الإمكانيات الطبيعية المحدودة للأرض

الغلاف.jpg

أورليان بوتو ونتاشا غوندران

سعيد بوكرامي

دخلنا منذ الثورة الصناعية في فترة غير مسبوقة من تاريخ الأرض، والتي يقترح البعض تسميتها بالأنثروبوسين، وهي حقبة جديدة تتميز بحقيقة أن الإنسان العاقل أصبح العامل الرئيس في تعديل التوازنات البيئية على نطاق الكوكب. يمكن لهذه الاضطرابات الناجمة عن الأنشطة البشرية أن تخرجنا من الظروف المواتية والمستقرة نسبيًا في حقبة الهولوسين (العصر الجيولوجي الحالي)، والتي استفدنا منها لأكثر من عشرة آلاف عام إلى مرحلة جيولوجية جديدة قد تكون نتائجها المتعمدة كوارث حقيقية على مستقبل الكائنات الحية. ومع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اقترح باحثون من مختلف التخصصات إجراء جرد للعمليات البيئية الجارية، وما قد تؤدي إليه من انهيار لا محالة وشيك. لذلك؛ اعتنوا غاية العناية بالقضايا البيئية ودرسوا كل قضية على حدة، مقترحين الحدود الممكنة والتي من الأفضل عدم تجاوزها إذا كانت البشرية ترغب في الحفاظ على "النظام البيئي الأرضي" والعيش في ظروف ملائمة.

ولطالما كانت الحدود الطبيعة للتوسع البشري موضوعًا للنقاش، خاصة بين الاقتصاديين. كانت تقريبا طوال قرنين من الزمان حدود الموارد الطبيعية أساسًا هي جوهر الأسئلة بين فريقين من الباحثين. من جهة، اعتبر "المالثوسيون" (نسبة لطوماس مالثوس) أن النمو الاقتصادي والديموغرافي سينتهي به الأمر إلى التعثر بسبب استنزاف الموارد الطبيعية؛ الأمر الذي سيُؤدي بعد ذلك لانهيار الإنتاجية وستعقبها نتائج وخيمة اقتصادية واجتماعية. ومن جهة أخرى، يعتقد "الكورنوكوبيانسيون" (مصطلح يشير إلى أسطورة "الوفرة")، أن براعة الإنسان ستتزايد إلى أجل غير مسمى وكذلك قدرته على استغلال الموارد الطبيعية؛ على سبيل المثال: من خلال تكثيف استغلاله أو عن طريق استبدال الموارد التي أصبحت نادرة، بأخرى من المفترض أن تكون أكثر صمودا ووفرة إنتاجية أمام الظروف الطبيعية.

وبدا الواقع لقرنين من الزمان، وكأنه يثبت أطروحة الكورنوكوبيانسيون؛ إذ بفضل تكثيف الزراعة والتدخل الجيني -واختراع الأسمدة على وجه الخصوص- زاد إنتاج الغذاء بشكل كبير، وبذلك خابت تنبؤات توماس مالتوس. كما مكنت آلية واستخدام الوقود الأحفوري من زيادة قدرات الإنتاج الصناعي؛ مما جعل مستوى المعيشة المادي يتحسن ويصبح في متناول عدد متزايد من الناس. لكن إذا حُلَّت مسألة الموارد مؤقتًا، فإن هذا التكثيف في استغلال الطبيعة لم يكن بدون عواقب على التوازنات البيئية؛ فقد أدى الاستخدام المكثف للأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية، على سبيل المثال، إلى تعطيل الدورات الكيميائية الجيولوجية الحيوية بشكل خطير؛ مما تسبَّب في تلوث متعدد ومتكرر للبيئات المائية والبرية. أما بالنسبة للوقود الأحفوري، فلم يدرك الباحثون آثاره الضارة على النظام المناخي إلا في النصف الثاني من القرن العشرين.

لهذا؛ تحتل اليوم قضية الحدود البيئية للأرض أهمية قصوى، نتيجة معرفتها وتقصي إمكانياتها وطرح حلول لمواجهة حقيقية وعلمية لانتشار الهجمات الشرسة على "نظامها المناخي". شرع المجتمع العلمي منذ عدة سنوات في مشروع عاجل وطموح يتمثل في تزويد صانعي القرار وعامة الجمهور بنظرة عامة عن المتغيرات الرئيسة التي تحدد التوازن بين النظم البيئية على نطاق الكوكب، إلى جانب نوعية المناخ والتنوع البيولوجي. ومن بين الأطروحات الجادة والعملية ما يتناوله كتاب الباحثين أورليان بوتو وناتاشا غوندران " الحدود الطبيعية للأرض" الذي يعالج القضايا الأقل شهرة لدى عامة الناس، مثل اختلال التوازن في الدورات الكيميائية الجيولوجية الحيوية، وتغير استخدام التربة، وإدخال الملوثات البشرية في النظم البيئية أو زيادة الأحماض في المحيطات وتأثيرها على الكائنات البحرية. هذه كلها قضايا يحاول المجتمع العلمي الآن تعيين الحدود التي لا ينبغي تجاوزها إذا أرادت البشرية تجنب خطر الانهيار المحتمل.

ويبدأ الكتاب بتذكير مهم حول تفكير المجتمعات البشرية في البيئة بشكل متكرر وإدراكها لوجود حدود "طبيعية" للموارد، التي يسعى البعض لتجاوزها بينما يفضل البعض الآخر احترامها. بدءًا من المبدأ القائل بوجود "حدود للأرض" وصولا إلى التنمية الاقتصادية (والتي تعد الأزمة البيئية أحد مظاهرها)، يحدد أورليان بوتو ونتاشا غوندران كيف صيغت هذه الفكرة تاريخيًا (الفصل الأول) ثم يضعان كل المفاهيم المتعلقة بها في (الفصل الثاني)، قبل أن يقترحا مراجعة واسعة للأدبيات حول "العمليات الرئيسة لتنظيم أو مرونة نظام الأرض الذي استخلص المجتمع العلمي إمكانياته" في (الفصل الثالث إلى الفصل السادس). وفي الفصل الأخير يحددان بإيجاز بعض أسباب تجاوز الحدود الطبيعية المفصلة سابقًا.

ومنذ عهود قديمة، ربط الإنسان الحدود الطبيعية للأرض في كثير من الأحيان بالمسائل الاقتصادية حتى بدايات الصناعة في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وفي ذلك الوقت، كان الملهمون الرئيسيون للاقتصاد الحديث، مثل سميث وريكاردو وساي يعتبرون الموارد الطبيعية غير محدودة لأنها متاحة مجانًا. يبدو أن مالثوس هو الاقتصادي الوحيد اليوم الذي وضع تصورًا للأرض ومواردها كعامل مقيد للتنمية الاقتصادية (والديموغرافية). أثار هذا الموقف المعارض للفكر الاحتكاري العديد من المناقشات خلال القرن التاسع عشر، والتي انتهت مع ذلك بالتخلي عن الأراضي الطبيعية مقابل الأعمال الاقتصادية وأرباحها المالية. الآن، وفي ظل هيمنة الاقتصاد، لم يوضع مبدأ النمو على محك التساؤل إلا في السبعينيات من القرن الماضي، حيث أشار إليه تقرير "نادي روما" عن "حدود النمو". هذا التقرير الصادم كان مدعومًا بأحدث النمذجة المعلوماتية، التي ساعدت على توفير البيانات الاقتصادية والعديد من المتغيرات الأخرى التي خلخلت التوازن الطبيعي وغيرت المجتمعات البشرية. ومع ذلك، لم يول الاقتصاد المهيمن سوى القليل من الاهتمام لمفهوم الحدود الطبيعية للأرض، على الرغم من اكتشاف التغيرات العالمية الملموسة والخطيرة، التي أكدتها الأبحاث العلمية، التي اكتشفت ترقق طبقة الأوزون وظاهرة الاحترار العالمي، وواقع تمدد الأعاصير العملاقة وزيادة منسوب البحار.

إذن؛ فقد استمرَّت الدراسات العلمية حول حدود إمكانيات الكواكب الطبيعية من خارج علم الاقتصاد؛ حيث جمعت بين تحليلات توفر الموارد وتحليلات عمليات التنظيم أو المرونة في نظام الأرض. لم يلاحظ هؤلاء نقصًا في الموارد فيما يتعلق بمورد واحد أو أكثر، لا سيما بسبب صعوبة تحديد الحدود في استخراج المواد الخام -كما يتضح من الخلافات حول تحديد ذروة النفط في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وعليه، فإن المنظور النظامي لـ"علوم نظام الأرض" قد وسّع هذه المسألة الصعبة المتعلقة بالموارد إلى تلك المتعلقة بالتلوث الذي تولده الأنشطة البشرية المتزايدة.

وبعد ذلك، يحدِّد الكاتبان تسع تطورات بيئية تشهد على حدود الإمكانيات الطبيعية لكوكبنا من أجل مراقبتها بشكل خاص. ثلاثة منها ذات بعد عالمي حقا: تغير المناخ وتحمّض المحيطات وتدمير طبقة الأوزون. أما الستة الأخرى فهي -تعطيل دورة النيتروجين والفوسفور، وتعطيل دورة المياه العذبة، وإزالة الغابات، وإلحاق الضرر بالتنوع البيولوجي، وشحن الغلاف الجوي بالجسيمات والتلوث الكيميائي- هي في الوقت الحالي أضرار محلية، لكنها ستصبح من خلال مجموعة من التراكمات عالمية أيضًا. وعلى الرغم من أنها وثيقة الصلة بسياق يهدف للإسراع في اتخاذ القرار السياسي، فإن مفهوم الحدود يطرح مشاكل منهجية كبيرة أمام العلماء، لا سيما فيما يتعلق بانعدام الثقة المتأصلة في هذا النوع من الدراسات. وهكذا، فإن الغرض من اقتراح مفهوم "الحدود الطبيعية للأرض" أن نأخذ بعين الاعتبار تحذير الباحثين فيما يتعلق بنتائجهم وكذلك بالتوقعات الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالقضايا البيئية. من خلال منظور هذا المفهوم الجديد، يقدم المؤلفان نظرة عامة وشاملة على النتائج الحديثة في علوم النظام البيئي للأرض.

ويبدأ الجرد المقترح بالحدود البيئية العالمية الثلاثة المحددة مسبقًا بين عامي 1960 و1990، والتي سببت زيادة بمقدار خمسة أضعاف في الكمية السنوية من المركبات الكيماوية المنبعثة إلى الغلاف الجوي في تآكل طبقة الأوزون الستراتوسفير (O3) من خلال تفاعل كيميائي بين هذه الجزيئات. وقد أدت التحذيرات العلمية حول الأخطار الصحية والبيئية لمثل هذا التدمير إلى تعاون دولي يهدف لإبطاء العملية. نجاحها -في الواقع، لا يتجاوز حدود الأوزون- لكنه ألهم المجتمعات فضيلة التعاون في المستقبل بين الدول بشأن التغيير البيئي العالمي. وفي خضم هذا التعاون يحظى تغير المناخ باهتمام خاص؛ لأنَّ الخلل في التنظيم الطبيعي للمناخ بواسطة الغلاف الجوي أضحى حقيقة لا مفر منها. نظرًا لتغير تكوين الغلاف الجوي بشكل دائم بسبب انبعاثات الغازات الدفيئة الكبيرة على مدار القرنين الماضيين؛ فقد تعطلت دورة الكربون؛ مما أدى لتعزيز تأثير الاحتباس الحراري. وفي ظل هذه الظروف الطبيعية، يعد ضروريًّا تطوير الحياة على الأرض والحفاظ عليها، ولكن تأثير الاحتباس الحراري الإضافي الذي يميز تغير المناخ، له عواقب سلبية متعددة على التنوع البيولوجي مثل تدمير بعض الكائنات وانخفاض المحاصيل الزراعية، وتهجير السكان... إلخ. جميع مؤشرات المناخ هي الآن باللون الأحمر: لقد تجاوزنا إمكانيات المناخ المتاحة، دون أن تتبعها تأثيرات سياسية كما كان الحال بالنسبة للأوزون. وسيؤدي اضطراب دورة الكربون أيضًا إلى تحمض البحار والمحيطات، لأن عزل الكربون في الغلاف الجوي لا يمكن أن يواكب الفائض المتزايد من الغازات الدفيئة المنبعثة.

إنَّ عواقب هذه الظاهرة مهمة بالنسبة للكائنات البحرية، لكنها تعزز أيضا التغيرات المناخية. ومن بين التغيرات البيئية المقلقة التي لم يتحدث عنها (حتى الآن) على نطاق عالمي، تلك المتعلقة بمرونة النظم البيئية وبيئاتها. وبالتالي، فإن تعطيل دورة النيتروجين من خلال الزراعة المكثفة يخرب عمليات التحلل الطبيعي/ وإعادة التكوين الطبيعي للتربة، كما تؤدي صناعة التعدين إلى اختلال توازن تدفق الفوسفات الحيوي للعديد من الكائنات الحية. وأخيرًا، يستحوذ الاستخدام البشري المفرط للمياه العذبة على الكثير من الموارد الأساسية للعديد من البيئات الطبيعية. وهذه العمليات المحلية الثلاث التي ترمز للأنثروبوسين بعيدة كل البعد عن كونها ظواهر معزولة: توجد حلقات تغذية مرتدة بين هذه الظواهر (وغيرها)، وأحيانًا حتى عندما يتم التعبير عنها بمقاييس مختلفة. ويُعتبر تطور التنوع البيولوجي في هذا الصدد مهمًّا للتأثيرات العابرة للحدود لهذه التغيرات البيئية؛ فالانقراض المحلي لبعض الأنواع الحية يقلل من التنوع النوعي والوظيفي، مما يؤثر بصورة ميكانيكية على توازن المحيط الحيوي. هذه البانوراما المحزنة للعديد من التغييرات البيئية تستند فقط إلى الاتجاهات المعروفة عند العلماء، التي يخصص لها أورليان بوتو وناتاشا غوندران فصلًا كاملا يعالج هذه القضايا البيئية، التي لا تزال حدود الكوكب الطبيعية المرتبطة بها غير معروفة؛ لذلك فهي تدعو للقلق والحذر والإسراع في اتخاذ القرارات والإجراءات الكفيلة بالتحسيس بها ومحاولة إيجاد حلول لها.

وهكذا يَقترح المؤلفان بضع طرق "للتعامل" مع محدودية الإمكانيات الطبيعية لكوكبنا. بالنسبة لعلماء الاجتماع، قد يفتقر هذا الفصل الأخير إلى العمق العلمي الضروري؛ نظرًا لأنَّ الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للكارثة البيئية لم يتم تطويرها بشكل تام. يتضح هذا من خلال تعبئة الصيغة المثيرة للجدل I=PAT، والتي من المفترض أن تلخص الرهانات المتاحة للمجتمعات لحل الأزمة البيئية. ومع ذلك، فإن القضايا التقنية الكامنة وراء الاستجابات السياسية للاضطرابات البيئية موصوفة في الكتاب بدقة؛ على سبيل المثال ما يتعلق بالانتقال الزراعي والغذائي الضروري نحو نموذج جديد ومستدام. من مُؤاخذاتنا على الكتاب أنه يجعل عناصر المناقشة الوحيدة المتعلقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية عناصر هامشية نسبيًا بالنسبة لموضوع الكتاب. كما أنَّ المنهجَ التاريخي المعتمد في الفصل الأول يعيبه الاقتضاب بعض الشيء مما يقلل من فرصة فهم عميق لمفهوم الحدود رغم أنه كان موضوع تأملات فلسفية مهمة مع (إليش، إيلول، شاربونو...إلخ) وتأملات سياسية مع الفيلسوف (غورز)، بالتزامن مع التحديات العلمية الأولى لمبدأ النمو في سبعينيات القرن الماضي. وهذا المنظور الأوَّلي كان سيجعل من الممكن بلا شك إثراء الفصل الأخير ببضعة مسارات عن "تراجع النمو" وأسبابه، دون أن يكون من الضروري تلخيص الأدبيات الواسعة المكرسة له. ويبدو أن النواقص قليلة في الكتاب، تشفع لها جدية الكتاب وفائدته الكبيرة والتزام الكاتبين بقضايا بيئية راهنة وملحة وخطيرة.

-------------------------

- الكتاب: "الإمكانيات الطبيعية المحدودة للأرض".

- المؤلف: أورليان بوتو ونتاشا غوندران.

- الناشر: دار لاديكوفيرت، فرنسا، 2020م.

- عدد الصفحات: 126 صفحة.

أخبار ذات صلة