أمراض السعادة

Picture1.png

هوغ لاغرانج

سعيد بوكرامي

من بين الطرق العديدة التي تجعل البشر عُرضة للأمراض المزمنة والدائمة، والتي أصبحت، للأسف، لا تعد ولا تحصى، هناك الأوبئة العديدة التي ظهرت مع تاريخ البشرية، ومعلوم أن لكل عصر حصته من الأمراض، كذلك عصرنا اجتمعت فيه الأوبئة بالأمراض، فإذا كانت الأولى تظهر وتختفي، فإن بعض الأمراض صارت مستدامة وهي بلا شك وليدة ظروف العيش والتغيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية. من بين هذه الأمراض المنتشرة في عصرنا، نجد "أمراض السعادة" وقد يبدو التوصيف غريبا لكن عالم الاجتماع والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي هوغ لاغرانج يؤكد أن اللحظة الحالية مثالية لتحليل هذه الأمراض والتحذير منها باعتبارها أحد أكثر التحولات الحاسمة والخطيرة للحالة الإنسانية في التاريخ الحديث.

وبهذا الصدد، يقول لاغرانج: "من الآن فصاعدًا أصبح المصير المشترك مصنوعا من أمراض فردية - كالسرطانات، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري، والأمراض العقلية والسلوكية بشكل كبير وقد أفسحت المجال لحتمية جماعية لا مناص منها وهي أن هذه الأمراض بأنواعها ومخاطرها لابد وأن تخضع للملاحظة والتحليل الإنثربولوجي، من أجل تسليط الضوء على الاضطرابات العقلية والسلوكية. ولتحقيق ذلك نحتاج إلى حشد مقاربات علمية تتعلق بالتاريخ الطبي والاجتماعي، وعلم الأحياء، وعلم الوراثة، وعلم الأعصاب، والطب النفسي، وعلم الاجتماع...).

انشغلت البشرية منذ عصور بالسعي الحثيث وراء السعادة تحت راية الحرية والازدهار والعدالة، وكان الغربيون يعتزمون العيش بشكل مستقل في ظل قانون عام، وكانت الحداثة تقدم نفسها على أنها أفق يمكن للأفراد أن يكونوا فيه أحرارًا ومتساوين في الحقوق. وكل يكافأ حسب كفاءته. على الرغم من الزيادة الهائلة في متوسط ​​العمر المتوقع والانخفاض الحاد في العنف والفقر، ما زال يتعين على المجتمع الحديث تحقيق الرفاهية المستدامة. يشهد على ذلك تطور المعاناة النفسية والاضطرابات السلوكية خلال نصف القرن الماضي. انفجار الإدمان، والقلق والاكتئاب، والاستهلاك الهائل للعقاقير المؤثرة على الأعصاب: يحلل هوغ لاغرانج أمراض الحداثة، التي هي ثمار التوترات الملحة للفرد في مجتمع حيث الاستقلال الذاتي مصحوب بالوحدة والمعاناة، والجدارة تتحطم بعدم المساواة في المهارات المعرفية. يضع الكاتب العلاقة بين الإنسان والأنواع الأخرى والبيئة في صلب تفكيره، مصرا على ضرورة مواجهة الأنثروبولوجيا بالبيولوجيا وعلم الوراثة، من أجل محاربة هذه العلل وإعادة التفكير في الحداثة وفق منظور يحتمل تحقيق مجتمع لائق.

وفي هذا الكتاب -المؤلف من 480 صفحة، والمثير للإعجاب بوفرة وتنوع المراجع التي اعتمدت في الدراسة- يقوم عالم الاجتماع هوغ لاغرانج بتأمل شامل، فلسفيًا واجتماعيًا، حول ما يسميه بأمراض السعادة. الموضوع ليس جديدًا تمامًا: نذكر بشكل خاص كتاب (سلطة السعادة) لإدغار كاباناس وإيفا إلوز، والذي ركزا فيه على "تجار السعادة" الذين يسعون لإقناعنا بأن سعادتنا تعتمد علينا. لكن نهج لاغرانج هو عكس ذلك تقريبًا، حيث يؤكد هنا على أن هناك ما هو خارج عن إرادتنا، ويتمثل في إرثنا الجيني.

إذن ما هي أمراض السعادة؟ تظهر في محاولة زيادة متوسط ​​العمر المتوقع وبشتى الوسائل -الذي تضاعف تقريبًا بين عامي 1850 و1970- وكذلك في التغيرات العميقة التي حدثت في أسباب الوفيات. لقد أفسحت الأمراض المعدية أو الوبائية التي تؤثر على المجتمع بأسره المجال لمزيد من الأمراض الفردية التي تعتمد على الاضطرابات العالمية مثل الحروب والكوارث الطبيعية، أو على الأمراض العقلية التي توصف بأنها اضطرابات القلق والاكتئاب، أو على أنماط حياتنا مثل إدمان الكحول والإفراط في السمنة. ولقد تزامن انفجار أمراض السعادة في الدول الغربية مع مرحلة النمو الكبير والتحرر القوي.

لتفسير هذا الانفجار، يستحضر المؤلف ما يسميه بـ"دوار الحرية" على غرار ما فعله آلان إيرينبرغ في كتابه "التعب من الذات". إن فقدان تأثير الطهرية، خاصة في الولايات المتحدة، والوزن المتزايد لمعايير الإنجاز والمسؤولية الشخصية، المصحوب بتراجع المؤسسات التي تؤطر الأخلاق، كان من شأنه أن يفتح أفقًا من الاحتمالات المقلقة. يشير المؤلف إلى أنه في غرب وشمال أوروبا، حيث تكون الحرية الأخلاقية والاستقلالية الفردية أكثر وضوحًا، فإن متلازمة القلق والاكتئاب قد تطورت أكثر من غيرها. على العكس ومن ذلك، يوجد احتواء لهذا التطور بشكل أكبر في بلدان جنوب أوروبا، على سبيل المثال، حيث لا تزال الروابط الأسرية تقاوم التفكك. كما لعب التناقض المتزايد بين هذا التطور للحرية الشخصية وتطور العمل دورًا أيضًا، حيث تلاشت الثقافة المهنية في العديد من المهن وتم القضاء على تعبئة الاستقلالية أو الإبداعية التي تلاشت بين حشود الآخرين في بيئة العمل؛ حيث تشتد المنافسة بين الأشخاص المؤهلين بشكل متزايد، وتنتشر البطالة مع حصتها من العار والشعور بالذنب الشخصي، وكأن الجميع يستحقون مصيرهم. وهكذا يصر لاغرانج على تفسير هذه المعاناة التي تُسْتَقطر بواسطة أيديولوجية الجدارة، لأنه إذا كانت الجدارة وحدها تحكم النجاح الأكاديمي والمهني، فإننا جميعًا نستحق مصيرنا. ولكن على الرغم من تأكيد المؤلف على الطابع الضار لمسألة الجدارة، والتي تقودنا إلى الشعور المتواصل بالمسؤولية عما يحدث لنا في كل مكان، فلا شيء يقال عن الحقيقة التي يؤكدها علماء النفس وهي إن عدم الاعتقاد على الإطلاق بأن جهودك ستكافأ هو أمر محبط يفضي إلى أزمات نفسية ومشاكل مهنية.

بعد ذلك ينطلق لاغرانج في اتجاه يتجنبه الباحثون في العلوم الإنسانية، إذ ينتقل إلى أبحاث علماء الوراثة وتحليلاتهم عن توريث الذكاء، وعلى ضوئها يتساءل المؤلف صراحةً عن دور الذكاء الموروث بيولوجيًا، والذي لا يتحمل الناس مسؤوليته، وبذلك ينحرف منطق الجدارة. يركز هؤلاء الباحثون وهم بشكل ساحق من الأنغلوساكسونيين على هذا المقياس العملي جدا ألا وهو معدل الذكاء، وهو اختبار طُوّر للتنبؤ إحصائيًا بالنجاح الأكاديمي، واعتبر الوسيلة الرئيسية بالنسبة لعلماء الأحياء لتقييم ما ينتقل بيولوجيًا، فهذه ليست مشكلة بالنسبة لهم. كما أن استنتاجاتهم، على مدى خمسين عامًا، هي أن المهارات التي تتجلى على هذا النحو هي نتيجة لا تنفصل عن البيولوجيا والبيئة. ومع ذلك، فإن منظورهم التخصصي يدفعهم - على عكس علماء الاجتماع - إلى التفكير مسبقًا في أن البيئة ليست مهمة جدًا. وبالتالي، فإن هذه اللامبالاة النسبية بالبيئة تعني أنهم غالبًا ما يتجاهلون تحديد الفئة المدروسة، في حين أن الوراثة تختلف وفقًا لمستوى عدم المساواة في ظروف المعيشة داخل المجتمع: كلما زادت الظروف المعيشية تشابها، زاد عبؤها الفطري.

وعلى الرغم من تراكم المراجع العلمية، فإنه يمكن للمرء أن يشك، كما هي الحال مع العلوم جميعها، ما دامت المناقشات مفتوحة ومبنية على خلافات كبيرة. لذلك يُخشى أن تكون الرسالة المشفرة والمذهلة التي سيحتفظ بها القراء، من الكتاب مفادها أن وراثة الذكاء تصل إلى 50٪ في الطفولة و70٪ في مرحلة المراهقة. بدون أننا نعرف أي فئة سكانية مقصودة، وعلى أساس أي اختبار، وأي نوع من البيئة. خصوصا وأن المؤلف، يصر على الأرقام بدلاً من حدودها، فمن المحتمل جدًا أن ننسى أنه إذا كان من الممكن تقييم وراثة الذكاء دون تحيز كبير على مستوى السكان، فإن هذا المعدل لن تكون له أية قيمة على مستوى الأفراد المعزولين. لهذا لا يمكن تعميم هذه النسب على باقي سكان العالم.

يعترف الكتاب بالصعوبة الكامنة في المناهج متعددة التخصصات: أمام علوم آسرة بداهة ولكنها معقدة، مثل علم الوراثة أو علم الأعصاب؛ إذ يصعب على غير المتخصصين تقييم المناقشات الجارية التي تدور حولهما. إذا اختار لاغرانج الاعتماد قبل كل شيء على منجزات عالم الوراثة "روبير بلومان، فإنه يهمل منجزات مذهلة لكل أولئك الذين يعتقدون أن هذا الهوس بتقسيم الذكاء - الفطري مقابل المكتسب - لم يعد موجودًا، ولا معنى له ويرجع هذا أساسًا إلى سببين: أولاً، لأن الدماغ نفسه يتميز منذ البداية ببيئته الخاصة؛ ثانيًا، لأن علم التغيرات الجينية يؤكد أن البيئة يمكن أن تحدث تغييرات في التعبير الجيني دون طفرات الحمض النووي. لذلك، تؤثر البيئة على العوامل البيولوجية التي تبدو فطرية. ومع ذلك، فإن ما يشكل جزءًا مهمًا من أطروحة لاغرانج يظل غامضًا نسبيًا، لأن المؤلف يدرك في النهاية أن الفطري والمكتسب غير قابلين للفصل.

وفي نهاية المطاف، فإن أطروحاته الاجتماعية أو الاجتماعية السياسية هي التي أثبتت أنها أكثر الأطروحات طموحا لمعالجة أمراض السعادة. في الجزء الأخير من العمل، يذكرنا لاغرانج بتجليات هاتين الأطروحتين وهي: إعطاء وزن أقل للأداء الفكري، وهيمنة المدرسة، والتنديد بالاختبارات الجائرة التي هي أساس المنافسة الاجتماعية على المكانة، وبالتالي الدعوة إلى ترسيم حدود مجالات العدالة وتكافؤ الفرص. كما يشدد على ضرورة الحد من التنافس على المظهر، الذي يقوض طموح الناس، وخاصة الشباب. يطالب الكاتب بتعزيز بعض التصرفات أو الصفات مثل الاهتمام والاحترام والمودة -حتى لو سعى المؤلف مرة أخرى إلى ذكر المحددات الوراثية دون إدراك واضح منه لما سيجلبه هذا من مميزات للعيش والهناء. وهنا يعطي المؤلف اهتماما بالغا لهذه المحددات الوراثية بحيث يذكرنا( أن جميع سلوكياتنا تتضمن جزءًا - يصعب تقييمه إن لم يكن مستحيلًا – يعود إلى التصميم الوراثي، يحتاج الإنسان إلى شيء واحد هو الإصرار للوصول إلى غاياته ومهما اختلفت قدراته العقلية، وقد ثبتت كما يقول لاغرانج حقيقة أن الأفراد غير متساوين وأن إخبارهم بأنهم متساوون لا يمكن إلا أن يدفع إلى تحطيم الأقل مهارة وأداء، وإقصائهم من مضمار المنافسة. الحقيقة الجلية أن البشر غير متساوين فيزيولوجيا، لكن المعضلة الأخرى أن المجتمع مضطر لإعلان مبدأ المساواة لتأسيس مجتمع ديمقراطي على الرغم من أن الجميع يعلم أنهم غير متساوين. بالطبع يجب الإشارة إلى ما يسمونه بالتمييز الإيجابي الموجه إلى الفئات الأكثر حرمانًا! لكن كيف سنحدد هذه الفئة إذا ظللنا مركزين على عدم المساواة في الذكاء فقط؟ وهل سيشعرون بتحسن إذا أوضحنا لهم أن إعاقتهم النسبية متجذرة في جيناتهم؟ مع العلم أن نماذج كثيرة من العظماء والعباقرة كانوا يعانون من اختلالات وإعاقات ورغم ذلك أبانوا عن إدراك وتنافسية وعطاء يدويّ وصناعي وفكري وعلمي وأدبي يضرب عرض الحائط نظريات الذكاء البشري.

يبدو طموح الكاتب كبيرا، ولا يسع المرء إلا أن يعجب بهذا الزخم المعرفي المتجدد، حتى وإن لم يقتنع بكل نتائجه. ومن الواضح جدا أن لاغرانج يقدم عملاً يستحوذ على انتباه القارئ، عمل آسر ومشحون وموثق توثيقا جيدا، ولعل أشد ما يثير الإعجاب في الكتاب موسوعيته، ولكنها تثير تساؤلات كثيرة للسبب نفسه بلا شك. ومع ذلك، فإن ملاحظاته الختامية حول الحاجة الملحة للتفكير فيما يجب أن يضمن للبشر وبمختلف أنواعهم وأعراقهم ومعتقداتهم وبيئتهم حياة كريمة خالية من التمييز الفيزيولوجي والإيديلوجي الذي أبان عن فشله منذ الحضارات التي سعت إلى ضمان تفوق العرق الخالص والتفوق الجسدي والعقلي، ولكنها انهارت في النهاية إلى الاضمحلال والفناء. بيد أن الحقيقة التي لا جدال حولها أن الإنسان مسافر على هذا الكوكب من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة ومن سياقات إنثروبولوجية إلى أخرى حاملا معه إرثه الجيني، الذي لا يميزه عن غيره إلا بقدر عمله ومجهوده وانخراطه في الانجاز والعطاء الايجابيين لصالحه كفرد ولفائدة المجتمعات الإنسانية برمتها.

-------------------------

- الكتاب: "أمراض السعادة".

- المؤلف: هوغ لاغرانج.

- الناشر: بيف، فرنسا، 2020.

- عدد الصفحات: 480 صفحات.

أخبار ذات صلة