الكنيسة الغربية والمسألة الأخلاقية

Picture1.png

جان فرانكو سفيدركوتسكي

عزالدين عناية*

بهذه العبارات يستهلّ الكاتب جان فرانكو سفيدركوتسكي كتابه الجديد "الكنيسة الغربية والمسألة الأخلاقية"، الذي يأتي بمثابة مانيفستو احتجاج على أوضاع تعيشها الكنيسة الكاثوليكية منذ سنوات: "ثمّة ورمٌ خبيث يعشّش منذ قرون في جسد الكنيسة. وهو عادة متجاهَل، أو غير متابَع، وكيفما كان الأمر فهو لم يُعالَج عبْر التاريخ بشكلٍ جادّ، ولم يُهاجَم من قِبل رجالات الكنيسة، ألا وهو مرض الانتهاكات الجنسية. وهكذا انتهى إلى خلْقِ حالةٍ كارثيةٍ في الأوساط الكاثوليكية. ملحِقًا ضررًا فادحًا بمصداقية الرسالة الدينية وبمؤسّسة الكنيسة، إلى حدّ تهديده إيمان المؤمنين".

فخلال العقدين الأخيرين علَتْ أصوات منادية بإصلاح الأوضاع الخُلقية داخل الكنيسة، وإعادة بناء الأوضاع الجنسية من حيث علاقة الراهب والراهبة بموضوع العزوبة. فأمام الضرر الذي مسَّ مصداقية الكنيسة، جرّاء الاعتداءات الجنسية الحاصلة في حقّ القاصرين، جرت معالجات متنوّعة للموضوع. نستعرض في هذا المقال كتابًا في الشأن لأحد الأصوات المهمّة داخل الكنيسة، وهو الكاتب والصحفي جان فرانكو سفيدركوتسكي، رئيس التحرير الأسبق لصحيفة "الملاحظ الروماني"، اللسان الناطق باسم حاضرة الفاتيكان. يُوزِّع المؤلّف كتابه على عشرة معنونات، يتطرّق فيها إلى أهمّ المراحل التي عاشتها الكنيسة مع قضايا التجاوزات الجنسية.

حيث يشير سفيدركوتسكي بصريح العبارة، في مستهلّ الكتاب، إلى رجال دين في الكنيسة خانوا قسم الوفاء، القسم الذي يُدلي به كلّ من يختار الانضمام طوعًا إلى سلك الرهبنة. فقد بلغت تداعيات الوضع الأخلاقي المتردّي داخل الكنيسة حدّ إعلان البابا المستقيل بندكتوس السادس عشر (راتسينغر) أنّ الاضطهاد الأكبر الحاصل في الكنيسة لم يأتِ من الأعداء في الخارج، بل من اقتراف الخطيئة داخل الكنيسة. وهي خطيئة يعتبرها جان فرانكو سفيدركوتسكي أكثر ضررًا، لأنّ عددًا من الأساقفة والكرادلة، سواء في الماضي أم في الحاضر، أخفوا تلك المساوئ المقترَفة في أوساط الرهبان. واكتفوا في ذلك بنقل المورَّطين من كاتدرائية إلى أخرى أو من خورنية إلى غيرها، بما سمح لهم، في غالب الأحيان، باقتراف انتهاكات إضافية، وإلحاق أضرار بضحايا جُدد وإثارة فضائح أخرى دون أن ينالوا العقاب الرادع. والواقع أنّ مسألة الاعتداء على الأطفال، منذ سنوات، تخبو وتطفو دون حلول جذرية، ودون أن تخوض فيها الكنيسة مراجَعة لاهوتية وتاريخية. فخلال السنة المُنقضية أثار تقرير "كبار المحقّقين" في بنسلفانيا جدلا واسعًا بما كشف عنه أنّ ثلاثمئة من الكهنة، وعلى مرّ سبعة عقود، قد اقترفوا ما يزيد عن ألف اعتداء كان ضحاياهم فيها من القاصرين. وهو ما دفع البابا فرنسيس ماريو برغوليو إلى دعوة رؤساء المؤتمرات الأسقفية في كافة أرجاء المعمورة، في أواخر فبراير 2019، إلى الحضور في روما لتداول المسألة بحزم، لكن الاجتماع لم يتمخّض عن قرارات فاعلة وإنّما عن مجرّد توصيات.

يعود بنا سفيدركوتسكي في كتابه إلى جذور المسألة الخُلقية. حيث يسجّل تاريخ الكنيسة سلسلة من الانتهاكات والاعتداءات الجنسية على الأطفال، كان مقترِفوها كوكبة من البابوات. فمنذ العام 366م، من البابا داماسوس الأول وإلى غاية العام 1550م مع البابا يوليوس الثالث، نَعُدّ سبع عشرة حالة اعتداء. وخلال العام 1051م ظهر كتابٌ لافت تناول الممارسات الجنسية غير المشروعة في أوساط رجال الدين بعنوان: "Liber Gomorrhianus" (كتاب عمّورة)، وعمّورة هي عنوان الفساد الخُلقي في المنظور التوراتي كما روى سِفر التكوين. المؤلف هو بيار دامياني، وهو رجل دين من أصوات الإصلاح الجريئة في الكنيسة الكاثوليكية، عالجَ الموضوع بوضوح وتجرّد. لكن مشكلةَ دعوة بيار دامياني الخُلقية أنّها اِصطدمت بوضعٍ سوسيولوجيٍّ أَلمّ بكنيسة القرون الوسطى، حيث فرَضَ الإقطاعُ تقليدًا، كان فيه رجال الدين يُعيَّنون من قِبل المتنفِّذين أو تتمّ تزكيتهم من قِبَلهم. ما جعل ولاءات الأساقفة مرهونة للسّاسة وأصحاب المال، قبل أن تكون للكنيسة، وهو ما زاد من تفاقم الأوضاع.

لكن الكنيسة، كما يوضّح جان فرانكو سفيدركوتسكي، ما كانت واضحة الخيارات منذ القديم مع المسألة الجنسية، وهو ما خلّف اضطرابًا وضبابية إلى اليوم. ففي الوقت الذي جرى فيه التحوّل من اللّاعزوبة إلى خيار العزوبة، بقيت منطقة رمادية داخل الأوساط الكَنَسيّة بشأن المسألة الجنسية. ويقصد سفيدركوتسكي بالمنطقة الرمادية انتشار ما كان يُعرَف بـ"المعاشَرة الكَنَسيّة"، حيث احتفظ العديد من رجال الدين بجواريهنّ وخليلاتهنّ اللواتي كنّ يَقُمن مقام الزوجات. لكنّ ما يثيره "كتاب عمّورة" آنف الذكر، وبشكلٍ عامٍّ، هو الاضطراب في العلاقات الجنسية، حيث دعا البابا ليون التاسع إلى التدخّل الفوريّ لعزل الأساقفة المنتهِكين للضوابط الدينية بخصوص المسألة الجنسية، التي لا تقف عند حدّ السعي لامتلاك شريكة حياة، بل تمتدّ إلى الاعتداء على القاصرين داخل المدارس والنوادي التابعة للكنيسة، ومظاهر الجنسية المثلية، التي باتت بمثابة الأمر الواقع المسكوت عنه.

ففي القرن السادس عشر، وتحديدًا خلال العام 1517م في عهد البابا ليون العاشر، كان فحوى بعض صكوك الغفران الرائجة يتضمّن الصفح عن الرهبان مما اقترفوه من خطايا، التي تشمل من ضمن ما تشمل اغتصاب النساء، والاعتداءت الجنسية على القاصرين. سجّل التاريخ قيمة تلك الصكوك التي تبلغ 131 ليبري و15 صولدي بالعملة السائدة في ذلك العهد.

ما من شكّ أنّ الأجواء الجنسية داخل الكنيسة، مثل عدم الالتزام بالعزوبة كخيار كهنوتي، والاحتفاظ بخليلة أو جارية بعيدًا عن الأعين، ومُمارسة اللواط، أو الاعتداء على القاصرين، هي مسائل تعود بالأساس وفي جانب كبير منها إلى تنكّرٍ ونفيٍ للعلاقة السوية والطبيعية للفرد مع الإشباع الجنسي، أكان امرأة أم رجلا. وصحيح تختلف مراتب هذه الانتهاكات في المنظور الكنسي، ولكن غالباً ما جرى التعميم بشأنها وعدم التعامل معها بواقعية لتخطّيها. كان الإصلاح البروتستانتي، في فترة لاحقة، أكثر جرأة وواقعية في مُعالجة المسألة من خلال إتاحة إمكانية الجمع بين خيار الرهبنة والمعاشرة الزوجية، واعتبار الحالتين لا تتناقضان. وقد مثّل المصلح مارتن لوثر عنوانًا لهذا الخيار الإصلاحي، حيث أنكرَ الطابع المتَّبع لخيار الرهبنة، وعلى مستوى عملي، عدَّ نموذج الحياة المسيحية متمثّلا في العائلة لا في التبتّل والإحجام عن الزواج. فهذه المفاهيم تتناسق مع تجربته الشخصية، حيث تزوّجَ الراهبة كاثرين دي بورا، وأنجب منها ستة أبناء.

في قسم مواز للقسم السابق يتناول سفيدركوتسكي الأوضاعَ الحديثةَ. وضمن هذا السياق، جرى التطرّق إلى مسألة الاعتداءات الجنسية على القاصرين في وثيقة صادرة عن المكتب البابوي (سانتوفيسيو) بعنوان "جريمة الاستدراج"، وذلك خلال العام 1922. لم تنل الوثيقة حظّا من الاهتمام، وتوارى أثرُها بتوالي السنين. وبعد أربعين سنة من صدور الوثيقة استعاد البابا يوحنا الثالث والعشرون فحوى تلك الوثيقة، لكن بدون أثر يذكر أيضًا. فقد كان العديد يمنّون أنفسهم بأن تعيدَ قرارات مجمع الفاتيكان الثاني رسمَ خريطة العلاقات الجنسية داخل الأوساط الكَنَسيّة؛ لكن قرارت المَجْمع جاءت تقليدية بشأن هذه المسألة، ولم تُحدِث أيّ تحوير كما كان مرجوّا. فالوضع الجنسي غير السويّ، كانت الكنيسة تحفل به، قبل المَجْمع وبعده، دون معالجة جريئة للمسألة. وفي ستينيات القرن الماضي إبّان انعقاد المجْمَع، كانت حالات الاعتداء على القاصرين تتراوحُ بين ثلاث وستّ حالات في المئة في أوساط رجال الدين، وتواصَلَ التغاضي عن المسألة وكأنّها غائبة تماما.

وفي ظرفنا الحالي تبدو آثار الأزمة الأخلاقية للكنيسة حاضرة بقوة في المجتمعات الغربية. ففي ألمانيا، على سبيل الذكر، فاقمت آثار أحداث التحرّش والاعتداء الجنسيّ على الأطفال إلى 40 في المئة عدد الذين هَجَروا الكنيسة الكاثوليكيّة، على ما يورد الكتاب. ما سبّب سحْبَ 180 ألف ألمانيّ عضويتهم من الكنيسة في العام الماضي، أي بزيادة 50 ألفا مقارنة بالعام 2018، وفق ما نشره الملحق الدينيّ ليومية "دي زايت" الألمانية. وفي الأبحاث التي أنجزها فريق من الباحثين تابع إلى مؤسسة "جون جاي ستادي" بنيويورك بتكليف من المؤتمر الأسقفي في الولايات المتحدة، خلص الباحثون إلى أنّ ما بين سنتيْ 1950 و 2002 بلغت نسبة الذين توجّهت إليهم تُهَم الاعتداء على الأطفال 4،3 في المئة من رجال الدين، يقيمون في الولايات المتحدة، بما يعني 4329 مقترفا لجرمٍ. وهي تجاوزات كلّفت الكنيسة أكثر من 2،6 مليار دولار جبرًا للأضرار في أعقاب الأحكام القضائية.

لكن ضراوة الانتقادات التي تعرّضت لها الكنيسة في الخارج خلال العقد الأخير، دفعت إلى مراجعات داخلية لم تستثنِ حتى كبار رجالات الكنيسة. فعلى سبيل المثال شغل الكردينال أنجيلو سودانو منصب سكرتير دولة الفاتيكان، خلال العام 2006، بما يضاهي منصب وزير الخارجية، وقد توجّهت له أصابع الاتهام بتغطيته طويلا على مارشال ماسيال، مؤسس تنظيم "ليجينواري دي كريستو" (فيالق المسيح)، الذي تبيّن لاحقا تورّطه الفاضح في مسائل أخلاقية. ولم يُنْتقد سودانو فحسب بسبب تعطيله سير الإجراءات القانونية المؤسّساتية أثناء التحقيق مع مارشال ماسيال، بل اُتُّهِم أيضا بتعطيل الإجراءات بشأن رئيس أساقفة فيينّا، الكردينال هانز هيرمان غروير، المتّهَم في قضايا جنسية ضد قاصرين لمّا كان مدير مدرسة تعليمية.

ولو جئنا إلى رصد الأوضاع في إيطاليا، يورد كتاب "الكنيسة الغربية والمسألة الأخلاقية": حين كانت مسألة الاعتداءات الجنسية مطروحة بقوة في الولايات المتحدة، خصوصا في أعقاب بثّ شريط وثائقي عرضته قناة "بي بي سي" عام 2006، وهو بعنوان "الجرائم الجنسية والفاتيكان"، خيّمَ صمتٌ في الأوساط الإعلامية في إيطاليا. ولم يتسنَّ التطرّق إلى المسألة سوى في أعقاب سنة من نشر الطبيبة النفسانية فانيا لوشيا غايتو شريطَ فيديو في مايو 2007، عرضت فيه وقائع جرائم جنسية على صلة بالاعتداء على القاصرين، أتبعته بكتاب نُشِر بعنوان "رحلة في الصمت" في الغرض نفسه. منذ ذلك الحين كُسِر الحصار الإعلامي وبدأت وسائل الإعلام الإيطالية تتطرّق إلى المسألة بإسهاب.

وكما يورد سفيدركوتسكي لا تنحصر الاعتداءات ضدّ القاصرين ببلد معيّن، بل تشمل بلدان عدّة، مثل إيرلاندا، والولايات المتّحدة، وأنجلترا، والنمسا، وسويسرا، وإيطاليا، والبرازيل وتتمدّد إلى إفريقيا. ففي كينيا 30 بالمئة من المورَّطين في الاعتداءات الجنسية على الأطفال هم من الإيطاليين، ونسبة هامة من بين هؤلاء هم من رجال الدين، بناء على ما أورده فيروتشو بينوتّي في كتاب "الهولوكوست الأبيض" المنشور في دار ريتزولي الإيطالية 2008. فمع تعدّد فضائح الاعتداءات الجنسية التي دشّنتها بداية الألفية الثالثة، ما عاد المتّهَم بإثارتها خصوم الكنيسة من ماسونيين وعلمانيين متشدّدين، على ما هو معتاد، بل باتت قضية رأي عام أمام ضراوة الاعتداءات وتمدّد الظاهرة. فبين العام 2009 والعام 2010 سجّلت عشرات الأبرشيات الكاثوليكية في العالم تورّطها في هذه الأحداث الخُلقية.

في القسم الأخير من الكتاب يستعيد جان فرانكو سفيدركوتسكي موقفَ اللاهوتي المنشقّ هانس كونغ، بشأن إصلاح الأوضاع الجنسية في الكنيسة. فقد لخّص كونغ أزمة الكنيسة البنيوية في الارتهان إلى بارَديغم القرون الوسطى في تعاملها مع مجتمعات حداثية ومعلمَنة. بما أفرز تناقضات تعدَّتْ حيز الكنيسة إلى مجال المجتمعات المسيحيّة، ناهيك عن تشظّي تلك التناقضات مع أديان وحضارات أخرى في ضروب شتى من التصادم. فقد جعلت الدغمائيةُ المستحكِمةُ باللاهوت المسيحيّ مطالبَ التجديد عصيّةً، ولعلّ أوكدها المسألة المتعلّقة بالأحوال الشخصية، سواء ما اتّصل منها برجل الدين والراهبة، أو ببِنية الأسرة الكاثوليكية عامّة. إذ لا تزال الكنيسة تصرّ على "قانون كَنَسيّ" (diritto canonico) عتيقٍ ينصّ على العزوبة القسرية في أوساط الإكليروس، وهو ما جرَّ إلى انحرافات خُلقية، أبرزها في الوقت الراهن أحداث الاعتداءات الجنسية على القاصرين في عدّة دول. ما أجبر كاتدرائيات أمريكية إلى إعلان إفلاسها، تفاديا للتتبّعات القضائية المنهِكة. وأمّا المسألة الأخرى التي ما انفكّت ترهق الأُسَر الكاثوليكية فهي رفْض الكنيسة، حدّ الراهن، السماح للمطلّقين بإعادة بناء حياتهم الزوجية العادية. وكلّما طُرحَت مسألة ضمّ هؤلاء إلى الكنيسة مجدَّدًا، إلّا ولاقت معارضة من شقّ لاهوتيّ متشدّد، لعلّ آخرها توقيع لفيف يزيد عن ستين شخصا من رجال دين ومقرَّبين من الدوائر الكَنَسيّة على عريضة، تتّهم البابا الحالي فرنسيس بالهرطقة، جراّء ما أورده في الإرشاد الرسولي "فرح الحب" (Amoris laetitia)، وذلك لتلميحه إلى إمكانية احتضان جحافل المطلَّقين في الكنيسة.
 

الكتاب: الكنيسة الغربية والمسألة الأخلاقية

تأليف: جان فرانكو سفيدركوتسكي.

الناشر: روبتينو (كاتنزارو-إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2019.

عدد الصفحات: 96 ص.

* أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا

أخبار ذات صلة