعلق بالآتي منه بالحالي. لقد فكر أفلاطون في نظام مشاعي ألهم ماركس وماو تسي تونج، وكان نزوعه إلى إلغاء الأسرة النووية مُلهِما للكيبوتزات بإسرائيل ولبعض الحركات النسائية اليوم. وكان دعا مكيافيللي إلى وحدة إيطاليا المتشرذمة؛ الشيء الذي تحقق بعد 350 حولا حيث اكتملت الوحدة الإيطالية. وتنبأ كانط بسلام أوربا الذي تحقق بعد مضي 150 عاما، كما تنبأ روسو بالثورة الفرنسية قبل 25 سنة من حدوثها، وتنبأ بيورك بسيادة الرعب قبل مجيء روبسبيير. وتنبأ توكفيل، في زمن كانت فيه الهيمنة لبريطانيا وفرنسا، باقتسام العالم في يوم من الأيام بين أمريكا وروسيا.
على أن بعض نبوءات المفكرين السياسيين أخطأت طريقها إلى التحقق: نبوءة ماركس بسقوط الرأسمالية الوشيك، نبوءة كانط بسيادة السلم العالمي، نبوءة توماس بين بتحول الأنظمة الملكية إلى أنظمة طغيانية. ثم إن بعض النبوءات كانت من السوداوية والغموض بحيث بتنا نأمل ألا تحصل: فروسو وتوكفيل ونيتشه وآرندت كلهم اهتموا بمستقبل المواطنين في الديمقراطيات المتقدمة، وتخيلوا كيف أنهم سوف يمسون من الرفاه ورغد العيش بحيث لا يغدو لهم من هم اللهم إلا تحصيل الملاذ والتبضع وقد تخلوا عن حريتهم السياسية بالتمام والكمال. بل لربما حتى السياسة نفسها سوف تختفي في زمن عالم معولم قائم على الاستهلاك الخاص الذي تديره نخب بيروقراطية، وكفى المواطنين شر القتال. وكان أن رسم لنا نايس كابوس حياة بشر المستقبل في منفى خارج الكرة الأرضية بعد أن يكونوا قد دمروا أرضهم عن طريق إنهاكها استغلالا.
وآخرا؛ يلاحظ المؤلفان أنهما لئن قيض لهما أن يكتبا هذا الكتاب عشرين سنة من ذي قبل، لكان من المحتمل ألا يُضَمِّنَاه مؤلفين قدامى، شأن كونفشيوس والفارابي وابن ميمون؛ إذ كانت بواكير القرن الماضي قد نبذت الفكر السياسي الصيني والإسلامي واليهودي خلف ظهرها؛ لكن المدهش اليوم أننا بتنا نشهد على إحياء كونفشيوس في صين ما بعد ماو، وتفجر النظرية السياسية الإسلامية في الكوكب بأكمله، وبروز دولة يهودية في الشرق الأوسط. وكما كان قد ذكرنا بذلك وليام فولكنر: "كلا؛ ما مات الماضي، ولا حتى مضى هو". أما في ما يخص المستقبل، فقد وقع خيار المؤلفين على أرن نايس بأن يكون من يختم الكتاب؛ وذلك بسبب تفكره في صلة البشرية بالبيئة؛ وهو الأمر الأهم بالنسبة إلى المستقبل.
وختامًا؛ فإنَّ من شأن القارئ أن يتسلى بالتأمل في العناوين التي وضعها المؤلفان أمام كل مفكر سياسي، بعضها عجيب وبعضها غريب: كونفشيوس "الحكيم"، بينما أرسطو "البيولوجي" وأوغسطينوس "الواقعي". ومن الوسطويين نعد ابن ميمون "المشرع" والفارابي "الإمام"... ومن المحدثين تم قرن اسم مكيافيللي "بالوطني" وروسو "بالمواطن" ولوك "بالطهراني" وهيوم "بالريبي" وبيورك "بمعادي الثورة" وبين "بحامل المشعل" وتوكفيل "بالنبي" . ومن المعاصرين تم قرن سيد قطب "بالجهادي" وحنة أرندت "بالمنبوذة" وأرن نايس "بمتسلق الجبال"!
----------------------
- الكتاب: "كيف تفكر سياسيا: حكماء ودارسون ورجال دولة شكلت أفكارهم العالم".
- المؤلف: جرايم جرارد وجيمس برنارد مورفي.
- الناشر: بلومسبوري، لندن، 2019م
