كارن آرمسترونج
عبدالرحمن السليمان *
هذا كتاب متميز بجميع المعايير.. متميز بكاتبته كارن آرمسترونج، وهي واحدة من أهم الكتاب في العالم الذين كتبوا في الدين والظاهرة الدينية بشكل عام. ومتميز لأنه جمع بين دفتيه أكبر كم من المعلومات التي يمكن جمعها بين دفتي كتاب من 679 صفحة. ومتميِّز لأنه يقارب موضوعه -وهو الأسفار المقدسة للديانات العالمية- مقاربة غير مألوفة في الفكر الغربي الحديث. تتمثل مقاربتها، أو فكرة الكتاب الرئيسة، في أن الناس في الغرب لم يعودوا يعرفون شيئًا يذكر عن الأسفار المقدسة للديانات العالمية، وأن العارفين بها منهم أصبحوا يجهلون كيف يقرؤون تلك الأسفار، فيكتفون بقراءتها لمعرفة محتواها فقط أو لأنه يمثل لهم الحقيقة المطلقة. وترى أيضًا أن الأسفار المقدسة "فن يبدو أن العالم الحديث قد خسره"، وخسر كيفية ممارسته معه. وتعتقد أن في عدم قدرة الغربيين على "ممارسة فن الأسفار المقدسة" خسارة كبيرة لهم؛ لأنها ترى أن قراءة تلك الأسفار كما هي تؤثر إيجابيًّا في القارئ وتضفي على حياته قيمة روحانية سامية.
الكتاب كبير ويزخر بالمعلومات حول الأسفار المقدسة؛ وهي: التوراة وأسفار العهد القديم بالنسبة إلى اليهودية، والأناجيل وأعمال الرسل بالنسبة إلى النصرانية، والقرآن الكريم بالنسبة إلى الإسلام، إضافة إلى أبستاق زردشت، وفيدا الهندوس، وقوانين ماني، وأسفار البوذية والطاوية وما تفرع عن بعضها من أسفار أخرى. من تلك الأسفار الأخرى: ملحمتا مهابهاراتا ورامايانا الهنديتين المؤسستين، مع الفيدا، للديانة الهندوسية. تحاول الكاتبة -وهذه فكرة تكررها بطريقة أو بأخرى ومن أول كتابها إلى آخره- أن تقنع القارئ بضرورة مقاربة الأسفار الدينية بعفوية الأجيال السابقة، وليس من خلال الإطار العقلاني المادي الذي نشأ في الغرب بعد عصر التنوير وصار يحاكم كل شيء -بما في ذلك الأسفار الدينية- بالعقل فقط. فالكاتبة ترى أن النصوص الدينية لديانات كثيرة لم تنشأ دفعة واحدة، إنما كانت تقليدًا دينيًا شفهيًّا يُعاش واقعًا وحالة تعبير وجداني تبلور وتطور عبر عشرات وربما مئات السنين قبل أن يُدَوَّن على الورق. فإذا كان تدوين ذلك التقليد الديني الشفاهي خشية عليه من الضياع وتقنينه لتوحيد أركان الإيمان ضروريًا بالنسبة إلى الديانات المختلفة، فإنَّ التدوين هنا أصبح بمثابة تقييد المعاني المباشرة فقط بهدف حفظها للأجيال اللاحقة. يقتصر التدوين على ضبط المعاني، ويهمل تلك العواطف التي كانت الحواس تعبر عنها عند تعاطي النص أو التقليد الديني شفاهًا وواقعًا خلال الطقوس. فبينما كان النص يُعاش واقعًا بالعقل والعاطفة والحواس جميعًا، أصبح -بعد تدوينه وتقنينه- يقارب بالعقل فقط.
وكلما كانت المقاربة العقلية مادية جافة -كما هي الحالة عليه في الغرب بعد عصر التنوير- غابت العاطفة الوجدانية وتفاعل الحواس عن عملية القراءة. وكلما غابت العاطفة الوجدانية عن القراءة، خسر القارئ قسطًا كبيرًا من الشعور بالنص الديني وفهمِه بل وعَيشِه كما كان الناس يشعرون به ويفهمونه ويعيشونه قبل تدوينه وضبط معانيه على الورق. وبالتالي فإن الكتاب ليس مقدمة في علم الأديان، ولا دراسة مقارنة للأديان، بل يركز -بالتحديد- على النصوص الدينية للديانات العالمية المختلفة كما تقدم، ليس على مضامينها فحسب، بل وعلى طريقة قراءتها ومعايشتها والتعامل معها.
فالبوذية، بوذية الماهايانا، وهي أحد تيارَيْ البوذية الرئيسَيْن، تنص على أن قراءة النص الديني المؤسس للديانة البوذية ممكنة فقط تحت إشراف المعلم الروحي من جهة، وأنها -أي القراءة- يجب أن تكون بنية ترجمة معاني النص الديني إلى الواقع والعمل به من جهة أخرى. تقول: "لا تُقرأ هذه النصوص قراءة همسية بل تُقرأ قراءة جهرية. والقراء الجهرية غير ممكنة في الهند بدون معلم؛ لأن هذه النصوص لا تُفهم ولا تُستَوعب أبدًا إلا إذا صاحبها التأمل والتمارين الأخلاقية". أما القضايا النصية، فهي غير ثابتة بل متحولة. وهذا التقليد الآسيوي الذي نجده في الديانتين الهندوسية والبوذية، نجده أيضًا في التقليد اليهودي المسيحي. فإلى جانب التوراة التي أنزلت على موسى في طور سيناء، أنزلت عليه أيضًا -حسب التقليد اليهودي- توراة ثانية تدعى (مِشْناه > מִשְׁנָה) أو "التوراة الثانية". وتقول التقاليد اليهودية إن التوراة الأولى نزلت مكتوبة في الألواح، بينما أوحيت التوراة الثانية أو المشناه شفاهةً، فرواها موسى لأحبار بني إسرائيل الذين رووها بدورهم شفاهًا من جيل لجيل حتى دوّنها الحبر يهودا هاناسي (135-200 ميلادي). والمشناه أو التوراة الثانية هي بمثابة شروح على التوراة الأولى المكتوبة تنسب إلى مائة وعشرين حبرًا من أحبار اليهود يسمون بالـ"تَنائيم" أي: "المعلمون المُثَنُّون". وتُكوِّن المشناه متن التلمود وهو شريعة اليهود وفقههم. وهذا يجعل من النص المقدس عند اليهود نصًّا ذا شقين شق ثابت (التوراة المكتوبة) وشق متحول (التوراة الثانية /المِشْناه) التي درج التقليد اليهودي بشأنها (وفي الحقيقة بشأن التوراتَيْن الاثنتَيْن) على إطلاق العنان لخياله التفسيري إن صح التعبير كي يُؤقلمَها ويُحَيِّنَها مع السياقات المختلفة التي فرضت نفسها على اليهودية عبرالتاريخ. ومثل هذا التقليد نجده، بطريقة أو بأخرى، في الديانة النصرانية أيضًا، حيث دأب أوائل النصارى على قراءة النص المُقدس -خصوصًا أسفار العهد القديم المضطربة- قراءة مجازية وليس حرفية الدلالة، وذلك من أجل تفعيل البعد الروحي والأخلاقي والوجداني للنص. وهذا التفعيل غير ممكن عند عزل النص عن واقعه التاريخي وعن معايشته بجميع أبعاده العقلانية والعاطفية والوجدانية، وعند إخضاعه إلى قراءة عقلانية جافة بدون أخذ عتباته العديدة بعين الاعتبار.
وتعزو الكاتبة المقاربة الغربية "الجافة" لقراءة الأسفار المقدسة للديانات العالمية المختلفة إلى تطورين غربيين اثنين. التطور الأول: حركة الإصلاح البروتستانتية التي ثارت في القرن السادس عشر على الكنيسة الكاثوليكية ورفضت، فيما رفضت، كل السنن التي سنتها الكنيسة الكاثوليكية واقتصرت على "الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث". وقد عبّر الإصلاحيون البروتستانت عن موقفهم هذا بالشعار الشهير (Sola Scriptura) أي "الكتاب المقدس فقط" الذي اعتبره الإصلاحيون المصدر الوحيد للديانة النصرانية. وبالإضافة إلى هذه الإشكالية -إشكالية رفض السنن والاقتصار على الكتاب المقدس- نشأت مشكلة النص المعياري الذي ينبغي تقنينه واعتماده، والتي جاءت نتيجة حتمية لمشكلة الأصل التاريخي للكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث. فالعهد القديم -ويحتوي على أسفار اليهودية- رُوي بالعبرية باستثناء أجزاء صغيرة من سفر دانيل وسفر عزرا رويت بالآرامية. وكانت اللغة العبرية التوراتية مستعملة حتى السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. تراجعت العبرية التوراتية لغةً محكية، وأصبحت لغة دينية فقط لا يفهمها إلا الأحبار، وحلّت الآرامية بعد السبي البابلي محلها بالتدريج، وبقيت الحال هكذا حتى احتلال الإسكندر المقدوني المشرق وبناء الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد. سكن الاسكندرية، فيمن سكنها، طائفة من اليهود الذين أصبحوا يتحدثون باليونانية. استعجم كتاب العهد القديم، الذي جُمَعَ وقُنِّنَ بعد السبي البابلي، على هذه الطائفة اليهودية الساكنة في الإسكندرية لأن أفرادها صاروا يتحدثون باليونانية في وقت أصبحت العبرية فيه لغة دينية فقط لا يفهمها إلا الأحبار. قام هؤلاء الأحبار حوالي 250 قبل الميلاد بترجمة أسفار العهد القديم إلى اليونانية. تسمى هذه الترجمة بالترجمة السبعينية (Septuaginta)، وهي أقدم ترجمة لأسفار العهد القديم إلى لغة أخرى. وهي ترجمة حرفية احتوت على كل الأسفار التي كان كتاب العهد القديم يحتوي عليها آنذاك. وعليه؛ فإنَّ الترجمة السبعينية هي ترجمة يونانية للنص العبري للعهد القديم كما كان اليهود قنَّنوه واعتمدوه بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. ويحتوي هذا النص المعتمد لديهم على 46 سفرًا. ثم نشأت الديانة المسيحية التي أصبحت ترى في أسفار اليهود الدينية المرجعية الدينية والبعد اللاهوتي لها، وأدّى هذا المعتقد إلى تشويش الأمر الديني لدى اليهود؛ لأنَّ الديانة المسيحية أصبحت منذ نُشوئها تقسم التاريخ البشري إلى عهدين اثنين: العهد القديم وهو عند المسيحيين العهد الذي اصطفى الله فيه آل إسرائيل والذي كان عندهم بمثابة التمهيد لمجيء المسيح عليه السلام، الذي افتتح بمجيئه عهدًا جديدًا للبشرية أنهى العهد القديم بما فيه اصطفاء الله آل إسرائيل. وأضافت العقيدة المسيحية المتعلقة بالخطيئة الأزلية بعدًا دينيًا عميقًا لهذا الفصل ين العهدين. وغني عن التعريف أن اليهود لا يسمون أسفار العهد القديم بالعهد القديم لأنهم لا يؤمنون بالتصنيف المسيحي للتاريخ اللاهوتي لديانتهم أو كتبهم ولا يؤمنون بمبدأ النسخ هذا، بل يسمونها بأسماء كثيرة أشهرها (تاناخ) وهي كلمة مكونة من الأحرف الأولى لأجزاء العهد القديم الثلاثة: التوراة، والأنبياء، والكتب. ومن الجدير بالذكر أن الديانة المسيحية ركّزت على تلك الأسفار من العهد القديم التي ارتأت فيها تبشيرًا بمجيء المسيح، مثل كتاب "نبوءة عيسى بن سيراخ" وغيره مما اصطلح فيما بعد على تسميتها بـ (الأبوكريفا) أي "الأسفار الزائفة". سبب نشوء ديانة جديدة هي المسيحية واعتبارها أسفار اليهود المقدسة عهدًا قديمًا يمهد لعهد جديد ورطة لاهوتية لليهود جعلتهم يراجعون معتقداتهم كما جاءت في أسفارهم المقدسة. وأدت هذه المراجعة التي أتت نتيجة للتطورات الدينية والسياسية الحاصلة آنذاك إلى إعادة تقنين كتب العهد القديم. أدت هذه العملية التي تمت في القرن الثاني للميلاد في اجتماع مشهور لأحبار اليهودية في مدينة (يامنة) في آسيا الصغرى إلى إسقاط مجموعة من أسفار العهد القديم بحيث أصبح عدد أسفاره 39 سفرًا بدلاً من 46 سفرًا. إذن صار عندنا من الآن فصاعدًا نصان قانونيان للعهد القديم: واحد باليونانية، هو الترجمة السبعينية لنص عبري مفقود قُنِّنَ قبل ظهور المسيحية، مكون من 46 سفرًا، وواحد بالعبرية، قُنِّنَ بعد ظهور المسيحية في القرن الثاني للميلاد، مكون من 39 سفرًا. اختار الإصلاحيون البروتستانت النص العبري للعهد القديم المكون من 39 سفرًا نصًا قانونيًا لهم، بينما اتخذ الكاثوليك النص اليوناني للعهد القديم المكون من 46 سفرًا نصًا قانونيًا لهم، واقتصروا في ممارستهم الدينية عليه، وكذلك على الأناجيل وأعمال الرسل التي لا تطرح أصولها المعتمدة مشاكل بحجم المشاكل التي تطرحها أصول العهد القديم.
التطور الثاني هو عصر التنوير الذي بزغ في الغرب في القرن الثامن عشر، والذي رفع شعار "العقل فقط" (Sola Ratio)، رفض التنويريون كل السلطات الأخرى ولم يعترفوا إلا بسلطان العقل، فأخضعوا عالم الغيبيات للتشريح الفلسفي والعقلاني "وصاروا يترجمون اللاهوت وأسفاره المقدسة إلى سياق عقلاني صرف غريب عنه" مما أسهم في تعويم الظاهرة الدينية، وما إليها من عالم غيبي يُتَدَبَّر ولا يُتَعَقَّل.. "فالعقل"، تستنتج الكاتبة، "لا يستطيع أن يواسينا أو أن يُخفّف من أحزاننا أو أن يستحضر شعورنا للإله المتعالي الذي لا تدركه العقول وبالتالي فإنه لا يستطيع لوحده أن يقنعنا بأن لحياتنا قيمةً روحانيةً على الرغم من وجود أدلة تثبت العكس". كما تعبّر الكاتبة عن أسفها بأن انتشار الحضارة الغربية ومفاهيمها في العالم وترويجها المستمر لعصر التنوير العقلاني، خصوصًا في زمن التطرف الذي لم تسلم منه ديانة في العالم اليوم، جعل من تلك النظرة العقلانية الجافة للأسفار المقدسة المعيارَ الذي من خلاله صار الناس في كل مكان تقريبًا ينظرون إلى تلك الأسفار. تقول في هذا السياق: "حتى يومنا هذا يشعر أتباع التقاليد الشرقية بأنهم مضطرون إلى شرح أنفسهم للغرب الحديث الذي أصبح اليوم المعيار". وتمثل الكاتبة على ذلك بفقرات العنف الواردة في الأسفار المقدسة للديانات المختلفة. تقول: "إذا احتوت نصوص دينية شرقية على فقرات عنيفة -كما هي الحال عليه في كل الكتب الديانات والأسفار المقدسة بلا استثناء- فإن هذه النصوص الشرقية تُعتَبر أعنف -أو في أحسن الأحوال- أكثر بدائية من النصوص اليهودية النصرانية التي يؤمن بها الغرب".
ثم تعرج الكاتبة على مسألة استغلال النص الديني وتوظيفه لغايات معينة. ففي حين تدعو الكاتبة إلى رفع الوصاية "العقلانية" عن مقاربة النص الديني لقراءته وفهمه كما هو على حقيقته في سعي حثيث منها إلى رد الاعتبار إلى النص الديني، فإنها في الوقت نفسه تدعو إلى عدم استغلال النص الديني لأية غاية كانت. "فالتطرف والاستغلال موجودان في كل الديانات والتقاليد العقدية"، وليسا حكرًا على دين بعينه أو تقليد عقدي بعينه. وهنا تقارب الكاتبة القرآن الكريم الذي أفردت له فصلاً كاملاً مؤرخة له وللإسلام بموضوعية تحسب لها. وهذا في الحقيقة موقفها من كل الديانات وفي كل كتبها وليس فقط في هذا الكتاب. "يكاد القرآن أن يصبح مثالاً مدرسيًّا لنزعة الحكم عليه انطلاقًا من منظور أوروبي متحيز تكوَّن بعد عصر التنوير". وتضيف: "ساد المسلمون العالم قرابة ألف سنة، لكن الغرب احتل بلادهم بداية القرن العشرين، وكان المحتلون الغربيون لا يخفون امتهانهم للإسلام والثقافة الإسلامية". ثم تستنتج الكاتبة من ذلك "أن هذه الصدمة التي شعر المسلمون بها بعد سقوط الدولة العثمانية جعلت بعض المسلمين يتقوقعون على أنفسهم ويطورون رؤية ضيقة للإسلام ونصه المقدس". ومما ساعد على تطوير هذه الرؤية الضيقة -حسب رأي الكاتبة- هو غياب الديمقراطية في معظم الدول الإسلامية التي استقلت عن المستعمر ومجيء أنظمة حاولت تطوير البلاد وفق رؤية علمانية يسارية "بالحديد والنار، فجردت علماء الدين من صلاحياتهم وهمَّشتهم وجعلت منهم موظفين بلا قيمة فعلية لدى تلك الأنظمة العسكرية". فالكاتبة -وهذا يحسب لها- تجعل أسباب التطرف في العالم الإسلامي سياسية واجتماعية وليس دينية، وتستعرض معظم الأحكام الغربية المسبقة عن الإسلام وتنقضها بالقرآن في موضوعية تحسب لها أيضًا. من ذلك: رفضها اعتبار الإسلام دينًا مضطهدًا للمرأة. وهذا موقف في غاية الأهمية لأنه صادر عن امرأة أولاً ثم امرأة غير عادية ثانيًا، فالكاتبة -كارن آرمسترونج- كانت راهبة دخلت الدير وأقامت فيه سبع سنوات قبل أن تغادره لتكرّس حياتها للكتابة عن الدين والظاهرة الدينية. وتستشهد الكاتبة بالآية 35 من سورة الأحزاب: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"؛ للتدليل على مكانة المرأة في الإسلام، ذلك أن القرآن الكريم هو الكتاب الديني الوحيد الذي يخاطب المرأة مباشرة، بينما تقتصر الأسفار المقدسة الأخرى للديانات الأخرى على مخاطبة الرجل فقط. وهذا ليس الاستثناء الوحيد الذي يميز القرآن الكريم أيضًا عن سائر الأسفار الدينية الأخرى، فثمة حالة أخرى تتمثل في أنه السفر المقدس الوحيد المكتوب بلغة حية هي العربية يتحدث بها ملايين الناس، ويُعاش بالتالي نصًّا يُقرأ، وتلاوةً تُسمع، وصورةً فنيةً أبدعها الخطاطون المسلمون عبر التاريخ.
ثم تذكر الكاتبة -التي ترفض التسليم بأن الإسلام لا يتوافق مع قيم الحداثة- وجهًا آخر مما تعتبره الكاتبة استغلالاً للنص الديني "وهو ما اصطلح عليه بالتفسير العلمي" للقرآن الكريم. وتستعرض مجموعة من الأمثلة "التي يحاول أصحابها من خلالها التدليل على نظرية دارون وعلم الأجنة" وغيرهما من خلال "الآيات الكونية" في القرآن الكريم. وتختم آرمسترونج بنقد الكاتب بديع الزمان سعيد النورسي (1877-1960) صاحب (رسائل النور) الذي زعم أن آية النور في القرآن الكريم مهدت لاختراع الكهرباء والمصباح الكهربائي. وترى أن النورسي بمثل هذا الكلام "يبتذل آية رائعة تمجد النور الإلهي بشمولية تجعلها تسمو فوق الديانات، ولا يمكن بالتالي اختزالها في دين واحد". والكاتبة ليست وحيدة في حكمها على جمال آية النور، فقد سبقها إلى ذلك كتاب كثيرون، منهم المستشرق المجري إجناس جولدتسهر (1850-1921) في كتابه "تاريخ موجز للأدب العربي الكلاسيكي"، عند حديثه عن القرآن الكريم، وبالتحديد عند تعليقه على توصيف معظم الأدباء والنقاد للسور المكية بالإيجاز البليغ والشاعرية العالية والبلاغة المعجزة، وللسور المدينة بالنثرية والطول والإسهاب لاختلاف السياقين. يقول جولدتسهر: "وهذا لا يعني أن السور المدنية تخلو من الإبداع والجمال الشعري، ذلك أن أشهر آيتين في القرآن [الكريم] مدنيتان. فآية الكرسي [سورة البقرة:256] هي أسمى تعبير عن القدرة الكلية لله في أية لغة كانت. وآية النور [سورة النور:35]، من جهة أخرى، هي أعمق وأوجز تصور متصوف عن الله في أية لغة كانت".
الكتاب ضخم وغني جدًّا بالمعلومات. وقد يحتاج إلى أكثر من قراءة ومراجعة.. وما أفقر المكتبة العربية إلى أمثاله من الكتب القيّمة، وما أحوجها إلى ترجمته إلى العربية!
----------------------
- الكتاب: "فن الأسفار المقدسة الضائع".
- المؤلف: كارن آرمسترونج.
- الناشر: دار دي بيزيخ باي، أمستردام، هولندا، 2019م.
- عدد الصفحات: 679 صفحة.
* أستاذ الترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا
