مكة.. سيرة مدينة غامضة

cover3d1__w337.jpg

ماريا كيتشا

فيكتوريا زاريتوفيسكايا*

لا يختلف اثنان على تحديد الدراسات الشرقية التي تُنشر في الدول الأوروبية، ومنها روسيا، وتقسيمها إلى تيارين واسعين: الأول علمي جاد، يمكن وضعه في خانة الأساسيات؛ حيث لا يستقيم بدونه هذا الفرع من العلم الذي يشتغل فيه علماءٌ بارزون يعملون في الأكاديميات والمعاهد، مما يعني وجود لغة علمية في البحوث والدراسات التي يؤلفونها، مقترنة بنقد وتحليل عميقين. في هذا السياق، وبما يخص الجزء المتعلق بمنتوج الدراسات الشرقية الصادرة باللغة الروسية نستشهد بأعمال من قبيل: تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام وأوائل العصور الوسطى للعرب بقلم المستعرب السوفيتي الشهير إسحق فلتنشسكي، أو كتاب تاريخ الخلافة الذي وضعه المستشرق أوليغ بولشاكوف، ومن ضمن الأعمال الرصينة التي صدرت مؤخرا: كتاب "سلطنة عمان.. أساطير وحقائق تاريخية" لإيغور سينتشينكو.

وقد جرت العادة أن يتسابق المختصون والدارسون لعلم الاستشراق، في المقام الأول، على اقتناء مثل هذه الكتب. وهناك القسم الثاني للدراست المهتمة بالشرق، يتناول المشتغلون فيها موضوعات علمية أو تاريخية، لكنهم يعرضونها بأسلوب شعبي مبسط، وتلاقي مثل هذه المنشورات التي تخرج عن النمط الصارم للدراسات الاستشراقية، رواجا واسعا لدى القرّاء غير المختصين، الباحثين عن المعلومة وما يتمخض عنها من كشف للحياة الشرقية، والتعريف بها بصورة مباشرة ممتعة، ولكن دون الوقوع في مطب الإثارة المجانية والتسلية السطحية.

صدر الكتاب الذي بين أيدينا عن دار "إكسيمو" أكبر دار نشر روسية؛ وذلك ضمن سلسلة حملت اسم "بومبيرا" تُعنى بالإصدارات الشعبية للمواضيع التاريخية بشتى أشكالها. وقد أبدت هذه الدار مؤخرا عناية بالأدب العربي، وبه تكون المؤسسة الروسية التجارية الوحيدة التي تدير الدفة من جديد ناحية الأدب العربي، ترجمةً وإصدارا، بعد أن تعطل دورانها ثلاثين عاما، أي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، فكان آخر إصداراتها ترجمة رواية "سيدات القمر" للكاتبة العمانية جوخة الحارثي. 

مؤلفة كتاب "مكة... سيرة مدينة غامضة" ماريا كيتشا رحّالة روسية ومؤلفة في الحقل الاستشراقي تتمتع بمعرفة عميقة وسعة اطلاع في مجالها؛ مما حدا بدار "إكسيمو" لوضع خطة معها في نشر مؤلفات عن كبريات المدن الشرقية. تعملُ كيتشا بأسلوب مستحدث يتصف بالمرونة، والبحث عن أجوبة لما يعتمل في الساحة الراهنة من خلال النبش في تاريخ المدن والشعوب، ففي كتابها عن مكة انطلقت من فكرة ظريفة تحدثت من خلالها عن قلب العالم العربي، ومركز التاريخ الإسلامي، والوضع السياسي الحديث في شبه الجزيرة من منظور تاريخ المدينة وساكنتها ككل.

ويحتوي الكتاب على الكثير من التفاصيل اليومية البديعة ترتبط بحياة المكيين، وروتينهم اليومي، والهويات التي تشكل نسيجهم الاجتماعي، والأنشطة التي يزاولونها، وهامش تساليهم، ومطبخهم، ومعمارهم، ومصادر دخلهم، وحروبهم السياسة، ومراحل البناء والتوسع في مدينتهم، ومشكلة تزويدها بالمياه، وعلاقة سكانها بعضهم ببعض وبالبيئة المحيطة بهم. تفاصيل كثيرة لا تتاح حتى للحجاج الذين قصدوا مكة. فالكتاب يأخذنا في رحلة عبر القرون دون أن نخرج من الديار المقدسة: مُناوشات القبائل البدوية، وتناوب الحُكّام، وعهد الخلافة العربية، وسلطنة المماليك، وفترة النفوذ العثماني وأخيراً محاولات التغريب.

لقد حاول العديد من الرحّالة مشاركة القارئ انطباعاتهم وإغراقه في أجواء الشرق، ولكن لم يُقيّض للكثيرين منهم إشباع أوصافهم بالمعاني التي تأسر مشاعر القارئ وتضيء ذهنه في ذات الوقت. في كتاب "مكة... سيرة مدينة غامضة" نلاحظ التوازن الدقيق بين الامتلاء الفكري والثراء العاطفي. يرفع الكتاب حجبَ السرية التي تغلف المدينة الغامضة للقارئ الروسي، ويقدم له معلومات تثري أفكاره وتثير شعوره بالمشاركة في الأحداث الواردة. كما أفادت المؤلفة من أسلوبها الحكائي حيث تروي فصول كتابها مثلما يسرد الروائي قصته الخيالية التي يرصد لها أبطالا وينسج حبكة تشدُّ القارئ إلى إسارها وتثير عواطفه الخفية؛ ناهيك عن لغة الكاتبة التي تميزت بالفصاحة والبلاغة الأدبية. لهذا ظهرت عنواين الفصول وكأننا حيال رواية شرقية تاريخية غنية بالألوان: وادي البكاء، مدينة الله والرسول، الطريق إلى الجنة، قسوة الصالحين، المرآة الإلهية، الليل والنهار، قرن الشيطان، ألف جملٍ ميّتٍ، أوروبيون بالعباءات العربية، دم وخرسانة، مدينة فاضلة وبديعة.

تُعلِّق المؤلفة على سيرة المدينة باعتبارها محورا لتاريخ شخصيات بارزة عاشت فيها أو تركت أثرا في تاريخها، بدءا بنبي الإسلام الذي خصصت له الكاتبة جزءا من الكتاب غير يسير؛ وهناك شخصية ابن عربي الذي وصل مكة عام 1202 كحاج ومكث فيها. وتثبت المؤلفة أن اختيار قطبُ الصوفية مكةَ كدارٍ لإقامته الطويلة لم يأت مصادفة، فمن وحي هذه المدينة جاءه الإلهام لتأليف كتابه المحوري الكبير "فتوحات مكية". ويتضمن الكتاب شخصية القائد الفرنسي، وأحد المشاركين في الحروب الصليبية، رينو دي شاتيلون، واصفا إياه وصفا دقيقا، ومعرجا على حملته عام 1181 التي استولى من خلالها على مدينة إيلات الساحلية في خليج العقبة، وخروجه بخطة لغزو مكة والمدينة، وما تلى ذلك من أحداث أفضت إلى وقوع هذا القائد في قبضة صلاح الدين الذي لم يشفع كرمه المعروف لشاتيلون فبتر رأسه بيده.

وتشمل قائمة الشخصيات رهطا من الأوروبيين الذين كانوا من بين أول من زار مكة، من بينهم الرائد والرحالة الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما (المتوفى سنة 1517) الذي تظاهر بالإسلام من أجل اختراق مكة. وهناك أيضا من كانوا يحلمون بالشرق واعتنقوا الإسلام مخلصين وبلغوا حلمهم بزيارة المدينة المقدسة كالسويسري يوهان لودفيغ بورغارد (1784-1817) الذي تسمى فيما بعد بإبراهيم بن عبد الله.

وتطرقت الباحثة الروسية أيضا إلى أحداث استثنائية واجهتها مكة كالسنوات التي توقفت قوافل الحجاج عن الوصول إليها لأسباب متعددة، وسنوات تمرد المكيّين، وحالات إعادة البناء التي خضعت لها المدينة.

ثمَّة قيمة إضافية انفرد بها هذا الكتاب وهي احتواؤه مادة تترجم إلى اللغة الروسية للمرة الأولى بما فيها ملاحظات المسافرين والعلماء والفلاسفة، الشرقيين والغربين على حد سواء، عن مدينة مكة ومكانتها الإسلامية، لذلك ينتفي الوصف بأحادية النظر والتحيز الذي يهدد أحيانا هذا النوع من الدراسات ويضعف موضوعيته العلمية.

وغالبا ما ينحو الدارسون الروس للأدبيات الشرقية إلى الركون إلى الجانب التاريخي لموضوعهم ومحضه جل اهتمامهم، فيما يختصرون الجانب المرتبط بالوضع الراهن حتى وإن كان جديرا بالدراسة والتدقيق، يحدوهم إلى ذلك توسيع دائرة القرّاء الذين عادة ما يلجون عالم الشرق من أجل التعرف بقديمه خاصة. ولم يختلف كتاب كيتشا عن هذا المنحى إذ خصصت جزءا يسيرا من دراستها (45 صفحة) للتاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية ابتداءًا من عام 1932 حين تغير اسم نجد والحجاز إلى الاسم الحالي للبلد. وفي هذا السياق ركزت المؤلفة على مسائل محدودة وجدتها هامة لموضوعها الأساسي ومنها قضية فقدان المدن الشرقية طابعها التاريخي. تقول في هذا السياق: "لقد تغيرت مدينة الله بين عشية وضحاها (...) ظهرت في مكة ناطحات سحاب زجاجية وتقاطعات للنقل العام. هدمت المباني القديمة (...) وتم رفع جميع القيود المفروضة على التخطيط العمراني (...) قطعت الأشجار ولم يقترح مصممو المناظر الطبيعية حلولا بديلة (...) وحده الجمال الأبدي للحرم ظلّ يُذكّر بالمدينة المقدسة" (ص:310).

وفي هذا السياق أيضا، تناولت المؤلفة أنشطة مركز أبحاث الحج التابع لجامعة الملك عبدالعزيز بالتفصيل، حيث انتقد نشطاؤه، بعد أن صوروا ووثقوا مدينة مكة بأكملها تقريبًا، انتقدوا المخطط العام لإعادة بناء المدينة، مثبتين أن تنفيذه سيقضي على تفرد المكان.

ولأجل اجتذاب القراء الروس حاولت المؤلفة المقاربة بين السعودية وروسيا. فلأسباب جغرافية وتاريخية، لم تكن هناك اتصالات بين روسيا والرياض لفترة طويلة أو أنها ظلت محدودة، مع ذلك فقد نسجت الباحثة الكثير من الحقائق التاريخية التي تقاطعت فيها مصائر البلدين. نجد مثلا أن حرب القرم التي دارت بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية بين أعوام 1853-1856 أضعفت بشكل كبير السيطرة العثمانية على الأراضي السعودية. ومثلما هو معروف فقد ثارت مكة على الحكم العثماني عام 1854، فحثّ العلماءُ الناسَ على المقاومة، وراح السكانُ المحليون يعترضون العثمانيين، وأصبحت حركة الجنود العثمانيين في المدينة مقيدة وغير آمنة. عندئذٍ حاول الشريف عبد المطلب استعادة النظام دون جدوى، ثم عزم على اللجوء إلى إسطنبول ولكنه أدرك أن أحدا لن يساعده هنالك، فالناس في ذروة حرب القرم، ليقرر بعدها نشر جيشه في الشارع، والنتيجة أن العثمانيين اعتقدوا أن عبد المطلب يعدُ العدة لقتالهم، فقاموا بعزله، ولم يعيروا أعذاره التي ساقها لهم أذنا صاغية. وتكتب المؤلفة عن وجود بعض مواطني روسيا المسلمين في المدينة المقدسة فتقول: "قبل ثورة 1917 وضع التتار الأثرياء أياديهم على بعض الأراضي في مكة والمدينة جوار المسجد الحرام والمسجد النبوي وتم بناء الفنادق والمدارس على هذه الأراضي. تم تسجيل العقارات على أنها ممتلكات وقف غير قابلة للتصرف ومخصصة للأغراض الدينية. وأثناء توسعة المسجد الحرام تم هدم هذه الأبنية، وأُدرجت الأراضي ضمن مساحة المسجد. اليوم بقي للتتار موقع في المدينة المنورة يحمل اسمهم. إن عدد التتار في كلتا المدينتين المقدستين قليل ويعد بمئات الأشخاص، وقد فقدوا لغتهم الأم منذ فترة طويلة ولكنهم على اتصال دائم بأقاربهم من مواطني تترستان" (ص:231).

ويجدر الذكر بأن بضعة مئات من الشيشان والإنجوش وغيرهم من شعوب القوقاز الذين هاجروا إلى الشرق الأوسط خلال حرب القوقاز 1817-1864 ما زالوا يعيشون في المملكة العربية السعودية.

استثمرت المؤلفة كل سانحة لإظهار الروابط الميتافيزيقية بين روسيا والمملكة العربية السعودية، فتتخللت قصصها عن تاريخ مكة، روائع من الأدب الروسي التي تذكر فيها هذه المدينة. هناك على سبيل المثال قصيدة "الحاج" للشاعر والمستشرق الروسي نيكولاي جوميلوف (1886-1921)، زوج الشاعرة الروسية الشهيرة آنا أخماتوفا. ولعل صيت هذا الشاعر في العالم غير مدوٍّ كزوجته، ولكن موهبة الشعرية مشعة هي الأخرى. ومع أشطر قصيدته نختتم الحديث عن كتاب مهم للقارئ الروسي... كتابٌ عن مكة التي "غيّرت مظهرها جذريًا لكنها لم تتغير في جوهرها ذرة واحدة، وتظلُ هي نفسها اليوم: مهيبة ومرغوبة" (ص: 8).

أحمد أوغلو يحمل عصاه/ ويغادر المدينة المزدحمة/ ها هو يسير على الرمال الفضفاضة/ يمشي الهوينى ويرفع قدميه بمشقة/ أحمد، يا أحمد! أنت أيها الرجل العجوز/ لا ينفعنك الخروج في رحلة مجهولة غريبة/ سيأخذ الأعداء زادك كله، وستخدعك زوجتك الحمقاء/ - لقد دعاني الله هذه الليلة/ هُتافٌ قال لي: - قم يا أحمد أوغلو، انس كل شيء، وانطلق دون خوف، وسبح باسمي/ اذهب إلى حيث الزوبعة الحمراء تتطاير جبالا من غبار/ حيث تطير النسور المتوجة/ وحيث يضحك حصانٌ على جثة بدوي/ إلى هناك يا أحمد: إلى مكة والمدينة المنورة ".

------------------------

- الكتاب: "مكة.. سيرة مدينة غامضة".

- المؤلف: ماريا كيتشا.

- الناشر: إكسيمو – بومبيرا/ موسكو/ 2020.

- عدد الصفحات: 368 صفحة.

  *أكاديمية ومستعربة روسية

أخبار ذات صلة