التنوع البشري.. بيولوجيا الجنس والعرق والطبقة

الغلاف copy.jpg

تشارلز موراي

وليد العبري

جَميع الناس مُتساوون، لكن كمَا يستكشف التنوُّع البشري فإنَّ جميع مجموعات الناس ليست متشابهة، وهو تحقيق رائع في علم الوراثة وعلم الأعصاب للاختلافات البشرية.. وتتمثَّل أطروحة التنوع البشري في أن التقدم في علم الوراثة وعلم الأعصاب يطيح بالعقيدة الفكرية، التي حكمت العلوم الاجتماعية لعقود. ويتكون جوهر العقيدة من ثلاث عقائد: الجنس هو بناء اجتماعي، والعرق هو بناء اجتماعي، والطبقة هي وظيفة الامتياز.. المشكلة هي أن العقائد الثلاث هي أنصاف الحقائق.

لقد خنقُوا التقدم في فهم النسيج الثري الذي تضيفه البيولوجيا إلى فهمنا للعوالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نعيش فيها؛ إنها ليست قصة يجب أن نخشاها. كتب موراي: "لا توجد وحوش في الخزانة، ولا توجد أبواب مخيفة يجب أن نخشى فتحها". لكنها قصة تحتاج إلى رواية. ويقوم التنوع البشري بذلك دون إثارة، اعتمادا على النتائج العلمية الأكثر موثوقية، والاحتفاء بكل من اختلافاتنا العديدة وإنسانيتنا المشتركة.

 

ويُؤمن تشارلز موراي بقيم التنوير: العلم والمعرفة والحقيقة والتقدم. مثل الشخصية الخيالية لودوفيكو سيتيمبريني -إنساني إيطالي مؤيد للتنوير في رواية توماس مان عام 1924 الجبل السحري- ويعتقد موراي أنَّ العلم يوفر أفضل طريقة متاحة لإنتاج معرفة موضوعية عن أنفسنا والعالم. إن المعرفة عن أنفسنا والعالم أمر مهم وجيد؛ فهذه المعرفة ستقربنا من الحقيقة حول من نحن ومن أين أتينا، وستعزز التقدم البشري وتؤدي إلى مجتمعات أكثر ازدهارا وسلاما وعدالة ومساواة، إضافة إلى مزيد من الصحة والسعادة لسكانها.

إذا كان مونتسكيو -على سبيل المثال- قد زار الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين (كما فعل مواطنه الفرنسي ألكسيس دي توكفيل في العام 1831)؛ فربما كان يعتقد أن هذا البلد هو أقرب شيء إلى التجسيد لمُثله التنويرية. لكن إذا سافر إليها مرة أخرى في عام 2020، فقد يغير رأيه. وفي الوقت الحاضر، يرفض عدد متزايد من الأمريكيين (بما في ذلك أساتذة الجامعات وكتاب الأعمدة في الصحف والسياسيون البارزون) قيمة العلم والمعرفة والحقيقة والتقدم، أو على الأقل يشككون بشدة في ذلك. ويعتقد بعضهم أنَّ العلم هو تعبير ثقافي للمجتمعات الغربية، وليس أداة أفضل لشرح العالم من تنبؤات الشامان من قبائل الأمازون. ويعتقد البعض الآخر أن المعرفة والحقيقة هي أوهام خطيرة تعكس وجهة نظر خاطئة للواقع. هذا التقدم هو مجرد مفهوم استعمرت المجتمعات الغربية من خلاله المجتمعات الأخرى وأخضعتها؛ وبشكل أعم، فإن العلم والمعرفة والحقيقة والتقدم مجرد أدوات يسيطر بها الظالمون ويسيطرون عليها ويستغلونها.

وبالنسبة لهؤلاء الأشخاص، يعدُّ تشارلز موراي أحد أسوأ الأمثلة على الرجل الأبيض المتميز الذي، باسم العلم والمعرفة والحقيقة والتقدم، يُديم اضطهاد النساء والأقليات العرقية والإثنية والجنسية. لن يقرأ هؤلاء الأشخاص "التنوع البشري لموراي" على الإطلاق، أو "سيقرأونه" فقط لغرض تمزيقه. وسيسعد الكثير منهم بحرق جميع نسخ الكتاب، وسيبذلون قصارى جهدهم لمنع موراي من التحدث علنا عن الكتاب، أو أي شيء آخر، خاصة في حرم الجامعات.

وفي كتاب الجبل السحري، لدى سيتيمبريني خصم فكري، الماركسي اليسوعي ليو نافتا (شخصية مستوحاة من الفيلسوف الماركسي الهنغاري جورجي لوكاش)، والذي يشارك معه في مناظرات طويلة ومثقفة للغاية ومكثفة. نافتا يرفض مُثل التنوير التي روج لها سيتيمبريني -أهمية الحرية والديمقراطية والعقل والمعرفة والتقدم- ودافع بدلا من ذلك عن الجوانب العقائدية والسلطوية للكاثوليكية والشيوعية. ومن وجهة نظر مان، فإن تنفيذ العقيدة الكاثوليكية من قبل محاكم التفتيش الكنسية في أواخر العصور الوسطى وتطبيق الأيديولوجية الماركسية من قبل النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في أوائل القرن العشرين يشتركان في بعض أوجه التشابه المهمة.. ابتكر مان شخصية نافتا لتمثيل مزيج من هذه المواقف.

وفي أمريكا القرن الحادي والعشرين، لا يتعامل المثقفون المناهضون للتنوير دائما مع خصومهم بأدوات جدلية حادة كما تفعل نافتا في الجبل السحري، لكنهم مثله يدعون إلى الرقابة والاضطهاد وحرق الزنادقة. ويتجاوز الاستقطاب بين المثقفين المؤيدين والمعارضين للتنوير في الولايات المتحدة الحدود السياسية التقليدية؛ إذ تعرض المثقف الليبرالي ستيفن بينكر للشيطنة والاضطهاد من قبل الليبراليين والتقدميين الآخرين بسبب تأليفه لكتب (مثل التنوير الآن: قضية العقل والعلم والإنسانية والتقدم، 2018) التي تدعم قيم التنوير وتعززها. يعتبر موراي نفسه محافظا أكثر منه ليبراليا. ومع ذلك، يتم انتقادهم من قبل بعض الأشخاص أنفسهم.

وعلى الرغم من أنَّ المرء قد يجد بعض حُجج نافتا في الجبل السحري مقنعة تمام، إلا أنني سأتناول التنوع البشري لموراي من منظور سيتيمبريني. نظرا لأن الحروب الثقافية الحالية في الولايات المتحدة قد أسفرت بالفعل عن عدد كبير جدا من الضحايا؛ سأحاول أيضا تقليل العداء بين الطرفين المتحاربين، بدءا من تعليق حول عنوان كتاب موراي.

وفي حين أن "التنوع البشري" هو عنوان فعال، فإنَّ العنوان الفرعي للكتاب "بيولوجيا الجنس والعرق والطبقة" هو خيار دون المستوى الأمثل. ربما كان العنوان الفرعي الأقل استفزازًا هو "علم الفروق الفردية والجماعية في العقل والسلوك". الكتاب يتجاوز علم الأحياء، ولا يفضل بالضرورة -أو دائمًا- التفسيرات البيولوجية على التفسيرات البيئية. بشكل أكثر دقة، هو مراجعة للبحث العلمي فيما يتعلق بالاختلافات الفردية والجماعية في العمليات المعرفية والسلوك، ويشمل البحث الذي تتمُّ مُراجعته العديد من التخصصات: علم النفس، وعلم الاجتماع، والتعليم، والاقتصاد، وعلم الوراثة، وعلم الأعصاب، وعلم الأحياء السكاني، من بين أمور أخرى.

التنوُّع البشري كتابٌ رائع.. كتب موراي ملخصا موثوقا للأبحاث حول التنوع البشري، وسيكون كتابا تمهيديا رائعا للطلاب الجامعيين والخريجين، لكنه أيضا مورد قيم لكبار الباحثين والمعلمين. ويحتوي على قدر كبير من المواد عالية التقنية، لكن موراي يبذل جهدا قيما لضمان سهولة الوصول إلى هذه المواد التقنية. لم يكتب موراي كتابا يُقصد به أن يكون مثيرا للجدل أو مثيرا للجدل بشكل علني. نبرته احترافية للغاية، هادئة، شبه خافتة، ويبذل جهودا كبيرة لتجنب إثارة ردود فعل سلبية قوية. وعلى سبيل المثال، اختار الابتعاد عن البحث في علم النفس التطوري، كما اختار عدم الحديث عن "الأجناس" البشرية"، ويتحدث بدلا من ذلك عن الجماعات البشرية التي نشأت في قارات مختلفة. رُبما تكون أكثر جوانب التنوع البشري جدلية هي عناوين الأقسام الرئيسة الثلاثة للكتاب: "الجنس هو بناء اجتماعي"، "العرق هو بناء اجتماعي" و"الطبقة هي وظيفة امتياز". وكان من الممكن أن يكون الكتاب فعَّالا بنفس القدر، مع عناوين أقسام أقل جدلية.

القسم الذي يفحص البحث عن الفروق بين الجنسين في الشخصية والإدراك هو الأكثر شمولا. تم تنظيم مراجعة الأدبيات حول أربعة مقترحات، يعتقد موراي أنها مدعومة إلى حدٍّ كبير بالبيانات: الفروق بين الجنسين في الشخصية متسقة في جميع أنحاء العالم، وتميل إلى الاتساع في الثقافات الأكثر مساواة بين الجنسين؛ في المتوسط، تتمتَّع الإناث في جميع أنحاء العالم بمزايا في القدرة اللفظية والإدراك الاجتماعي، بينما يتمتع الذكور بمزايا في القدرات البصرية -المكانية- وأقصى القدرات الرياضية، في المتوسط. تنجذب النساء في جميع أنحاء العالم إلى المهن التي تركز على الناس، والرجال إلى المهن التي تركز على الأشياء. وتتوافق العديد من الفروق بين الجنسين في الدماغ مع الفروق بين الجنسين في الشخصية والقدرات والسلوك الاجتماعي.

القسم الثاني مُنظَّم حول ثلاثة مقترحات: "السكان البشريون متميزون وراثيا بطرق تتوافق مع العرق والإثنية المحددة ذاتيا، وكان ضغط الاختيار التطوري منذ مغادرة البشر لإفريقيا واسع النطاق ومحليا في الغالب، والاختلافات السكانية القارية في المتغيرات المرتبطة بالشخصية والقدرات والسلوك الاجتماعي شائعة".

أخيرا.. يتوصل القسم الثالث إلى الاستنتاجات التالية: "عادة ما تلعب البيئة المشتركة دورا ثانويا في شرح الشخصية والقدرات والسلوك الاجتماعي. ويعتمد هيكل الفئة بشكل مهم على الاختلافات في القدرات التي تحتوي على مكون وراثي كبير، والتدخلات الخارجية مُقيدة بطبيعتها في التأثيرات التي يمكن أن تحدثها على الشخصية والقدرات والسلوك الاجتماعي" (لكن موراي يتوقع أن هذا الاقتراح الأخير سيتم تزويره في النهاية، عندما تصبح التدخلات العلمية الجديدة والأقوى متاحة).

ويتضمَّن التنوع البشري بعض المواد التي تم تقديمها بالفعل في كتب موراي السابقة، ومع ذلك، في التنوع البشري، تشمل مراجعة الأدبيات مئات المراجع للدراسات المنشورة في السنوات الخمس إلى العشر الماضية. يصف موراي الدراسات وإجراءاتها بدقة، ويمثل نتائجها بأمانة، ويتوخى الحذر في التفسير. في كثير من الحالات، يقر بنقاط القوة والضعف في الدراسات، ويقدم تفسيرات بديلة للنتائج، ويضيف تحذيرات إلى الاستنتاجات. وقد يكون مفرطا في التفاؤل في اعتقاده أنَّ الدراسات على مستوى الجينوم ستكشف، في السنوات العشر إلى العشرين المقبلة، تماما عن تعقيد التباين في علم النفس والسلوك البشري، لا سيما بالنسبة للسمات التي لها تفاعلات جينية كبيرة في البيئة. لا يُدافع موراي أو يقترح أن يتولى علم الأحياء جميع تخصصات العلوم الاجتماعية، كما فعل آخرون في الماضي. يمثل بدقة نقاط القوة الحالية للبحث في علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والتعليم، ويتوقع مستقبلا مشرقا لهذه التخصصات إذا استمر ممارسوها في الحفاظ على عقل متفتح ودمجوا في عملهم أحدث التطورات العلمية في النظرية والأساليب والنتائج التجريبية.

يُحذر موراي مُقدَّما من أن القراء يقتنعون بأن الجنس والعرق والطبقة كلها بنيات اجتماعية، وأن أي ادعاءات بخلاف ذلك هي ادعاءات علمية زائفة. المشكلة في كون موراي "وحيدا" مع قرائه المفضلين، وهو يخاطر بالوعظ للجوقة؛ وبالتالي تقليل التأثير الذي قد يحدثه التنوع البشري على الأشخاص الذين سيستفيدون أكثر من قراءته: أولئك الذين لا يشاركونه آراءه، وأولئك الذين لم يشكلوا بعد رأيا قويا في موضوع هذا الكتاب. أولئك الذين يعتقدون أن أجندة موراي تهدف لإدامة اضطهاد الأقليات سوف يفاجأون عندما يعلمون أن موراي يهتم بشدة بالتدخلات لمساعدة الأطفال من الخلفيات المحرومة للتعبير عن إمكاناتهم الكاملة في المجتمع. لكن موراي يهتم بالتدخلات التي تستند إلى العلم الراسخ. إنَّ أجندته، إذا كان لديه واحدة، هي تعزيز قيم التنوير، وليس مصالح بعض الطبقة الحاكمة المتميزة.

-------------------------

- الكتاب: "التنوع البشري.. بيولوجيا الجنس والعرق والطبقة".

- المؤلف: تشارلز موراي.

- سنة النشر:2020م.

- عدد الصفحات:491 صفحة.

أخبار ذات صلة