لماذا نعتقد

Picture1.png

أغوسطين فوينتس

محمد الشيخ

ما فتئ الاعتقاد ـ ومعه الإنسان المعتقد Homo Credens ـ يحظى باهتمام العديد من علماء النفس والإنسان، ومن الفلاسفة والمفكرين الدينيين. وقد صدر عام 2019 كتابان في هذا الموضوع هامان لعالمين من كبار علماء الأنثربولوجيا في زمننا هذا: كتاب "لماذا نعتقد: التطور والسبيل البشري في الوجود" لأغوسطين فورينتس، وكتاب "المعتقدون: الإيمان في الطبيعة البشرية" لملفين كونر. الأول كتاب "يذهب واسعا"، والثاني كتاب "يذهب عميقًا". ينظر الأول في الشروط التطورية والدينامية التي قادت الإنسان من "كائن بيولوجي" إلى "كائن ثقافي" (صاحب اعتقادات)، مُظهرا هذا الكائن الثقافي وهو يُبدي عن طبعه في "عش" مبني بالأساس على الاعتقادات في ميادين الاقتصاد والحب والدين. ويفكر الثاني في مختلف المُعالجات الإنتربولوجية والعصبية والفلسفية والنفسية لتنوع الخبرات والمعتقدات والممارسات التي تسمى "دينية" و"روحية" و"إيمانية".

يفتتح كتاب "لماذا نعتقد" بعبارة مُشْكَلَة تلخص الطابع الإشكالي للكتاب برمته: الاعتقاد هو أعظم وأوعد وأخطر قدرة طورتها البشرية. ذلك أن الاعتقاد ـ بمعنى المهارة على الالتزام شغفا بفكرة معينة ـ يشكل، من جهة أولى، أمرا جوهريا بالنسبة إلى الوجود البشري في هذا العالم، لكنه من جهة أخرى، قد يستحيل الاعتقاد ـ هذه النعمة العظيمة ـ إلى نقمة وإلى خطر محدق.

ينطلق المُؤلف مما يعتبره حقيقة مقررة أكدتها تطورات العلوم المعاصرة، أكانت علوماً تدرس الكائن البشري في حاضره ـ البيولوجيا، علم الجينات، علم التطور ـ أم علوما تدرس الإنسان في ماضيه ـ الحفريات، الأركيولوجيا، الإنتربولوجيا ـ حول كيف أمسينا ـ معشر الكائنات العارفة ـ بشرا. وقد أثبتت هذه المعارف أن البشر ما وجدوا لا من باب "الصدفة" ولا من باب "المعجزة"، وأن تفسير ما أمسوا عليه ولماذا أمسوا على ذلك إنما هو مروية معقدة بتعقيد مدهش ودينامية ومثيرة غير منتهية. وهي مروية يحتل فيها "الاعتقاد" منزلة القطب من الرحى، باعتباره ثمرة هذا التطور وعلته في الآن نفسه.

وبما أنَّ التعويل على تخصص واحد قد يعد بمثابة "سوء تغذية"، بالنسبة إلى الباحث المنفتح الأفق، فإنَّ عالِم الإنتربولوجيا الذي هو فوينتس يقر بأنه فضلاً عن ثلاثين سنة من البحث الميداني اهتم فيها بأجساد بني البشر في الماضي والحاضر، وبأفعالهم، وببيئاتهم، وذلك في صلة بالحيوانات الرئيسات، جائبا العالم عرضا وطولا، ومشاركا في النقاشات الدائرة حول البشر وتطورهم؛ فإنه لطالما انخرط في مُشاركات مثيرة ومنيرة وعجيبة مع طائفة من العلماء والفلاسفة وعلماء اللاهوت وغيرهم من الدارسين؛ وذلك في إطار منظور عابر للتخصصات تتخاصب فيه الأفكار وتتناتج فيه المناهج وتتلاقح فيه الأسس النظرية ... مؤلفاً بذلك بين كونه عالِمَ تطور وعالِمَ علوم اجتماعية، ساعياً إلى تطوير فهم أفضل لما يعنيه أن تكون "إنسانا" في الزمن الفائت والحالي والآتي.

والجديد الذي يعلن عنه المؤلف في هذا الكتاب، سعيه إلى أن يتقاسم مع القارئ "مروية" عن التطور تضرب بجذورها في مسلك علمي، في وقائع الأجساد والجينات والبيئيات والتواريخ والمسلكيات، وذلك من دون أن يسقط هو في نزعة اختبارية علموية ضيقة، وإنما ينفتح على ما يسميه "المرويات الفلسفية". وما يُميز بين مرويته هذه وباقي المرويات حول تطور الإنسان هو أنها تربط بين مسار البشرية ومقدرتنا المميزة على الاعتقاد. ذلك أن الاعتقاد، كما يقول المؤلف، مقدرة بشرية فريدة. والباحث يستقصي في هذا الكتب كيف انتهينا ـ معشر البشر ـ إلى الاعتقادات ـ خلال تاريخ يعود إلى مليوني سنة ـ إلى الأديان والفلسفات السياسية والتكنولوجيات المعقدة، وذلك عبر مسار ثلاثي الخطوات: في البدء كانت مقدرة الإنسان على التخيل التي قادته إلى ابتكار الأدوات البدائية، محوّلة تمثله إلى واقع، ومكسية تخيله حقيقة، وهي المقدرة التي أهلت الإنسان إلى إبداع مستقبلاته. ثم سرعان ما انتقل في لحظة ثانية إلى "صناعة المعنى"؛ إذ بعد الإنسان الصانع جاء دور الإنسان صانع المعنى جماعيا، وذلك بما غيّر من إدراكه وخبرته ـ الإنسان الفنان ـ بحيث بات يتشاطر المعاني، وبحيث بدأ يعزو المعاني إلى الأشياء التي يمكنه أن يستخدمها. وأخيرا، في لحظة ثالثة، بتنا أمام الإنسان المعتقد؛ أي ذاك الإنسان الذي شأنه أن يهتدي وأن يسترشد بما يسميه المؤلف "الأنساق الاعتقادية" ـ وهي جماع أفكار وخيالات الإنسان المعتقد.

ما معنى الاعتقاد؟

 في هذ الكتاب، يستخدم المؤلف لفظ "الاعتقاد" لكي يدل به على معنى أكثر من مجرد التصديق والثقة في شيء أو في شخص، ويجده مفهوما أثرى من مجرد حالة ذهن تقوم على التصديق والإيمان والتسليم. ذلك أن الاعتقاد إنما هو سبيل الإنسان إلى التخيل وإلى الصيرورة، بحيث لا يرتهن هو إلى الواقع اليومي ارتهاناً بقدر ما ينفتح على الأمل انفتاحا؛ أي على ما لا يمكن أن يُعايَن ولا أن يُدرَك ولا أن يُقاس. ومن ثم لا يتعلق الاعتقاد بالواقع تعلقا أعمى، وإنما يشي عن مقدرة الإنسان على التخيل والخلق والأمل والحلم وعلى نفح العالم بالمعنى.

وهنا يبدد المؤلف خطأ شائعاً: ما أن يسمع معظمنا كلمة "اعتقاد" حتى يتبادر إلى ذهنه ربطه بالدين. وما يراه المؤلف هو أنَّ المقدرة البشرية على الاعتقاد لا ترتهن بالدين وبالروحانية وبالشعائر دون سواها؛ فلا يتعلق الأمر بالإيمان بشيء أو بشخص. ولا ينكر المؤلف أن الإيمان الديني ـ أو بالأحرى الاعتقاد الديني ـ عنصر عظيم في المروية البشرية، وأنه متعلق تعلقا مباشرا بمقدرتنا على الاعتقاد. لكنه لا يرى أن من شأن العالِم أن يناقش أي الاعتقادات الدينية محق وأيها مبطل. ومن شأن التركيز على الدين أن يكون تضييقا لواسع. فما الدين إلا قدر ضئيل من إمبراطورية الاعتقادات، من مقدرة بشرية عميقة مكينة على الاعتقاد في الاقتصاد والحب والدين وغيرها من الميادين. ولذلك عادة ما يردد هو القول: "كلنا معتقدون، لكن ما كلنا بمتدينين"، و"لا وجود لغير المعتقدين". وحين يقول هو ذلك، فإنه يعني ما يعنيه. ذلك أنه عبر مليوني سنة من التاريخ التطوري، تطورت ملكة الاعتقاد بحيث باتت مكونا مركزيا، وأمست "حقيبة أدواتنا" نحن معشر البشر. وإنما يوجد الاعتقاد وفي قلب العش البشري، وهو الطريقة التي حقق بها أسلافنا النجاح في العالم، كما أنه الطريقة التي لا زلنا نسير على هديها. وفضلاً عن هذا، فأن الاعتقاد هو الذي قادنا بالقدر نفسه إلى صنوف من الفشل لا تصدق وإلى الفظائع والعنف والدمار ... وبالنسبة إلى البشر، الاعتقاد جزء مما نحن إياه، وقد بدا مقدرة عبر تاريخنا التطوري. إنما نحن بشر، ومن ثمة نحن نعتقد. لكن ما نعتقده، ما نفعله باعتقاد، هو ما سوف يشكل مستقبلنا، الذي نأمل أن يكون نحو الأفضل، لكنه أيضاً قد يكون نحو الأسوأ.

في محاسن الاعتقاد ومساوئه

عادة ما يركز المؤلف على سمتين من سمات الاعتقاد: الاعتقاد أمر إيجابي، وهو شيء باعث على الأمل. لكن ثمة ما يسميه "مخاطر الاعتقاد" التي هي بمثابة "نقمة" كامنة في طي "نعمة". وهي مخاطر في عداد الثلاثة:

  1. ثمة الاعتقادات الخاطئة بخصوص العالم الذي نحيا فيه وعلاقاتنا به والتي من شأنها أن تترتب عنها تهديدات قاتلة لنوعنا البشري ولمعظم الأنواع الأخرى. وتلك هي الاعتقادات التي تذهب إلى أن على العالم أن يُستَغَلَّ لصالحنا. هو ذا المفهوم الاستعمالي للعالم الذي من شأنه أن يصيِّر الأرض "ذلولة للإنسان". وهو الاعتقاد الذي قاد العالم في القرن الواحد والعشرين إلى هيمنة السوق عليه؛ بحيث ما من شيء إلا وبات قابلا للتسليع والتبضيع والتسويق، وبحيث صار لفظ "الكوكب" يدل حصريا على "كوكبنا" ـ نحن معشر البشر ـ وليس على كوكب الأنواع الأخرى أيضا.

  2. وثمة الاعتقادات السياسية والاقتصادية والعرقية والقيمية والجندرية التي قادت إلى عالم من البغضاء بين ساكني العالم من البشر؛ بحيث بات اليوم حوالي ثمانية في المائة من ساكنة العالم تملك ما يزيد عن خمس وثمانين في المائة من ثروة العالم. وقد تولدت عن هذا أشكال من الظلم عميقة؛ بحيث صرنا على مرمى فقدان كل رجاء في عدالة متشاطَرة.

  3. وثمة إفراطات الأنساق الاعتقادية التي تأدت إلى الأصولية، بما في ذلك الأصولية العلموية. وهي سيرورة باتت تعيق مقدرتنا ـ نحن معشر البشر ـ على التعاون في العمل وعلى نقل البشرية نحو مستقبل أفضل. وما يذهب إليه المؤلف بهذا الصدد أنَّه ما كان من حقنا استعمال أنساق الاعتقاد العلموية بغاية إنكار إمكان أنساق اعتقاد أخرى، والتنكر لكل ما خالفها؛ بما في ذلك الأنساق الدينية. ذلك أنَّ ثمَّة سعي حثيث إلى الاستعاضة عن المرويات الأسطورية والدينية والفلسفية بمروية واحدة ووحيدة: المروية العلمية؛ وذلك كله بِتِعِلَّةِ أن الأنساق الأخرى إِنْ هي إلا أكاذيب وأوهام ليس إلا. وخطأ هذا الموقف أنه يمنع ولا يجمع، ويفرق ولا يوفق، ويفشل في الاعتراف بمهارة أنساق الاعتقاد في التعاون والإدماج والتبادل والتأثير النافع في بعضها البعض. أما في ما يخص الأصولية الدينية، فيرى المؤلف أن معنى الأصولية أنها انتماء حرفي إلى بعض الكتابات المُقدسة والعقائد والأيديولوجيات، وقد امتزجت بمسيس حاجة إلى التمييز بين أهل الولاء وأهل البراء، وأن الأصولية الدينية إنما وتقوم على طهارة الفكر.

والحال أنَّه ما من أصولية ـ أكانت دينية أم علمية أم سياسية أم اقتصادية ـ إلا وتشكل خطرا على البشرية. إذ من شأن الأصولية أن تختزل بالتعريف البنية التحتية للاعتقاد: مقدرتنا على التخيل والتجريب والابتكار والتعالق مع الآخرين والتفاعل معهم. هذا مع تقدم العلم أن هذه المهارات هي التي منحت البشرية فرصا عظيمة للنجاح. فما من أصولية إلا وهي إفراط في استخدام المقدرة البشرية على الاعتقاد وسوء استخدام لهذه المقدرة.

هذا من مساوئ الاعتقاد الواقعة والممكنة، أما عن محاسن الاعتقاد، فينطلق المؤلف في مُعالجتها من ملاحظة أن الاعتقاد يمكن أن يكون مهماً إن نحن حاولنا حمله على ذلك. ذلك أن الاعتقاد أساسي لاشتغال الاقتصادات والسياسات القومية، ولتلاحم الجماعات وديناميتها الاجتماعية، وللتواريخ والعوائد الاجتماعية؛ وكل هذه لا تتم بلا اعتقادات؛ إذ كلها تتطلب بعض مهارات وسياقات اعتقادية باعتبارها المحفز والداعي والحاض. فمثلا، الورقة الخضراء ـ الدولار ـ تبقى مجرد ورقة إن لم نكن نعتقد بالنظام الذي يثوي خلفها. ذلك أن من شأن الاعتقاد أن يبنين الطريقة التي نتصرف بها ويهكلها، وأن يلهم كيف ينبغي أن نتحرك في هذا العالم. وفي هذا جواب عن السؤل: لماذا الاعتقاد؟  

هل لا زال الاعتقاد مهماً اليوم؟

لئن كانت بعض الاعتقادات سبباً في ما وصلنا إليه من مآسٍ، فإنِّه لا بديل عن الاعتقادات سوى اعتقادات بديلة. إذ لا فعل من دون اعتقاد يستهدي به؛ أي من غير مروية يسترشد بها. ومن هنا تأتي أهمية الاعتقادات في حياة الشعوب. حيث يمكن أن تكون الاعتقادات حاضة على الفعل الطيب. على أنه حتى الأنساق الاعتقادية العلمية تحتاج إلى أنساق اعتقادية غير علمية لمؤازرتها؛ وذلك كما يحدث، مثلا، حين يضطر السياسيون والزعماء والعلماء إلى إقناع الأهالي بأهمية الحفاظ على البيئة بأن يبدعوا لهم مروية ـ نسق اعتقاد ـ إبداعا. وههنا تقف العلوم إلى جانب الإنسانيات وإلى جانب الدين. والمستقبل يكمن في التعاون بين الأنساق الاعتقادية، وليس في التنازع بينها.

فما نعلمه اليوم هو أن المقدرة على الاعتقاد، ومختلف السبل التي تترجم بها عن هذه المقدرة، أمر جوهري للتطور البشري. وقد لعب دورا محوريا في نجاحنا بحسباننا نوعا بين الأنواع. لكن الجديد اليوم هو أن هذا النجاح جعلنا وجها لوجه مع الآثار الكارثية المحتملة على البشرية وعلى الأنواع الأخرى وعلى العالم.

ويختم المؤلف كتابه بالقول: أن نعتقد، ذاك التزام واستثمار وتعلق بطرائق جدد في التخيل والتطور، ولا أحد منها يحتاج إلى أن يتجذر في الواقع المادي، ولكن كلها يمكن أن تُطًعَّم بالأمل. إنما الاعتقاد سيرورة بشرية أعمق وأميز، وما كان هو "صدفة" ولا "إعجازا"، وإنما هو ثمرة وسيرورة لتاريخ البشر وتطور للعش البشري. كانت قد قالت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار ذات يوم: "تكتسي حياة إنسان معين قيمة بقدر ما يعزو بدوره قيمة إلى حياة الأغيار عن طريق المحبة والصداقة والاستنكار والتعاطف". والحال أنه في رأي المؤلف ما من سبيل أعظم لمنح القيمة إلى ذواتنا وإلى أغيارنا أفضل من الاعتقاد. ويضيف المؤلف قائلا: آمل أن نستطيع أن نوجه اعتقاداتنا وقيمنا المتبادلة نحو تخيل مستقبل أفضل ورجاء حدوثه وإمكان إبداعه.

عنوان الكتاب : لماذا نعتقد ؟
اسم المؤلف : أغوسطين فوينتس
دار النشر : مطابع جامعة ييل/ ومطابع تامبلتون
سنة الإصدار : 2019
عدد الصفحات : 266

 

أخبار ذات صلة