فريديريك لونوار
سعيد الجريري*
كرس الفيلسوف باروخ سبينوزا (1632-1677) حياته كلها للفلسفة، وبسبب أفكاره الجريئة التي قلب بها وجهات النظر السائدة في القرن السابع عشر حول الإله والأخلاق رأسًا على عقب، غالبًا ما يُنظر إليه على أنَّه رائد التنوير والديمقراطيات الحديثة. لكن مُهمته الرئيسية كانت على الأرجح اكتشاف الخير الحقيقي، وإيجاد طريقة حياة تُؤدي إلى السعادة الأبدية. فهو يجادل بأنَّ هذه السعادة لا تُنال بالسعي وراء الشهرة أو التملك، ولكن بالعيش بطريقة بسيطة، تقوم على الصدق وطول الأناة والاعتدال. ويُمكن أن يساعدنا العقل وتجاربنا الحياتية في هذا المسعى. في هذا الكتاب يُظهر لينوار بشكل مُقنع ورائع أنَّ هذه الأفكار عن سبينوزا خالدة، وهي "معجزة" سبينوزا الذي ما زال يشغل المفكرين منذ القرن السابع عشر، فهو لم يكتب لمعاصريه، بحسب الفيلسوف السياسي ليو شتراوس، بقدر ما كتب لنا نحن المعاصرين، إذ صاغ الأفكار الأساسية للمجتمع الغربي (والإنساني) المُعاصر. إذ أقام، بشجاعة، قطيعة مع الأعراف والقيود المُهيمنة في عصره، وعمل على تطوير فلسفة راديكالية لا هوادة فيها لما تزل قابلة للتطبيق حتى الآن.
فريديريك لونوار (1962) - عالم الاجتماع الفرنسي، مؤلف أكثر من خمسين كتابًا، معظمها عن فلسفة الدين، أحد المعجبين بفلسفة سبينوزا، كتب Le miracle Spinoza في عام 2017، الذي تُرجم الآن إلى الهولندية بعنوان "سبينوزا والطريق إلى السعادة"، وينهج فيه نهج سبينوزا في بحثه عن الحقيقة والسعادة الحقيقية، فقد عاش سبينوزا الذي طُرد من الجالية اليهودية في أمستردام عام 1656، حياة التأمل والفلسفة التي بلغت ذروتها في كتابه الشهير (علم الأخلاق)، وهو تحفة فلسفية لا تزال مصدر إلهام وتحدٍ فكري للكثيرين.
يتألف كتاب لونوار من مقدمة وجزأين رئيسين تعقبهما خلاصة وخاتمة. خصص المُقدمة لما يسميه "معجزة"سبينوزا، وجعل الجزء الأول لمقاربة "سبينوزا الثوري سياسياً ودينياً" مُتضمناً تحوله الفلسفي، معاناته، تفكيره الحر، قراءته النقدية للكتاب المقدس، نظرته إلى المسيح، خيانة اليهودية؟، ثم التمهيد لعصر التنوير. وعنون الجزء الثاني بـ: عبقري الحكمة، متناولاً فيه: الأخلاق وسيلةً لتحقيق الفرح التام، إله سبينوزا، زيادة القوة والكمال والفرح، فهم المشاعر التي تحركنا، بذر التوق، ما وراء الخير والشر، والحرية والخلود والحب. أما الخلاصة فخصصها لـ "عظمة وحدود السبينوزية"، ثم ختم الكتاب بالرسائل المتبادلة مع روبرت مسراهي.
عن خلفية تلمسه السبيل إلى فلسفة سبينوزا يشير لونوار في المقدمة إلى أنَّ للحياة في بعض الأحيان منعطفات غريبة. فهناك عبقريان لم أكن أعرفهما، ولدا على بعد شهر واحد، وعاشا بشكل متواضع للغاية على بعد عدة أميال، وتوفيا في سن مبكرة نسبيًا (43 و 44 عامًا) وكانا فقيرين جدًا لدرجة أن أقرب أقربائهما ورثوا عنهما الديون فقط. صحيح أن عملهما اكتسب سمعة معينة خلال حياتهما، لكن عبقريتهما التي أثرت لاحقاً في العالم بأسره، لم يتم الاعتراف بها إلا بعد قرنين من وفاتهما. كان أحدهما رسامًا والآخر فيلسوفًا. ولد كلاهما في هولندا عام 1632. لم يعرف يوهانس فيرمير وباروخ سبينوزا بعضهما بعضاً قط، لكن بالإضافة إلى سيرتهما الذاتية، تُظهر أعمالهما أيضًا علاقة مُفاجئة: الضوء. تنعكس جودة الضوء في غرف فيرمير الداخلية في الدليل الواضح لسبينوزا، فتغير نظرتنا للإنسان والعالم. لقد تعرفت على سبينوزا في وقت متأخر، ولكن تبين أنها واحدة من أكثر اللقاءات التي لا تنسى في حياتي. منذ تلك اللحظة فصاعدًا، فهمت أيضًا سبب كون فيرمير هو الرسام الذي أثر فيَّ بعمق: تناغم الضوء في لوحاته، مثل تفكير الفيلسوف، له تأثير مهدئ للغاية.
قبل مناقشة الأخلاق، يقف لونواز إزاء كتابات سبينوزا الأخرى، مثل رسالة في اللاهوت والسياسة، ثاني أعظم أعماله، التي تعد نداءً قوياً من أجل حرية الفكر والفلسفة، ولحرية النظر النقدي في كل شيء، بما في ذلك الدين. إذ لم يكن سبينوزا ينظر إلى الكتاب المقدس على أنه عمل إلهي، بل كان يراه ثمرة من ثمار عمل الإنسان المليء بالتناقض الداخلي. يقول سبينوزا "إن كل من يعتبر الكتاب المقدس كلام الإله يجعل من الدين خرافة". وفي سياق الدفاع عن حرية التعبير. يلخص سبينوزا وجهة نظره بإيجاز أن:"هدف الدولة هو الحرية"، وهكذا يبرهن على أنه، وفقًا للينوار، أول مفكر حديث للديمقراطيات الليبرالية، فهو فيلسوف المجتمع العلماني الحديث، الذي يقدم مدينة أمستردام على أنها رمز استثنائي.
ويستغرق لونوار في كتاب علم الأخلاق، المبني هندسيًا من التعريفات والبديهيات والنظريات والبراهين، ويهدف إلى إثبات الطبيعة العلمية لرؤيته، مقارباً السؤال المركزي فيه: كيف ينبغي أن يعيش الناس ليسعدوا؟ فهناك فرضية مهمة لسبينوزا هي أن العالم يتكون من مادة واحدة يسميها "الإله أو الطبيعة"، والتي يتكون منها كل شيء، وينبع منها كل شيء بالضرورة. ليس الإله، كما في التقليد اليهودي المسيحي، متسامياً، كائنًا خارج عالمنا، ولا يوجد إله جوهري، وكل شيء موجود في الإله. فالإله ليس قوة خارجية، بل سبب داخلي، وتحدث الحياة وفقًا لقوانين الطبيعة الحديدية التي ليست سوى قوانين الإله. كما لاحظ ألبرت أينشتاين ذات مرة، "أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في انسجام كل ما هو موجود، ولكن ليس بالإله الذي يتدخل في مصائر وأفعال البشر". فالطريقة الوحيدة لسعادة الإنسان هي تطوير العقل بشكل أكبر. والمعرفة المتزايدة بقوانين الطبيعة ومكاننا فيها، هي التي تمكن الإنسان من الاستخدام الأمثل لإمكانياته. إن فهم أن كل شيء يسير وفقًا للقوانين الطبيعية أمر ضروري لتكون سعيدًا. يقتبس لينوار عنه:"عندما يتقن الإنسان هذا النوع من المعرفة، فإنِّه يصبح أكثر وعيًا بنفسه وبالإله. أي أنه يكون أكثر كمالًا وسعادة". وهكذا، يمكن أن تزدهر المحبة الفكرية للإله أو الطبيعة "مصدر النعيم الحقيقي".
إن الشعار المركزي لسبينوزا هو"لا تسخر، لا تندم، لا تُدِن ، لكن تفهّم"، ما يعلل عثور لونوار على موضوعه - سبينوزا والسعادة - بشكل رئيسي في "الأخلاق"، على الرغم من أنَّه يوضح أيضًا التمييز بين الإيمان والعقل والسياسة. في "الأخلاق"، يبحث سبينوزا عن "خير حقيقي يمكن أن يملأ العقل ويمنح الفرح التام". لكنه مثل المفكرين القدماء، لا ينحو سبينوزا إلى ترك السعادة تعتمد على الأسباب الخارجية. ذلك أننا إذا تعلقنا بالقشور، مثل الشهرة والثروات، فسوف نشعر بالحزن الناجم عن عدم ثبات تلك الأشياء. أما إذا تمسكنا بأشياء نبيلة، فإنَّ سعادتنا ستكون أكبر وأكثر ديمومة.
لقد كان سبينوزا مقتنعًا بأنَّ الواقع ذو طبيعة هندسية. الواقع، الذي يطلق عليه اسم الإله أو الطبيعة ، يخضع لقوانين ضرورية للغاية. فنحن نختبر أنقى فرح عندما نجعل طبيعتنا مُنسجمة مع الطبيعة، عندما ننسجم مع الكون بمساعدة العقل. ولعل رؤية سبينوزا للبشرية جديدة ومدهشة. بعد ترك ثنائية العقل - الجسد لديكارت، افترض أنَّ الروح هي التعبير الفكري عن الجسد، والذي بدوره يمثل التعبير المكاني أو المادي للعقل. وهناك فجوة أخرى داخل الإنسان. هذا لأنه يواجه نوعين من "التأثيرات": الفرح والحزن. العالم الخارجي له تأثير على ذلك. فعندما ينسجم عمل فكرة أو وجود خارجي مع طبيعتنا، فإنه يزيد من قوة حياتنا. في غياب الانسجام، تتضاءل تلك القوة، زيادة قوتنا تقودنا إلى الفرح، ونقص قوتنا يؤدي إلى الشعور بالحزن. لذلك ينبغي تنظيم الحياة ، بمساعدة العقل، بطريقة تقلل من الحزن وتزيد الفرح.
وبدلاً من إدانة السلوك البشري، يُمكننا تحليله بشكل أفضل، كما يقول سبينوزا الذي ينسجم، وفقًا للونوار، مع المسيح ومع فرويد. فلتحليل السلوك البشري، تعد معرفة التأثيرات أمراً بالغ الأهمية. فسلوكنا ينبع من التواصل مع أشكال الوجود والأفكار التي نشأت لدينا منذ ولادتنا والتي أنتجت جميع أنواع التأثيرات فينا. خلاصة القول هي أننا نحدد مصيرنا بأيدينا.
هناك دروس الحياة المُدهشة التي يُمكن تعلمها من حياة سبينوزا وتفكيره الاستثنائيين، كما يعرضها لونوار في هذا الكتاب. إذ لم يكن سبينوزا مُفكرًا ثوريًا فحسب، بل كان قبل كل شيء فيلسوفًا لفن العيش والسعادة. ما يعني أن فلسفته يُمكن أن تساعدنا في إيجاد معنى للحياة - وربما حتى السعادة.
سبينوزا هو أحد هؤلاء الكتاب الذين يمكنهم تغيير حياتك - يؤكد لونوار - فلم يعد من المُمكن احتساب عدد المفكرين العظماء الذين يقولون إنِّهم مدينون له بامتنان عميق، من بيرجسون إلى أينشتاين. ويقتبس الكاتب من غوته هنا لأنه يوضح بشكل جميل كيف يُمكن لسبينوزا أن يشحذ ذكاءنا ويهدئ قلوبنا، حتى عندما يبدو مزاجنا مختلفًا تمامًا عن مزاجه. هذا ما يقوله مؤلف فاوست في سيرته الذاتية:"تعرفت على شخصية وتعاليم إنسان غير عادي - غير مُكتمل، هذا صحيح، لكن ذلك كان كافياً لإحداث تأثيرات ملحوظة. هذا الروح الذي كان له مثل هذه الأهمية الحاسمة التي من شأنها أن تؤثر في طريقة تفكيري بأكملها كثيرًا، كان سبينوزا. بعد البحث عبثًا في كل مكان عن مثال حكيم يلائم طبيعتي الخاصة، أخيرًا وجدته على هذا الفيلسوف. ما أدهشني في هذا العمل وجذب انتباهي لم يعد بإمكاني قوله، لكن ما قرأته هدأ من عواطفي وبدا أن منظورًا واسعًا وحرًا للعالم الحسي والأخلاقي طفق ينفتح". ما يؤكده غوته بشكل مفاجئ هنا هو التناقض بين الجانب الهندسي الجاف للغاية للأخلاقيات، والقوة المهدئة والمريحة التي يمكن أن يمارسها هذا الكتاب، خاصة على الشخصيات المتحمسة. يريد سبينوزا أن يشرح بموضوعية قدر الإمكان الذكاء العميق والانسجام اللذين يرتبط بهما الواقع. أولاً وقبل كل شيء، يعرّف الإله بأنَّه المادة الفريدة لكل ما هو موجود، ومن هنا يبذل قصارى جهده لإظهار أن كل شيء له سبب - ترتيب الكون وفوضى عواطفنا - وأن كل شيء يمكن تفسيره بالقوانين العالمية للطبيعة. كل الفوضى مجرد مظهر وليس صدفة، كما لا توجد معجزات. ومع ذلك، فإن تكن هناك معجزة واحدة نود كشفها من خلال المعرفة الحقيقية - يقول لونوار- فهي معجزة سبينوزا! كيف يمكن أن يكون هذا الرجل قد بنى في أقل من عشرين عامًا مجموعة فكرية من الأعمال عميقة بقدر ما هي ثورية؟ سنرى أن أفكار سبينوزا تشكل ثورة سياسية ودينية وأنثروبولوجية ونفسية وأخلاقية حقيقية. وإذ أخذ العقل معياراً وحيداً للحقيقة، فقد أصبح عالميًا وخالدًا، لأن العقل هو نفسه لجميع البشر في جميع الأوقات. لذلك ، فإن رسالته ليس لديها ما تخشاه من ويلات الزمن أو من السمات المحددة بزمن. ففي حين بنى رينيه ديكارت عقلانيته على الثنائية المادي – الروحي، فقد أبحر سبينوزا أيضاً تحت راية العقل، لكنه تجاوز تلك الثنائية. لقد فككت نظريته الهندسية الدقيقة في التفكير كل الأنظمة الموجودة لبناء فلسفة كاملة لم يعد فيها تمييز بين الخالق والخلق، أو بين الروحاني والمادي. إنما في حركة واحدة، يجمع بين الإنسان والطبيعة، والعقل والجسد، والميتافيزيقا والأخلاق.
لعل مواجهة سبينوزا تلك الأفكار الظلامية ذات الخلفية الدينية المهيمنة في عصره، مما يعيده إلى واجهة المساءلات الفكرية ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر، حيث تهيمن الأفكار الطائفية والمتشددة التي هي صورة عابرة للتاريخ من زمن سبينوزا الذي تجاوزه هو، وتجاوزته المجتمعات الغربية، حيث لم يعد من شواغل مفكريها المتن الديني والمتشاكلين حوله، لأنه لم يعد الطرف الفاعل في مسار حركة تطورها، كما هو الحال في مجتمعاتنا التي تتطلع إلى سبيل نحو السلام ومن ثم السعادة بأفق سبينوزي، كما يبدو.
------------------------------------------------------------------
الكتاب: سبينوزا والطريق إلى السعادة، فلسفة البساطة
المؤلف: فريديريك لونوار، تر: مارجا بلانكيستين وإلكسندر فان كيستيرن
الناشر : بالانس، أمستردام، 2020
اللغة: الهولندية
عدد الصفحات: 224
*كاتب عربي مقيم في هولندا
