قيس الجهضمي
تتناول فوزية طلحا في مقالتها المنشورة بمجلة التفاهم والتي بعنوان "مرجعيات حقوق الإنسان وإشكالية الكونية والخصوصية"، كيفية تكون حقوق الإنسان ومشروعية تطبيقها في المجتمعات، وما هي المراجع والمصادر التي قامت عليها، وأبرز الإشكاليات الواقعة فيها من خلال التطبيق، فالأمم المتحدة تُعرف حقوق الإنسان بأنها: "تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا والتي من دونها يستحيل علينا أن نحيا كبشر"، وهي برأي إيف موديو تسعى لحماية الكرامة الإنسانية والمحافظة على النظام العام.
سعى الإسلام إلى التأكيد على حقوق الإنسان ورعايته وكرامته، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم ..."، وإن أشد ما يميز الإسلام في مجال حقوق الإنسان هو أسبقيته وشموليته في هذه الحقوق، كما أنه رأى أن الاعتداء على هذه الحقوق هو اعتداء على الله ورسوله، وارتكزت هذه الحقوق على الأخلاق الإسلامية واحترام الغير في الحياة، ثم سعى الإسلام في الدعوة إلى قيم التسامح والمساواة والتعاون، وجعل مركز هذه القيم ونواتها التقوى التي ترجع إليها وتشتق منها قيم أخرى جديدة، فعلى سبيل المثال: حق الحياة؛ فالله تعالى سبحانه حرّم قتل النفس أو الاعتداء عليها "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"، وكذلك شرع للإنسان حق الاعتقاد "لا إكراه في الدين"، وتذكر الكاتبة أْنّ هذه الحقوق جاءت شاملة لكل أفراد المجتمع وفئاته، وأن مفهوم حقوق الإنسان بدأ بالظهور في عصر النهضة الأوروبية لا يعني أن الإسلام لم يكن يحوي هذه الحقوق مثل باقي الأديان، بل أكد أنّه يتفق مع معظم العناصر الأساسية لهذا الحقوق التي أصبحت الآن عالمية.
وبما أن الإسلام اهتم بحقوق الإنسان وتأسيسها فإن الواقع يظهر أن المسلمين كان اهتمامهم بها ضعيفا جدا، كما تذكر طلحا، إذ نرى أن الحضارة الغربية تقدمت علينا حين قامت بصياغة الحقوق على شكل وثائق وقوانين، وحين أدرك المسلمون هذه الحقيقة بدأوا بالتحرك فانبثقت العديد من النصوص والمواثيق منها: "إعلان حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام، البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان، البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام"، وقد أورد البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان في اليونيسكو سنة 1981م أربعة عشر حقا من حقوق الإنسان الأساسية مدعومة بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي كالتالي: "حق الحياة، حق الحرية، حق المساواة، حق العدالة، حق الفرد في محاكمة عادلة، حق الحماية من تعسف السلطة، حق الحماية من التعذيب، حق المشاركة في الحياة العامة، حق حرية الاعتقاد والتفكير،حق الحرية الدينية، حق الدعوة والبلاغ، الحقوق الاقتصادية، حق بناء الأسرة، حقوق الزوجة، حقوق التربية، حق الفرد في حماية خصوصياته، حق حرية الارتحال والإقامة".
لقد بدأ تحول الحقوق من دائرة الأخلاق إلى دائرة القانون في القرن السابع عشر الميلادي، وتعد "الماكنا-كرتا" النواة القانونية الأولى لحقوق الإنسان حين أنشئت لضبط صلاحيات الملك في انجلترا، وأسهمت أيضا الثورة الفرنسية عن طريق إعلانها لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م، فصارت لإعلانات حقوق الإنسان صبغة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب ما عاناه البشر من سلطوية الأنظمة الدكتاتورية.
وقد اعتمدت أيضا هذه الحقوق على تنظيرات المفكرين والفلاسفة بجانب الأحداث التارخية والحراك السياسي، فمنها نموذج أرسطو القائم على وجود عدالة عامة وتتجلى في القانون الأخلاقي، وكذلك فلسفة الحق الطبيعي التي تؤمن أن هناك مبادئ مثالية خالدة، ونظرية العقد الاجتماعي القائمة على تعاقد الأفراد فيما بينهم لإقامة مجتمع منظم، ولكي يقيم الإنسان نظاما اجتماعيا قائما على قيم المساواة والعدالة يرى جون جاك روسو أنه يجب علينا التنازل عن قسط من الحرية الفردية إلى مراعاة الحقوق العامة، وترى الكاتبة أن تفاعل التجربتين التاريخية والفكرية لدى الغرب جرى بهم بالخروج من المجالات الأخلاقية إلى المجالات القانونية، وبها قاموا بإعلانات للمعاهدات والقوانين الدولية، وفي عام 1948م قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد حوى هذا الإعلان على مقدمة وثلاثين مادة، لكن الإشكالية القائمة هي مدى اتصاف الإعلان بالكونية ومدى حضور الخصوصية فيه، فكيف نُقر بكونية الحقوق في واقع يحتم علينا التعدد والاختلاف بين الشعوب والعقائد؟.
وقد خلف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبولا واسعا لكثيرين وأيضا بالمقابل كرها من أناس آخرين، ورغم ذلك سعى الجميع لأن تكون هذه الحقوق ذات بعد كوني وشمولي، وقد ظهرت هذه الكونية والشمولية برأي الكاتب في المضمون بشكل عام، وفي توجه الخطاب فهو للجميع، كما ظهرت أيضا في الصبغة القانونية العالمية التي صادقت عليها كل الدول، بل قامت بعض الدول باعتبارها إحدى مصادر التشريع لديها، وقد رأى البعض أن الغرب سعى لكونية الحقوق لاستعمالها كقناع يساعده على الهيمنة والسيطرة في بعض البلدان، فتذكر الباحثة حنة ارنت في كتابها "الإمبريالية" بأن الدول الأوروبية لم تكن في القرن التاسع عشر قادرة على ضمان حقوق الإنسان لأفراد لا ينتمون إلى أوطانها، إذ لم تكن هذه الحقوق مضمونة إلا بالنسبة للمواطنين، لذا من الملاحظ أن عمليات استعمار الشعوب التي قامت بها الدول الغربية سارت بجنبها فلسفة حقوق الإنسان، فطلحا ترى أن مسألة كونية الحقوق تحتاج إلى بحث وتقنين آخر يحفظ الخصوصية الثقافية والفكرية للشعوب، فمن الأمثلة التي يقع فيها تعارض الخصوصية مع الكونية نجد في الإسلام أنه لا يحق للمسلم أن يتحول عن دينه بينما الإعلانات العالمية تبيح ذلك بحسب رأي الكاتب، وهكذا فإن خصوصية الشعوب التي تمليها اختلاف الثقافات والأديان يفرض التعامل بها مع هذه المواثيق بنوع من الانتقائية الإيجابية لتنسجم مع الهوية الإسلامية من جهة، والحفاظ على الانتفاح الفكري والثقافي من جهة أخرى.
وأرى أن التنظير لهذه الحقوق وتقنينها قد أخذ ما يكفي من الجهد، لكن التطبيق على أرض الواقع هو أساس الإشكال، فالأغلب يعي القيم المثلى وحقوق الإنسان لكن مجرى أفعاله تنحى عكس ذلك، وفي ظل هيمنة الأنظمة الرأسمالية والدكتاتورية تصبح هذه الحقوق مجرد أدوات للوصول لغايات شخصية لهؤلاء الأشخاص، لذا من الواجب مراقبة السلوك الإنساني وتقويمه بقوانيين تحفظ مجرى تطبيق هذه الحقوق على هذه البسيطة.
