إنريكا بوريكيتتي ولوكا دي آوريا
فاتنة نوفل
منذ جائحة الإنفلونزا الإسبانية وحتى اليوم لم ينجح أي عدو "غير مرئي" في فِعل الكثير، ففي غضون بضعة أشهر أصاب فيروس كوفيد 19 مئات البلدان وتسبب في وفاة الآلاف ودفع منظمة الصحة العالمية إلى إعلانه وباءً عالميا.
كان هناك حالات مماثلة في الماضي مع أوبئة السارس أو إنفلونزا الطيور والخنازير أو فيروس الإيبولا: لكنها كانت ظواهر محلية في بعض المناطق المحددة، ولا يمكن مقارنتها بالوباء الحالي: إذ تحولت حياة كل فرد وربما إلى الأبد إلى واقع ألغى ألفي عام من تاريخ البشرية.
ويهدف هذا الكتاب -الذي كُتِبَ بالمشاركة بين الصحفية والكاتبة إنريكا بوريكيتتي والمحامي وكاتب المقالات لوكا دي آوريا- إلى طرح العديد من الأسئلة والإجابة عن العديد منها، وتقديم إطار عمل صحفي وتحليل فلسفي واجتماعي وأنثروبولوجي للوباء، وكيف تؤدي حالة الطوارئ الصحية إلى تغيير كبير في حياة كل فرد منا.
وفي الجزء الأول الذي حرَّرته إنريكا بوريكيتتي، أعيد بناء نشأة وانتشار الوباء مع تقديم التناقضات والفجوات في الرواية "الرسمية"، الهدف منه توثيق وجود نقاش ساخن حول العديد من النقاط الحاسمة التي لا تزال حتى الآن مُبهَمَة وغير محددة، لا سيما أصل ومكان وأسباب العدوى. وفي الواقع، هناك فرضيات مختلفة مدعومة من قبل العلماء والمحللين البارزين والتي تختلف عن الرواية المبسطة التي عُرضت على الرأي العام.
إنَّ غُموض المعلومات السائدة الذي يرجع جزئيًا إلى الافتقار للشفافية في الإدارة الأولية للوباء من قبل الصين، وجزئيًا إلى نشر البيانات المتضاربة وغير الواضحة من قبل الهيئات المؤسسية والخبراء أنفسهم، تم إدراكها من خلال الرأي العام أنها متناقضة وحتى افتراضية. لأسابيع لم يتمكن حتى الصحفيين من فهم خطورة الموقف؛ حيث كانت تصريحات العلماء والأطباء مختلفة ومتناقضة للغاية.
وفي مقال نُشر في مجلة (Nature) عام 2017، أثار ديفيد سيرانوسكي شكوكًا مقلقة بشأن سلامة مختبر ووهان؛ حيث كتب أن بعض العلماء خارج الصين كانوا قلقين بشأن تسرب مسببات الأمراض وإضافة "بُعد بيولوجي إلى التوترات الجيوسياسية "بين الصين والدول الأخرى، وذكر سيرانوسكي بالفعل التحذير الذي أثاره العديد من العلماء القلقين بشأن احتمال هروب مسببات الأمراض من مختبر ووهان.
ووفقًا لـ"The Lancet" وهي مجلة علمية طبية إنجليزية أسبوعية في دراسة أجراها العديد من الباحثين الخبراء في علم الفيروسات وعلم الأوبئة، فإنَّ فرضية نشأة العدوى من سوق السمك والتي أصبحت النسخة "الرسمية" لم تكن صحيحة بالكامل. وفي التقرير، أبرز العلماء أن 13 حالة من أصل 41 حالة التي تم فيها تتبع "المريض صفر" لم تكن على اتصال بسوق ووهان، مستبعدين وجود روابط وبائية بين المريض الأول والحالات الأخرى.
وصرح عالم الأوبئة وطبيب الرئة البارز تشونج نانشان -الذي اكتشف فيروس السارس التاجي في عام 2003- خلال مؤتمر صحفي في 27 فبراير أنه على الرغم من ظهور الفيروس لأول مرة في الصين "ربما لم يكن قد وُلِدَ في الصين".
الاتهامات الرسمية ضد الولايات المتحدة والتي حولت النقاش إلى الرقعة الجيوسياسية في لحظة حساسة للغاية بالنسبة للحكومة الصينية التي تكافح من أجل إعادة تنشيط الاقتصاد الوطني، اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان، يوم الخميس 12 مارس عبر تغريدة لاذعة الحكومة الأمريكية بالمسؤولية عن نشأة الوباء: ربما يكون الجيش الأمريكي قد جلب فيروس كورونا إلى مدينة ووهان الصينية. وتردد صدى موقف ليجيان وشاركه العديد من الباحثين والمحللين. "CNN" على سبيل المثال، استذكرت في حلقة وصفتها الفصل الأول من كتاب: في أكتوبر الماضي كان مئات الرياضيين من القوات العسكرية الأمريكية في ووهان لحضور الألعاب العسكرية العالمية. واعترف مدير مراكز السيطرة على الأمراض (CDC) روبرت ريدفيلد في مقطع فيديو نشرته الـ"People’s Daily"، أن بعض الأمريكيين الذين كانوا سابقًا -قبل بدء تفشي المرض في الصين- يُعتقد أنهم ماتوا بسبب الإنفلونزا التي كانوا مصابين بها وهي "كوفيد 19".
وتشير الفرضيات الأكثر تطرفًا -والتي تهدف لدعم فرضية الحرب البكتريولوجية، والتي هي جزء من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين- إلى الكشف عن أن أحد أكثر البلدين تضررًا من العدوى وهما إيطاليا وإيران، الشريكان التجاريان للصين. لقد أضر الوباء في الواقع بطريق الحرير الجديد البرنامج الطموح للحكومة الصينية الذي يعتزم تمويل أكثر من 1000 مليار دولار؛ بهدف بناء وتعزيز البنى التحتية التجارية -الطرق والموانئ والجسور والسكك الحديدية والمطارات- ومحطات إنتاج وتوزيع الطاقة وأنظمة الاتصالات في كل ركن من أركان الكوكب تقريبًا: إفريقيا وأوروبا والهند وروسيا وإندونيسيا.
كما أفاد العديد من الصحفيين بأنَّ أحدهم توقع ما سيحدث مسبقًا حيث تحدثت الصحيفة الإيطالية (Il Corriere della Sera) الصادرة في 6 ديسمبر 2019 في مقال بقلم جوزيبي سارشينا عن إنذار من محللي "وول ستريت"، عقب تحرك صندوق بريدجووتر الذي قرر الرهان على انهيار أسواق الأسهم في مارس للعام 2020. راي داليو مؤسس بريدجووتر دفع في الواقع 1.5 مليار دولار لتوقيع عقود التأمين بهدف حماية المحفظة الإدارية. الممول نفسه خرج إلى العلن في 5 ديسمبر موضحًا أن العملية في الواقع لم تكن وليدة عدم الثقة، لكنها كانت جزءًا من إستراتيجية إدارة خاصة لخدمة عملائه.
ويُوضِّح الكتاب أيضًا كيف تم استغلال حالة الطوارئ التي ضربت إيطاليا في الخارج لتشويه سمعتها وفتح الأبواب أمام المضاربات المالية؛ حيث تم التعامل مع إيطاليا حرفيًّا على أنها "طاعون" وطال انتظار "المساعدة" من الاتحاد الأوروبي، ولم ترسل لها أي دولة في منطقة اليورو الأقنعة التي طلبتها، بل جاءت المساعدة من الصين، وقد طلبت عدة دول ملصقا "خاليا من الفيروسات"، وتم تصوير إيطاليا على المستوى العالمي على أنها بؤرة العدوى العالمية.
ليأتي بعدها المؤتمر الصحفي الكارثي لكريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، التي أغرقت سندات الحكومة الإيطالية لوضع اليد على الأصول الإستراتيجية لإيطاليا.
وفي الجزء الثاني من الكتاب الذي كتبه المحامي لوكا دي آوريا، يقول إن فكرة كتاب عن عصر فيروس كورونا وُلِدت على وجه التحديد لمحاولة التغلب على الجدل الطبي وإلقاء نظرة أنثروبولوجية وفلسفية وقانونية واجتماعية على العالم الذي نعيشه. كان مصدر الإلهام هو أليسساندرو مانزوني أعظم كاتب في كل العصور في كتابيه Betrothed وThe History of the Infamous Column، حيث كان قادرًا على بناء نصين كبيرين في علم الاجتماع والقانون يسردان قصة مدينة ميلانو والطاعون في القرن السابع عشر؛ مما يجعل لهذا الوباء خلفية لتتبع المجتمع بخصائصه؛ إذ يجب أن تعيد الأنثروبولوجيا والفلسفة على وجه الخصوص إعطاء الناس لمحة عن الواقع في الأوقات الصعبة مثل تلك التي نمر بها، يكون فيها التداول لأفكار أكثر أهمية لأنه من الضروري عدم ترك أدمغة الناس في الحساب التقني الطبي لعدد الضحايا والمصابين والمتعافين، والذين قد لا تظهر عليهم أعراض ما يجعلهم يشعرون بالخوف.
فالخوف هو مجرد جزء من عدة أجزاء في عملية التلاعب الاجتماعي التي كانت السلطة تتبناها منذ قرون. ويتم إحداث أزمة أو استغلالها لتنفيذ سياسات قد لا تحظى بشعبية لولا ذلك، لكن إدراك الصدمة سواء كانت ناتجة أو حقيقية أمر مشروع. وهنا يتساءل الكاتب عما إذا كانت هناك مجموعة ضغط خارج بلادنا قادرة على استغلال حالة الطوارئ الحالية لمصالح لا تهم المجتمع أو المنظمات القادرة على التخطيط واستغلال لحظات الأزمات لضمان أرباح كبيرة (ما يسمى كارثة الرأسمالية التي تحدث عنها نعومي كلاين في اقتصاد الصدمة).
وفي حالة الخوف، يشعر الرأي العام بالضياع كسجين ضحية التعذيب. يحتاج المجتمع المعرض لخطر أو بعد صدمة قوية إلى مرشد لأنه "فقد البوصلة" ويشعر بالشلل بسبب الذعر لدرجة قبول أي اقتراح أو تدخل يأتي من الأعلى.
وتستغل "رأسمالية الكوارث" لحظات الصدمة مثل الانقلابات والهجمات الإرهابية وانهيار الأسواق والكوارث الطبيعية والحرب التي تلقي بالسكان في حالة من الذعر الجماعي، لدفع المواطنين إلى قبول مناورات لا يتم قبولها في الظروف العادية.
ففي أعقاب الانفعالات العاطفية للأحداث المأساوية التي تستهدف عقل و"بطن" الرأي العام، من الممكن بالتالي تقديم تدابير لم يكن من الممكن تصورها في مناخ اجتماعي هادئ. اليوم، مع عسكرة البلد نواجه ما وصفه الفيلسوف جورجو أغامبين أي خلق "حالة من الخوف". كما في الماضي لا يسعنا إلا أن نأخذ في الاعتبار أن حماية الصحة يمكن أيضًا استغلالها واستخدامها لفرض قيود على الحرية وتعويد المواطنين على القيود المتزايدة على الحرية والخصوصية.
وفي هذه الأيام من الحجر الصحي القسري، نناقش ليس فقط التداعيات الطبية والقانونية والاقتصادية لحالة الطوارئ الناجمة عن فيروس كورونا، ولكن أيضًا كيف تغير مجتمعنا لا محالة من وجهة نظر أنثروبولوجية واجتماعية.
يبدو أنَّ الجائحة تحتاج إلى عزل لأن هذا المرض غير معروف علميًا وبالتالي لا توجد علاجات والخيار الوحيد لتجنب العدوى هو الحد من الاتصال البشري قدر الإمكان.
كذلك، لقد أعيد بشكل غير متوقع إعداد العدالة سريعًا في شكل "ذكي"؛ مما جعل الممارسين القانونيين يأملون في استمرار هذه الدوامة الفاضلة حتى بعد انتهاء المدة التي ينتهي فيها الحجر الصحي. كان يكفي أن يتم إطلاق العنان لموضوع فيروس كورونا في المجتمع الأوروبي من أجل إعادة ظهور الاختلافات العميقة بين الأنظمة الثقافية المختلفة. من جهة التقليد النفعي والتجريبي الإنجليزي، والتقليد المثالي الألماني وأخيراً التقليد التضامني الكاثوليكي الأكثر نموذجية.
وأدَّت هذه الاختلافات الفلسفية في غضون أسابيع قليلة جدًّا إلى تقويض المنظورات القانونية العالمية بتفضيل إعادة ميلاد الاختلافات الراديكالية بين المجتمعات الاجتماعية الأوروبية التي مثلت ليس فقط الكثير من النزاعات السياسية والدينية في القارة القديمة، بل بالأحرى أوجدت جدلا ثقافيا ثابتا يمثل الشخصية الحقيقية للغرب.
وتميز المُشَّرِع الإيطالي بخيار جذري: حيث لأول مرة في تاريخ الجمهورية تم عزل الأمة بأكملها من خلال تطبيق أحكام المادة 16 من الدستور ودعم الحكم بالقوة القسرية للقانون الجنائي. تم هذا الاختيار باسم التضامن ومحاولة تقديم أشكال متساوية من الرعاية للمحتاجين. لقد تجنب العالم الأنجلوسكسوني قدر الإمكان أي شكل من أشكال تعديل الواقع من أجل عدم التأثير على "سيادة القانون" ومعها حقوق المواطنين حتى على حساب تكبدهم خسائر وعدم ضمان رعاية موحدة بين جميع المنتسبين.
ويفترض الكتاب أيضًا أنَّ أيام فيروس كورونا تمثل نقطة تحول حاسمة بين "العالم الذي كان" وعالم جديد بالكامل، كان ينبض بالفعل ويغير الإنسان من الناحية الأنثروبولوجية.
مثل هذا التعديل الجذري والحاسم في الشكل الأنثروبولوجي الثقافي للعلاقات الإنسانية لم يأت على المجتمع من الفراغ، لكنه ونتيجة عمل طويل وحاسم بشكل متزايد يرافقه تقدم التكنولوجيا وانتصارها في العقود الأخيرة؛ حتى ليبدو أنَّ هذا النموذج التكنولوجي الجديد كان ينتظر الفرصة المناسبة للكشف عن كل قوته، والذي بقي حتى الآن -وبشكل غامض- جزءا من لعبة عبثية في الحياة اليومية لا سيما باعتباره تسلية ذاتية المرجعية.
ما يتمُّ مناقشته في هذه الأيام من الحجر الصحي الإجباري، إضافة إلى التداعيات الطبية والاقتصادية لحالة طوارئ بسبب فيروس كورونا، وما يتبقى من وجهة نظر أنثروبولوجية واجتماعية من هذه الحياة الغريبة التي لم يعتد عليها أحد في الماضي ولم يعرفها أحد في السبعين عامًا الأخيرة لا في أوروبا ولا في الغرب بشكل عام.
حتى وزارة الداخلية ستكون متشككة في تعقب المصابين واتصالاتهم. وفي الواقع، تم إنشاء سابقة يجب تقييمها بدقة وتؤدي إلى عواقب لا يمكننا التنبؤ بها بعد. ماذا تتوقع للمستقبل؟
أتوقع أن المستقبل لن يطرح هذه المشكلة لأنه لن يتم تعقبنا جميعًا فحسب، بل سيكون لدينا أدوات ممتدة لأدمغتنا ستكون قادرة على تسجيل مَن أمامنا وِفقَ ملفهم الاجتماعي الافتراضي. العديد من الأفلام تخبر هذا العالم بشخصيات التصميم البائس والمستقبلي. لكن من المؤكد أنه في الروتين اليومي لتحقيقات الشرطة هذا واقع بالفعل.
------------------------------
- العنوان: "فيروس كورونا العدو غير المرئي: التهديد العالمي.. نموذج الخوف وعسكرة البلاد".
- المؤلف: إنريكا بوريكيتتي ولوكا دي آوريا.
- دار النشر: موندادوري، إيطاليا، 2019م.
- عدد الصفحات: 227 صفحة.