المجتمع الخيري الحديث برؤية قرآنية

أحلام المنذرية

إنَّه لا يخفى على كل ذي لُب صنوف الخير وأوجهه، وحث الدين الحنيف عليه وتنظيم سيره؛ إذ تشكل رؤية الدين ومقصده منها، والتي تقود إلى مكاسب دينية ودنيوية أراد بها الشارع الحكيم. نلخِّص هنا ما ذكره نورالدين بن مختار الخادمي في مقاله "الأوقاف في التجربة التاريخية للأمة: مهمات المجتمع الخيري".

الأوقاف والعمل الخيري لفظان مُتآخيان؛ فالأوقاف عمل خيري، والعمل الخيري يشمل الأوقاف... وغيرها. فلفظ الخير من الألفاظ ذات الصلة بالوقف، كلفظ التبرع، والصدقة، والهبة، والوصية، والبر، والخير، والإحسان، غير أن لفظ الخير أعم وأشمل، من حيث المفهوم والنظام والتسيير. وبمنظور رؤية القرآن الكريم، ورؤية الأوقاف والعمل الخيري بأبعادها المختلفة وأسسها المتينة ومهماتها الكثيرة، وهو ما يرد في المطالب الأربعة الآتية:

المطلب الأول: قراءة في الآية الكريمة

"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ  إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".. يوضح لنا الخادمي صلة الآية بالأوقاف والعمل الخيري، إذ يستوعب عموم الآية جميع ما يدخل تحتها من مفردات الشرعة والمنهاج، وتنوع الأمة، والابتلاء بالإمداد الإلهي والإمكان الحضاري، والاستباق إلى الخيرات، ووحدة المصير إلى الله، وانتظار حسن جزائه وكرمه.

المهمات الخيرية الكبرى للآية الكريمة بفسحة نظر وعظمة عمل:

ويطرح الكاتب فيما يتعلق بمهمات ومسؤوليات تتجاوز الفهم المقرر للخير كالفهم بأنه عمل الأفراد المحسنين، وأنه عطاء مادي وإحسان في الأعياد والأفراح والأزمات والنوائب، وأنه إنفاق على ذوي الديانة والقربى والصحبة والجوار، فهذه المفاهيم تجاه الخير لئن كانت مشروعة بأدلتها وفي مواضعها؛ فإنها لا ترتقي إلى المفهوم المحرر للخير ومهماته ورسالته وآفاقه، ومن هذه المهمات: مهمة الوعي الخيري وهي مهمة الفهم لمهمة الخير في الوجود الإنساني، ومشروعيته وأصالته، وأدواره في التنمية والتثمير. وتعنى هذه المهمة بالعلم الشرعي والواقعي بالأوقاف والعمل الخيري. ومهمة الفعل الخيري وهي مهمة الأداء والتنزيل، ومراعاة شروط ذلك وأسبابه وموانعه مما ورد في حكم الوضع. وكذلك مهمة الاجتماع الخيري وهي مهمة الأداء الجمعي المؤسسي بمقتضيات الحوكمة والمؤسسة والتسيير الحديث والرصد والتقويم والتخطيط والتمدد والانتشار.

أسس المهمات الخيرية الكبرى بإشارات الآية الكريمة:

ويضيف الخادمي بأنَّ المهمات الخيرية تستند إلى أربعة أسس أشارت إليها الآية العظيمة، وهي أساس الجعل الإلهي ويمكن أن نسميه بالجعل التشريعي الإنزالي والبياني، أي ما جعله الله منزلا في القرآن الكريم ومبينا في السنة الشارحة، وأساس الإمداد الإلهي فكل ما أعطي الإنسان من قدرات ذاتية وموضوعية يعد إمدادا منه تعالى؛ ليقيم عليه الخير، وأساس الابتلاء الإلهي أي ليختبركم في هذا الإمداد الإلهي، في الإمداد الذاتي، من حيث العقل والفهم والإرادة والعمل والاجتهاد، وفي الإمداد الموضوعي من حيث خلق موارد الخير، وتقرير قوانينه ونظامه. وكذلك أساس الاستباق الخيري بمعنى مسابقة الخير نفسه من أجل تحقيق السبق عليه والزيادة فيه أو عليه، وأخيرا أساس الجزاء الإلهي ومفاده تأكيد الرجوع إليه.

المطلب الثاني: التجربة الوقفية التاريخية للأمة

ويسردُ الكاتب عِدَّة أبعاد لهذه التجربة كالبُعد الإسلامي للوقف، البُعد التشريعي مثل الوقف عبر تاريخ الأمة الإسلامية منجزا حضاريا منضافا إلى سائر المنجزات في الأسرة والمسجد والقضاة والسياسة والعلاقات الخارجية، والبعد الإنساني للوقف فيما يعرف بالأوقاف الإنسانية التي توقف على البشر بوصفهم بشرا، ومن دون التفات إلى دينهم وهوياتهم أو أجناسهم وألوانهم. وأيضا البعد التنموي للوقف فهو يعمل على تحقيق التنمية الشاملة، بتحقيق التداول والرواج، وسد الحاجيات والضروريات والتحسينيات، وأخيرا البعد المؤسسي للوقف الذي تجلى في المنجز الوقفي التاريخي فيما يعرف بنظام الوقف في إدارته ونظارته، وسائر ما يمثل المستوى النظامي المؤسسي له؛ فالوقف شعيرة إسلامية بأدلتها وأحكامها ومقاصدها، وهو مؤسسة بنظامها وإجراءاتها وتسييرها، وبلوائح وقوانين وأدوات رقابية ومحاسبية وتقويمية.

المطلب الثالث: المجتمع الخيري الحديث

المجتمع الخيري الحديث مصطلح معرفي مُولد، له مدلوله وسياقه ومآله. أما مدلوله فهو الاجتماع الإنساني على الأوقاف والعمل الخيري؛ بحسب موضوعه ومقتضياته. وأما سياقه، فهو السياق الزماني والمكاني والواقعي. وكذلك يُؤخذ بعين الاعتبار سياق العمل الجمعي في مقابل العمل الفردي. وأمَّا مآله فهو نتائجه المرجوة من العمل الخيري.

وتتعدَّد مرجعيات المجتمع الخيري الحديث، وتتوزع على فلسفات ونظم وقوانين وأعراف، وتمثل مرجعية الإسلام إطارا دينيا وتشريعيا وحضاريا للمسلمين في الاجتماع الخيري والوقفي، وهو ما تضمنته الدساتير الحديثة والقانون الدولي والأعراف الإنسانية. وتمثل الرؤية القرآنية بمرجعية الآية رافدا عظيما في إقامة المجتمع الخيري الحديث، بمقتضى تجديد النظر في هذه الرؤية والآية، والاعتبار بمنتجات الزمان والحال.

المجتمع الخيري الحديث بمرجعية الآية الكريمة:

ويرَى الكاتبُ أنَّ بوسع المجتمع الخيري الحديث أن يستوعب مدلول الشرعة من جهة قيمها ومقاصدها، وأن يستوعب المنهاج من جهة الوسائل والأدوات، كوسيلة التنظيم القانوني والتسيير الحديث، وأن يستوعب الأمة من جهة خدمة قضاياها ومراعاة أولوياتها، وأن يستوعب الإمداد الإلهي الكوني الموضوعي والإنساني الذاتي، وأن يستوعب قانون الابتلاء في هذا الإمداد، وأن يستوعب الاستباق الخيري، وأن يستوعب اتحاد المصير والرجوع إلى الله.

موجِّه المهمات الخيرية الكبرى للمجتمع الخيري الحديث:

ويشير الخادمي إلى جملة من المهمات كمهمة الوعي الخيري وهو الوعي بالحكم الشرعي التكليفي المجرد لهذا المجتمع الخيري، ومهمة الفعل الخيري وهو تنزيل الحكم التكليفي بوجود سببه ودخول وقته وقيام الحاجة إليه، وبحصول شرطه والقدرة عليه، وبانتفاء مانعيه وما يفوته ويعطله، ومهمة الاجتماع الخيري الذي يؤسس لإقامة الوعي الخيري الجمعي في مقابل الوعي الخيري الفردي.

المطلب الرابع: المهمات الخيرية الراهنة للمجتمع الخيري الحديث:

ويضيف الخادمي بأنَّ هذه المهمات تتحدد بناء على ملاحظة الواقع من حيث حاجياته الخيرية، وإطارها النظري والعملي. وأبرز هذه المهمات الخيرية هي:

مهمة الإغناء المعاشي: يراد بالإغناء المعاشي تحقيق مرتبة الغني لمن يوجه إليهم عمل الخير، في مجالات الغذاء والدواء والماء والهواء واللباس وسائر ما يقوم به عيشهم، ومن مشروعات هذه المهمة: مشروع السلة الغذائية الوقفية، والمحفظة الصحية الوقفية، التي توفر الغذاء المنتظم والصحة الدائمة.

مهمة التهدئة النفسية والمجتمعية: يراد بهذه المهمة تحقيق الهدوء النفسي والمجتمعي بين أوساط كثيرة من المبتلين بالاضطراب والتوتر، والاهتزاز العاطفي والاكتئاب المستفحل، بموجب تزايد البطالة والفقر، واستفحال ظاهرة الظلم والجريمة بأنواعها، وتراجع دور الدولة والمجتمع في تأمين الحياة الكريمة. ومن مشروعات هذه المهمة: مشروع مكافحة العنوسة والتقليل من معاناة المتأخرين عن الزواج.

مهمة التنوير العلمي: يراد بها تنوير العقول بالعلم والفكر، وبناء العقليات الخاصة والعامة بمهمات العمل الخيري وروافد البر المختلفة، ومن مشروعات هذه المهمة: مشروع الحقيبة العلمية.

مهمة التقصيد الوقفي والخيري: تعنى بتعميق الوعي بالمقاصد الخيرية والوقفية.

مهمة التوعية الحضارية: بناء الوعي بالإنجاز، وتكثير الإنتاج الخيري الحضاري المادي والروحي، الذي سيؤدي إلى خيرات وأعمال كثيرة نافعة، ومن مشروعاتها: مشروع البرنامج التحضري المدني الذي ينفق عليه من مال الوقف.

مهمة الحوكمة الوقفية الخيرية: و بمعنى حوكمة الأداء الخيري في الوعي والعمل به، وفي إطاره المؤسسي ومساره التطبيقي وسياقه الوطني والعالمي.

أخبار ذات صلة