المدائن السبع، رحلة في ألف سنة من التاريخ أو: كيف تناهت العلوم والمعارف إلينا

Picture1.png

فيوليت مولر

* عبدالرحمن السليمان

أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا.

هذا كتاب يؤرخ للتداول المعرفي في الفترة الممتدة من  نهاية العهد الكلاسيكي في الغرب حتى عصر النهضة فيه. يختلف الكتاب عن غيره من الكتب التي أرخت للمعارف والعلوم بتركيزه على "خارطة المعرفة"، وهي الطريق التي اتبعها سير المعارف والعلوم منذ سقوط الدولة الرومانية سنة 476 ميلادية حتى عصر النهضة الأوربية. كما ينتمي الكتاب إلى تيار جديد في الغرب يحاول أن ينتهج الموضوعية في التأريخ للعلوم، وهو التيار الذي أسسه مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون في كتابه (مقدمة في تاريخ العلم). كتبت الكتاب بلغة سلسة كاتبة شابة اختارت، في أول عمل لها، أن تعالج موضوع انتقال المعارف والعلوم من ثقافة لأخرى من خلال سبع مدن أدّت دورًا مفصليًا في تاريخ المعارف والعلوم وتداولها لفترة ألف سنة تقريبًا تغطي ما يطلق عليه بالعصور الأوروبية الوسطى، أي الفترة الممتدة من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي.

 

يكتسب هذا الكتاب أهميته أيضًا من كونه خلاصة جيدة لأبحاث تاريخية وميدانية كثيرة في تاريخ العلوم عمومًا والرياضيات والفلك والطب خصوصًا، وانتقالها من "العصر الكلاسيكي إلينا" بطريقة موضوعية ومشوقة. تريد الكاتبة بـ "العصر الكلاسيكي" الحضارتين الإغريقية والرومانية، وتقصد بـ "إلينا" الأمم الغربية ـ  إذن تركز الكاتبة في كتابها على الفترة الواقعة بين بداية العصور الأوربية الوسطى حتى عصر النهضة الأوربية، لذلك لم تتطرق الكاتبة في كتابها إلى العصور التي سبقت العصر الكلاسيكي، وإلى الحضارات السابقة، مثل حضارة العراق القديم ومصر والشام والجزيرة العربية القديمة. وقد يبدو من عدم التطرق للحضارات القديمة أن الكاتبة تجعل بداية العلوم والمعارف في "العصر الكلاسيكي"، أو أنها لم تتطرق للحضارات القديمة لتشعب الموضوع وقلة آلتها المعرفية فيه. لكنها صرَّحت في مقدمتها بأنها تريد أن تقتصر في كتابها على تلك الفجوة التاريخية الكبيرة في التأريخ للعلوم والمعارف، الواقعة بين  القرن الخامس والقرن الخامس عشر الميلادي.

 

لا يعتمد تاريخ العلوم والمعارف على الحدود الزمنية التي تميز حقبة تاريخية عن حقبة تاريخية أخرى، ولا على الحدود الجغرافية التي تفصل ما بين الثقافات، لأن سير العلوم والمعارف الإنسانية وانتقالها من ثقافة لأخرى لا يتوقفان عند الحدود الزمانية والمكانية للحضارات والثقافات المتتابعة؛ فقد يكون سير تلك العلوم والمعارف من ثقافة لأخرى سريعًا تارة، بطيئًا تارة أخرى، ولكنه لا يتوقف. وكان سير العلوم والمعارف عارمًا في الفترة التي برزت فيها العلوم الإسلامية من القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر الميلادي، إذ أنارت هذه العلوم دياجير كثيرة في العالم، ومنها أوروبا.  لكن ثغرةً في تاريخ كتابة العلوم والمعارف نشأت مع بداية عصر التجديد الأوربي، الذي كان رواده يركزون على الإرث الكلاسيكي لأوربا (الإغريقي واللاتيني)، لذلك اعتبروا عصور ما سواه اللاحقة عصورًا مظلمة. أدت هذه الثغرة، مع مرور الزمن، إلى التقليل من أهمية دور العرب والمسلمين وإسهامهم في تطوير العلوم والمعارف، بل تجاهل الكثير من إسهاماتهم، وذلك على الرغم من أن البحث العلمي في العصور الوسطى كان قائمًا بشكل رئيس على إسهامات العرب والمسلمين العلمية. وهذا ما أرَّخت له الكاتبة في كتابها هذا الذي انطلقت في مقدمته من وصف لوحة جدارية شهيرة للرسام والمهندس المعماري الإيطالي رفائلو (1483-1520) رسم فيها أفلاطون وأرسطو محاطَين بمجموعة من الأشخاص "لم يُتعرّف منهم إلا على شخص يرتدي عمامة شرقية، يُجمع المؤرخون بشأنه أن المُراد به إنما هو الفيلسوف العربي ابن رشد".  وتضيف: "إن هذا العربي هو الشخص الوحيد الذي عُرف في الفترة الممتدة من سقوط روما حتى عصر النهضة".  وتفسر هذه الرمزية الفنية كما جاءت في جدارية رفائلو على أن هذه الفترة الممتدة لألف سنة هي عصر ازدهار العلوم والمعارف في الحضارة العربية الإسلامية التي أسسها العرب وطوروها مع سائر الشعوب الإسلامية. وتعبر الكاتبة عن استغرابها من عدم معرفتها ذلك قبل مشاهدة جدارية رفائلو وتقول: "لم أسمع – خلال دراستي للعصر الكلاسيكي في المرحلة الثانوية والجامعية – بتأثير الحضارة العربية أو أية حضارة أخرى على أوربا". وتضيف:  "لقد بدا تاريخ العلوم والمعارف وكأنه جملة مكونة من ثلاثة أقسام كما يلي: أولاً الإغريق، وثانيًا الرومان، وأخيرًا عصر النهضة"! أما تلك الألف سنة الواقعة بين نهاية العصر الكلاسيكي وبداية عصر النهضة "فلا ذكر لها على الإطلاق في مناهج الدراسات الكلاسيكية". وتضيف الكاتبة أيضًا بأن هذه الحقيقة أصبحت صادمة لها عندما زارت جزيرة صقيلية مع زميلة لها "للقيام ببحث علمي ميداني لكتابة أطروحة التخرج". لقد اكتشفت في صقيلية أن الإرث الحضاري فيها "مكون من طبقات حضارية كثيرة منها الطبقة البيزنطية (آسيا الصغرى)، والطبقة الإسلامية، والطبقة النورماندية لاحقًا"، وهي طبقات لم تدرس عنها شيئًا أثناء دراستها للأدب الكلاسيكي وما إليه من تاريخ عام. وهذا بالضبط ما جعلها تكتب هذا الكتاب الذي أرادت من خلاله سد تلك الفجوة الكبيرة في التأريخ للعلوم والمعارف في الغرب، بطريقة شيقة تركز فيها على مدن شهيرة بدلاً من حقب تاريخية بعينها كما جرت العادة في التأريخ، في مسعى من الكاتبة لتقريب المادة من الجمهور غير المتخصص، وهو ما نجحت فيه نجاحًا باهرًا، يدل على ذلك ترجمة كتابها إلى لغات كثيرة فور صدوره. 

 

لم تتطرق الكاتبة في كتابها إلى الفقرة السابقة للعصر الكلاسيكي (الإغريقي والروماني)، بل أحالت القارئ ضمنيًا إلى مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون الذي أرَّخ للعلوم في الحضارات القديمة (خصوصًا العراق القديم ومصر) والذي استشهدت بمقولة له في مقدمة كتابها حول أهمية عصر الحضارة العربية الإسلامية. فلقد سد جورج سارتون بكتبه الثغرةَ الكبيرة في تاريخ العلوم والمعارف الإنسانية، وعالج كل مصادر الحضارة القديمة والحديثة. وتتجلى نظرة سارتُن إلى تاريخ العلم في هذا السياق بنقض فكرة "المعجزة الإغريقية" التي نشأت في عصر التجديد الذي كان رواده يرون أن العلوم والمعارف الإنسانية ولدت ونشأت في اليونان، فيقول في هذا السياق في مقدمة كتابه (مقدمة في تاريخ العلم): "من السخافة أن نؤكد على نشأة العلوم في اليونان في حين مهد لهذه "المعجزة الإغريقية" خلال عشرات الألوف من السنوات في مصر وبلاد ما بين النهرين [...]. لقد كانت العلوم اليونانية حركة نهضة أكثر منها إبداعًا واختراعًا". لقد وضع سارتون، وهو أستاذ الكاتبة الروحي، "المعجزة الإغريقية" في سياقها الطبيعي، حيث إن الإسهامات المصرية والبابلية والشرقية القديمة كانت تمهيدًا للعلوم الإغريقية فيما بعد، وأن الحديث عن علوم اليونان دون الإشارة إلى ما سبقها في بابل ومصر إنما هو تزوير للتاريخ: "لا يعتبر التأريخ للعلوم القديمة دون تزويد القارئ بمعلومات كافية عن العلوم الشرقية ناقصًا فحسب، بل مزورًا أيضًا"، والكلام لسارتون. وهذا النهج نفسه اتبعه في التأريخ لدور العرب والمسلمين وإسهامهم في تطوير العلوم والمعارف في العصور الوسطى، إذ رد الاعتبار لهم أسوة بالحضارات الشرقية التي ذكرتها، وهو المنهج الذي اتبعته الكاتبة في كتابها هذا، مع فارق أن كتاب سارتون ضخم ومتخصص جدًا، بينما كتابها، موضوع المراجعة، مختصر وموجه لجميع القراء.

 

اختارت الكاتبة أن تعالج هذه الفجوة التاريخية من خلال تسليط الضوء على سبع مدن هي بالتوالي: الإسكندرية، وبغداد، وقرطبة، وطليطلة، وساليرنو، وباليرمو والبندقية. بدأت الكاتبة بالإسكندرية في القرن السادس الميلادي، واختارت الحديث عن مكتبتها الشهيرة التي بناها الملك المصري بطليموس الأول حوالي 300 قبل الميلاد. تقول الكاتبة: "هنا في الإسكندرية ولدت فكرة جمع العلوم والمعارف في مكان واحد من خلال تحرير نسخ من كل المؤلفات، وإتاحتها للناس". بهذا أصبح جمع ما توفر من العلم وإتاحته للقراء على مختلف مستوياتهم حلم جميع المكتبات والوراقين في العالم القديم والعالم الحديث فيما بعد. وتضيف: "لقد بلغ من  حرص أًصحاب المكتبات على إثراء مكتباتهم أن اتبعوا جميع الوسائل، حتى غير الأخلاقية منها، كي يوسعوا مكتباتهم ويثروها بكل شيء جيد". أدى هذا التنافس بين المكتبات التي أنشئت تباعًا إلى نشوء ثقافة مكتبية واسعة وإلى إنشاء مكتبات تحتوي على معظم الكتب المتاحة وفي معظم العلوم والمعارف الموجودة آنذاك. وبفضل جمع هذا الكم الكبير من الكتب "أصبحت الإسكندرية زمن البطالمة أهم مركز علمي معرفي في العالم. لقد تجاوزت الإسكندرية أثينا وروما "وأصبحت أنموذجًا علميًا جديدًا يحتذى به في دول البحر الأبيض المتوسط". ثم تلقي الكاتبة الضوء على أشهر علماء الإسكندرية، وهو العالم الرياضي والفلكي والجغرافي بطليموس صاحب (كتاب المَجِسطي) الذي أدى دورًا مهمًا في تاريخ علم الفلك.               

المدينة الثانية التي توقفت الكاتبة عندها بالتفصيل: بغداد، عاصمة الدولة الإسلامية،  تستعرض الكاتبة أهمية مدينة بغداد وعظمتها منذ تشييد أبي جعفر المنصور لها في القرن الثامن حتى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية الذي تجعل بدايته مع هارون الرشيد (714-775)، "ليس ذلك الخليفة الطريف الذي نعرفه من خلال حكايا ألف ليلة ولية، بل ذلك القائد العسكري الكبير والمحنك"، ومع ابنه المأمون (763-809). كانت بغداد وقتها أكبر مدينة في العالم و"بوتقة انصهر فيها العرب والفرس والترك والأفارقة والهنود واليونان والصقلب واليهود والنصارى والصابئة" وغيرهم "ممن جذبتهم خيرات المدينة العلمية والفكرية والمادية". ثم تذكر الكاتبة عددًا من العلماء الكبار الذين درسوا أو عاشوا أو عملوا في بغداد كابن جرير الطبري صاحب التفسير الشهير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) و(تاريخ الأمم والملوك) وغيرهما من الكتب الجليلة؛ وكذلك ابن النديم صاحب كتاب الفهرست وغيرهما. وتعالج الكاتبة باستفاضة إنشاء بيت الحكمة في بغداد وأهميته بالنسبة إلى تطور العلوم. لقد أدت حركة الترجمة التي نشأت في بغداد إلى ترجمة كل العلوم والمعارف المعروفة آنذاك إلى اللغة العربية. وهذه أول محاولة في تاريخ البشرية لتوحيد النشاط العلمي في لغة واحدة هي العربية التي أصبحت في نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع الميلادي اللغة العلمية التي يتواصل العلماء بها من الهند حتى الأندلس. وهذه نقلة نوعية كبيرة في تاريخ المعارف والعلوم لا تشبهها أية نقلة سابقة لاتساع الرقعة الجغرافية من جهة ولأن العرب ترجموا إلى لغتهم العربية كل ما تناهى إليهم أو ما وعثروا عليه من علم يوناني وفارسي وهندي وصيني فضلاً على العلوم التي توورثت بطريقة عملية في الدول التي فتحوها كعلوم العراق القديم والشام ومصر وغيرها. وتمثل الكاتبة على أهمية توحيد ممارسة العلوم في لغة عالمية واحدة بعلم الجبر الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي (توفي حوالي 847). درس الخوارزمي في بيت الحكمة في بغداد علم الفلك الذي وضع البابليون أصوله، كما درس ما تناهى إليه عبر الترجمة من حساب  الهند وهندسة اليونان، وذلك كله باللغة العربية. لقد كانت دراسة هذه العلوم قبل ترجمة العرب لها إلى العربية مقتصرة على أهلها (ومنهم الهنود والفرس واليونانيين) وبلغاتهم المحلية (السنسكريتية والفارسية واليونانية). فمكّنت إتاحتها كلها بلغة واحدة، هي العربية، الباحثين كالخوارزمي وغيره من الاطلاع على نتائج ما كتب في القرون الخالية من علوم والتأسيس عليها لتطويرها. "وهذا ما مكنَّه من وضع علم الجبر وتطويره ليصبح علمًا مستقلاً مختلفًا عن الهندسة اليونانية والحساب الهندي" البسيط. وعندما ترجم المستعرب الإنكليزي روبرت كاسترنسيس (Robertus Castrensis) سنة 1145 كتاب (كتاب الجبر والمقابلة) للخوارزمي إلى اللاتينية، واجهته مشكلة المصطلحات العلمية الجديدة التي ابتكرها الخوارزمي والتي ليس لها مكافئات وظيفية في اللغة اللاتينية، فتغلب على هذه المشكلة بالوضع تارة وباستعارة الكلمات العربية وإدخالها في اللاتينية تارة أخرى. ومما استعار هذا المترجم: اسم العلم الجديد: (الجبر) الذي رَوْمَنَه في اللاتينية بـ (algebra)، و(الصفر) الذي رومنه في اللاتينية بـ: zero. وقد تفرَّعت عن مادة (صِفر) العربية كلمات عالمية كثيرة تدل على (الصِفر) مثل zero وكذلك cipher في الإنكليزية، وcero في الإسبانية ومثله كثير في كل لغات البشر تقريبًا. كما تفرعت عن مادة (صِفر) العربية كلمات عالمية كثيرة تدل على (الأعداد) مثل chiffre الفرنسية، وcijfers الهولندية، ومثله في معظم لغات البشر. ومن الكلمة الفرنسية chiffre – وتنطق بالعربية هكذا: (شِفْرَه) – اشتقت كلمة (شِفرة/شِيفرة) التي نستعملها أحيانًا في العربية للدلالة عن الخوارزميات الحاسوبية. وحتى اسم الكاتب – الخوارزمي – أنتج في اللاتينية وبعدها في الإنكليزية وسائر لغات العالم مصطلح (Algorithm) أي الخوارزميات. ولعل أطرف ما نتج عن هذه الترجمة أن حرف الشين الذي وظفه الخوارزمي في كتابه كناية عن العدد المجهول، وهو مختصر كلمة (شيء)، قد رومنه المترجم بحرف الـ (X) ذلك أن المترجم تعلم وعاش في إسبانيا، وبما أن الإسبان كانوا يرسمون صوت (الشين) في لغتهم هكذا (X)، فقد نقل المترجم حرف الشين إلى اللاتينية بالـ (X) معتمدًا في رسمه على النطق الإسباني له أي (شين). أما سائر الأمم الغربية، ومنها الإنكليز والفرنسيون، فيلفظون الـ (X) "إكس" وليس شينًا. ثم أصبح لهذا الرمز الرياضي الدال على العدد المجهول استعمال مجازي للدلالة على الشخص المجهول.

 ثم تستعرض الكاتبة الحركة العلمية في الأندلس وأبرز علمائها وأهمية عاصمتها قرطبة ودورها في تطور العلوم والمعارف في غرب العالم الإسلامي. تقول: "لقد انتقلت العلوم والأفكار من مشرق الدولة الإسلامية إلى مغربها واستقرت في قرطبة" التي أصبحت بوتقة انصهر فيها العرب والأمازيغ واليهود والقوط في جو ساده التسامح الديني والنشاط العلمي. وهذا ما جعل من قرطبة مركز المعارف والعلوم في الغرب أو "بغداد ثانية" برز فيها علماء كبار مثل ابن رشد وابن حزم واليهودي موسى بن  ميمون وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الذين تُرجمت أعمالهم فيما بعد إلى اللاتينية وتركت في الغرب أثرًا كبيرًا.

 

وعلى الرغم من أهمية قرطبة العاصمة فإن مدنًا أخرى كانت توازيها في الإشعاع العلمي وأهمها طليطلة التي استردها الإسبان سنة 1085 بعد حصار دام تسعة أشهر. تكتسب طليطلة أهميتها من كونها واحدة من أمهات المدن في الأندلس ومن موقعها على الحدود بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، "مما أهّلها لأداء دور الجسر الفكري بين هذين العالمين"،  خصوصًا "وأن اللغة العربية بقيت تستعمل لغة رسمية إلى جانب الإسبانية حتى منع استعمالها سنة 1580"، أي بعد خمسة قرون من سقوطها بيد الإسبان. وهذا ما جعلها – منذ البداية – عامرة بالمكتبات الغنية بالكتب العربية التي استقطبت المترجمين من كل مكان "وأهمهم الفلكي جيراردوس كريمونينسيس (1114-1187)  الذي هجر موطنه إيطاليا بحثًا على كنوز العلوم العربية". استقرَّ جيراردوس في طليطلة، حيث تعلم العربية، وترجم سبعين كتابًا في العربية إلى اللاتينية مؤسسًا بذلك لتقليد علمي أطلق عليه فيما بعد اسم "مدرسة طليطلة للترجمة" حيث تُرجمت أمات كتب العلوم من العربية إلى اللاتينية لتؤسس بذلك لعصر النهضة الأوربية. ومن أبرز  المترجمين في هذه المدرسة "الفرنسي جلبير الأورلياكي (946-1003) الذي أصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني (999-1003)". ترجم جلبير الأورلياكي، الذي درس العربية في الأندلس وفي جامع القرويين في فاس أيضًا، العديد من الكتب الفلكية والرياضية، وإليه يُنسب إدخال الأعداد  العربية والنظام العشري العربي في الاستعمال في أوربا.  

 

من الكتب التي ترجمها جيراردوس من العربية: (كتاب المَجِسطي) للفلكي الإسكندراني بطليموس. ولعل في ترجمة عنوان هذا لكتاب المهم ما يمثل التداخل المعرفي واللغوي بين الثقافة اليونانية والثقافة العربية والثقافة اللاتينية في عصر النهضة خير تمثيل. فعنوان هذا الكتاب المهم في تاريخ الفلك في اليونانية هو: (μαθηματικὴ σύνταξις/ماثيماطيقي سينتاكسيس) "الترتيب الرياضي". ثم سمي فيما بعد (Ἡ μεγάλη σύνταξις/إي ميغالي سينتاكسيس) "الترتيب الكبير"، وبعد ذلك (Ἡ μεγίστη σύνταξις/إي مَجِسْطِي سينتاكسيس) "الترتيب الأكبر" – باسم التفضيل. وهذا العنوان الأخير هو الذي نقل إلى العربية بـ (المَجِسطي) الذي ترجمه جيراردوس إلى اللاتينية بـ  (Almagestum) بدلاً من عنوانه اليوناني  الأصلي. ولعلَّ في اختيار جيراردوس لعنوان الكتاب بنطقه العربي المحلى بأل التعريف العربية (= Almagestum) عنوانًا للترجمة اللاتينية بدلاً من الأصل اليوناني (= إي مَجِسْطِي سينتاكسيس) ما يدل على النظرة العالية للعلوم العربية في العصر الوسيط.   

-----------------------------------------------------------------------------------

الكتاب:

العنوان: المدائن السبع. رحلة في ألف سنة من التاريخ أو: كيف تناهت العلوم والمعارف إلينا.

الكاتب:  فيوليت مولر (Violet Moller)

الناشر:  دار مولن هوف بوكري – أمستردام، هولندا

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات:  319 صفحة

سنة النشر:  2019

أخبار ذات صلة