أليخاندرو نافارّو يانييث
فيصل الحضرمي
للكاتب الإسباني ألخاندرو نافارّو يانييث اهتمامٌ كبيرٌ بتاريخ العلم، خاصةً ما يتعلق منه بالكيمياء، بحكم تخصصه في مجال الكيمياء الحيوية. وقد صدر له قبل الكتاب الذي بين أيدينا عدةُ مؤلفاتٍ في هذا الإطار، نذكر منها: "سر بروميثيوس، وقصص أخرى حول الجدول الدوري للعناصر"، و"العالِم الذي هزم هتلر، ومقالات أخرى حول تاريخ العلم"، و"فايكنغ المريخ، وقصص علمية أخرى حول البحث عن حياة خارج كوكب الأرض". في كتابه هذا يُواصل الكاتب شغفه المعروف بتقصي الموضوعات العلمية الشيقة، متناولاً هذه المرة مسألة الخلود، وما يتفرَّع عنها من مواضيع متنوعة، في سردٍ يتسمُ بالرشاقة والتشويق.
يحكي الكتاب قصة توقنا للخلود. لقد وعى الإنسان حتمية الموت منذ الأزل، فخاف منه، ومنّى نفسه بقهره، فآمن بالحياة الثانية التي وعدت بها الأديان، تلك الحياة الأبدية الهانئة التي يُمكن بلوغها شرط إطاعة الآلهة وتجنب سخطها. وفي الصين، كان إمبراطورها الأول كين شي هوانغ رجلاً مُعتداً بنفسه، مُعظماً لقدرها، ولم يكن باستطاعته تقبل فكرة أنَّ رجلاً بمثل عظمته ومهابته يمكن له أن يفنى كما يفنى عامة النَّاس. كان الخلود شاغله الأول، فأنفذ مبعوثيه في أطراف الأرض يبحثون له عن الإكسير الذي يضمن له الخلود، فكانوا يعودون خائبين في كل مرة. وأوكل إلى أطبائه مُهمة تحضير وصفةٍ تجنبه الموت، فوصفوا له الزئبق، فاستغنى به عن الماء، وصار يكثر من شربه إلى أن مات متسمماً به.
كان كين شي هوانغ رجلاً ذكياً وقاسياً، استولى على الحكم في مملكته، ثم حارب ما يعرف بالممالك المحاربة، وانتصر عليها، ليُنصِّب نفسه إمبراطوراً على كامل الصين. وما إن استتب له الأمر في الإمبراطورية الجديدة، حتى ألغى الإقطاع، وبنى شبكات القنوات والطرق، ووحد العملة والكتابة، واستحدث العديد من الإجراءات ذات الطابع القانوني والتجاري. غير أنَّ ما سيجعله معروفاً بالنسبة لنا أكثر من أي شيء آخر هما سور الصين العظيم، الذي شرع ببنائه إبان حكمه، وجيش الطين؛ تلك التماثيل الطينية التي عثر عليها مدفونةً بالقرب من ضريحه، والتي يربو عددها على الثمانية آلاف، وتمثل أحصنةً وجنوداً وموظفينَ وموسيقيين ولاعبي أكروبات، بأحجام طبيعية، وبملامح وجه تميز واحدهم عن الآخر، بالإضافة إلى مئة وثلاثين عربة حربية، وغيرها من الأدوات التي قدّر الإمبراطور أنه سيحتاجها في الحياة الثانية.
من جهتهم، لم يكتف المصريون القدامى بعبادة الموتى معتقدين في أبدية الأرواح، بل وآمنوا أيضاً بضرورة حفظ الجسد للحياة الأبدية، ما دفعهم إلى ابتكار طريقة لتحنيط الأجساد، بحيث يضمنون للمومياء مكاناً آمناً للاستلقاء بسلام طوال الأبدية. النجاح النسبي لتقنيات حفظ الجسد، وما لفها من ألغاز، وما أحيطت به مكوناتها من سرية تامة، سيختلط مع مرور الزمن بالأساطير والخرافات حول تمكن بعض الأشخاص من العيش لآمادٍ طويلة، بفضل عثورهم على مواد من شأنها إطالة الحياة، وتلافي أمراض الشيخوخة. وقد كان للأديان نصيب من هذه الخرافات أيضاً، وتحديداً فيما يتعلق بالقديسين والأتقياء، بينما راج في الأوساط الشعبية الاعتقاد بوجود أرواح شريرة لا تعرف الموت، مثل مصاصي الدماء.
لكن الأمر اتخذ طابعاً مُختلفاً مع قدوم العلم، إذ ستتعامل الدراسات بجدية أكبر مع فرضية وجود وسائل موضوعية قادرة على إطالة أمد الحياة، خاصةً وأن شيوع الاهتمام بالنظافة الشخصية قد أدى إلى زيادة ملحوظة في مُتوسط العمر المتوقع للفرد، كما في متوسط عمر السكان. ورغم هذه الزيادة، فإن العمر الأقصى الذي يمكن أن يحياه الفرد ظل يراوح مكانه، وهو ما شكل لغزاً انبرى العلم لحله بكامل طاقته. واليوم، بفضل التجارب التي لا تنقطع على البشر والحيوانات، قطع العلم شوطاً كبيراً في حل هذا اللغز، وفهم الآليات الكامنة وراء طول العمر.
في بداية ستينيات القرن الماضي، كان يعتقد أن الخلايا البشرية المزروعة في المختبر بإمكانها الانقسام عدداً لا نهائياً من المرات، ما يعني أنها خالدةٌ افتراضياً. لكن عالم التشريح الأمريكي ليونارد هايفلك سيفند هذا الزعم فيما بعد، مبيناً أنَّ الخلايا السرطانية هي وحدها من يمكنه الانقسام إلى ما لانهاية. وتكريماً لهذا العالم، سيُعرف العدد الأقصى من الانقسامات الذي يمكن للخلية أن تحققه باسم "حد هايفلك". وفي العقد الذي تلاه، توصل الروسي ألكسي أولوفنيكوف إلى وجود ارتباطٍ بين الساعة البيولوجية وبين نهايات الكروموسومات، أو ما يُدعى "التيلوميرات". يلعب التيلومير دوراً رئيسياً أثناء عملية مضاعفة حمض الدنا، الحيوية لتجدد الخلايا، إذ يحمي الخلية من فقدان معلومات هامة، كما يضمن استقرار الكروموسوم، ومنعه من الاندماج مع كروموسومات أخرى، وهو ما يُؤدي إلى نتائج كارثية حال وقوعه.
يتناقص طول التيلوميرات في كل مرة تنقسم فيها الخلية، إلى أن تصبح من القِصر بحيث تتوقف الخلية عن الانقسام، وهي الظاهرة المعروفة بالشيخوخة الخلوية، أو "هرم الخلية". غير أنَّ جزيئاً هاماً، هو إنزيم التيلوميريز، باستطاعته إطالة التيليوميرات من جديد، واستئناف عملية انقسام الخلية بالتالي. يتميز إنزيم التيلوميريز بنشاطه الكبير أثناء التطور الجنيني، لكن نشاطه يتقلص بشكلٍ كبير في خلايا الأشخاص الراشدين، وذلك لتفادي تسرطن الخلايا. لقد أظهرت الدراسات التي أجريت على الفئران بهدف تحديد علاقة التيلوميرات بالشيخوخة، أن إطالة هذه المناطق من الكروموسومات ساهمت في تجديد شباب أنسجة عضلة القلب. كما أدى تحفيز نشاط إنزيم التيلوميريز في فئران أخرى إلى تحسين صحتها، وإطالة عمرها. كما أظهرت الدراسات أنَّ الفئران التي كان التيلوميريز خاملاً فيها عاشت لفترةٍ أقل نسبياً، كما أصيبت بأمراضٍ لا تحدث في العادة، أو أنها تحدث في سنٍ متأخرة.
وفيما يخص البشر، بات من المعروف أن ثمة أمراضاً ذات ارتباط مُباشر بوجود خللٍ وظيفيٍ في التيلوميرات. كما ترجح أحدث الدراسات أن العادات والعوامل البيئية التي لها تأثير كبيرٌ على الصحة وطول العمر، مثل التوتر، والسمنة، والتدخين، قد يكون لها دورٌ في إنقاص طول التيلومير. وينسحب الأمر نفسه على بعض العادات الغذائية، من قبيل الإفراط في تناول السكر. ومع ذلك، وبالرغم من أنه قد ثبت علمياً أن الخلايا التي أعيد تنشيط إنزيم التيلوميريز فيها تجاوزت حد هايفلك بكثير، فإن هذا لا يعني أنَّ الحل الأمثل لمشكلة الشيخوخة يكمن في إطالة التيلوميرات صناعياً، وثمَّة أسباب وجيهةٌ خلف ذلك. فقبل كل شيء، ليس التناقص في طول التيلوميرات العامل الوحيد المؤدي إلى التقدم في السن. كما أنه ليس معروفاً على وجه الدقة حجم الدور الذي يلعبه هذا التناقص في عملية الشيخوخة. علاوةً على ذلك، فإن الخلايا التي تتجاوز حد هايفلك تنحو لأن تتطور إلى خلايا سرطانية، وبالتالي فمن غير المجدي تنشيط التيلوميريز دون أن يصاحب ذلك القدرة على التحكم في الجينات الأخرى التي تُسهم في تكون الأورام السرطانية.
يعتبر التراكم التصاعدي للعيوب في الكروموسومات أحد الأسباب الأخرى المؤدية لتقدم السن، وهي عيوبٌ تنشأ نتيجةً لعوامل داخلية وأخرى خارجية. من بين هذه العوامل، الأخطاءُ العشوائية التي لا يمكن تفاديها خلال عملية مضاعفة الدنا، والأشعةُ ذات التأثير الأيوني، والسموم، والفيروسات، و"الجذور الحرة". هذه الأخيرة عبارة عن جزيئات أكسجين يفرزها الجسم أثناء العملية الأيضية، وتلعب دوراً حاسماً في الدفاع عن الجسم ضد مختلف أنواع العدوى، إلا أنها تتسبب مع مرور الزمن في تدمير البنى التي تتكون منها الأنسجة، فيما يُعرف "بالإجهاد التأكسدي". توظف كل خلية من خلايا جسدنا مجموعة من آليات الإصلاح المتوفرة لديها، للحد من الضرر الذي تُلحقه العوامل المذكورة بحمضنا النووي، إلا أن جميع هذه الآليات غير كافية في الحقيقة. لذا، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو ما إذا كان علينا مساندة خلايانا في سعيها لحماية حمض الدنا، عبر التدخل من الخارج.
في هذا السياق، يأتي دور مضادات الأكسدة التي كان الكيميائي الأميركي دينهام هارمان من أوائل الذين افترضوا إمكانية استخدامها في محاربة الشيخوخة منتصف القرن الفائت، وذلك نظراً لقدرتها على تحييد الجذور الحرة. إن الأبحاث المتعلقة بظاهرة الشيخوخة تجري في عالمٍ يضج بالصحافة الصفراء، والباحثين المثيرين للجدل، ممن هم على استعدادٍ للمتاجرة بالوهم. هكذا تسربت هذه الفرضية إلى جميع مناحي الحياة في العقود الأخيرة، من الغذاء إلى مستحضرات التجميل، وانتشرت في الأسواق منتجاتٌ لا حصر لها يتم الترويج لها باعتبارها مقاومة للشيخوخة، لاحتوائها على خواص مضادة للأكسدة. إن شيطنة الجذور الحرة، وتمجيد مضادات الأكسدة، يخفيان وراءهما تجاهلاً كلياً لما أصبح جلياً بالنسبة للعلماء منذ عدة سنوات، وهو أنه لا توجد صلة مباشرة بين الإجهاد التأكسدي وتسريع عملية التقدم في السن. ليس هذا فحسب، بل وأظهرت بعض الدراسات أن الإجهاد التأكسدي قد يكون له دور إيجابي في إبطاء عملية الشيخوخة في بعض الكائنات. يضاف إلى ذلك أنه لا توجد دراسة واحدة إلى اليوم تثبت الزعم القائل بأن استهلاك مضادات الأكسدة يمكنه الإسهام في إطالة العمر.
كيفما كان الأمر، فإن الإصلاح الدؤوب للأعطال التي تلحق بالآلات البيولوجية التي تكوّن خلايا أجسادنا يبدو عملاً مضنياً للغاية، وخارج نطاق قدرتنا. ولربما كان من الأجدى لنا التركيز على استبدال الآلات البيولوجية المتضررة عوضاً عن إصلاحها. في عالم الحيوان، هناك عدد من الحيوانات القادرة بالفعل على إعادة تخليق قطع كاملة من أجسادها في حال فقدانها، كالهيدرا، والسحلية، والسمندل، وبعض القواقع والأسماك. وتشترك جميع هذه الحيوانات في خاصية مهمة هي امتلاكها لكمية جيدة من الخلايا الجذعية الجاهزة في أية لحظة لإعادة بناء العضو المفقود، بعكس بقية الحيوانات التي تفقد معظم خلاياها الجذعية بنهاية المرحلة الجنينية، باستثناء خلايا الدم، والخلايا الجلدية. مع ذلك، فإن التطورات المتلاحقة في مجال الطب التجديدي تدعو إلى التفاؤل فيما يخص إعادة بناء الأعضاء المعطوبة، باستخدام خلايا جذعية معينة قادرة على النمو والتطور إلى أي نوعٍ من الأنسجة.
على أية حال، وأياً كان مقدار التقدم الذي سنحققه فيما يتعلق بإطالة أمد حياة الإنسان، فإنه لا ينبغي لنا تجاهل ما قد ينجم عن ذلك. وإذا ما ألقينا نظرةً استشرافية على المستقبل، فإنَّ العقود القادمة ستشهد طفرة كبيرة في طول عمر الإنسان، حيث سيكون بإمكان غالبية البشر التمتع بحياة مديدة تبلغ المائة عام، إلا أن الأمر لا يخلو من مخاطر. فقد تطور التنظيم الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيش البشر في كنفه اليوم بشكل تدريجي بطيءٍ عبر عدة قرون، وأي تغييرات كبيرة من شأنها أن تقلبه رأساً على عقب، وفي زمنٍ قصير نسبياً.
الكتاب: علم الخلود، من الإكسيرات إلى التيلوميرات.
المؤلف: أليخاندرو نافارّو يانييث.
الناشر: ألموثارا، إسبانيا، باللغة الإسبانية، 2018.
عدد الصفحات: 208.
