الهاوية: المخاطر الوجودية ومستقبل الإنسانية

الهاوية.jpg

توبي أورد

فينان نبيل *

* كاتبة مصرية

وقف العالم على حافة "الهاوية" في القرن الماضي؛ حيث كان على شفا حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي "سابقا" (أكتوبر 1962)؛ حيث حملت غواصة سوفيتية أرسلتها روسيا ضمن أربع غواصات لدعم عملياتها العسكرية في كوبا سلاحاً سرياً "طوربيد نووي"، بقوة متفجرة مُماثلة لقنبلة هيروشيما. وكانت قد سبقتها بأسبوعين أزمة الصواريخ النووية، التي كشف الاستطلاع الجوي الأمريكي بأدلة مصورة أنَّ الاتحاد السوفيتي قام بتركيبها في كوبا، ويُمكنها أن تضرب الولايات المتحدة مباشرة. وردا على ذلك، فقد حاصرت الولايات المتحدة البحار حول كوبا، ووضعت خططاً لرفع قوتها النووية في حالة تأهب لم يسبق لها مثيل كخطوة نحو حرب نووية، ولم يمنع تلك الحرب إلا عدم حصول القائد "ساتيفسكي" على أوامر من موسكو بالإطلاق، ولا أحد يعلم على وجه التحديد ماذا كان سيحدث إن تمَّ منحه تلك الموافقة.

من الواضح أننا كنا سنقترب من حرب نووية؛ فلا يعتقد أحد أنه لو تعرضت القوات الأمريكية للهجوم النووي، أنها ستمتنع عن الرد برؤوس نووية؛ مما يؤدي إلى كارثة كونية مطلقة، وإن كان الحظ لعب دورا وجنبنا الكارثة آنذاك، إلا أننا لا يمكننا الاعتماد على الحظ للأبد، خاصة وأن هذه القدرات التدميرية تستمر في النمو، تمتلك كوريا الشمالية أيضا رؤوسا نووية أقل بكثير من روسيا أو الولايات المتحدة، إلا أن الحرب النووية معها ستكون كارثية. وإن كانت لا تشكل حاليًا تهديدًا كبيرًا لإمكانات البشرية، إلا أنها قد تشكل تهديداعلى المدى الطويل، بينما لا تزال معظم المخاطر الوجودية من الأسلحة النووية اليوم، تأتي من الترسانات الأمريكية،والروسية الهائلة، ويتم تطويرها باستمرار، وتشعل التغيرات في المشهد الجيوسياسي سباق تسلح آخر بين القوى العظمى.

قسم الكاتب المخاطر التي يعاني منها عالمنا إلى ثلاثة أنواع: طبيعية كالزلازل والانفجارات البركانية، والنجمية، ومخاطر يصنعها البشر مثل تغير المناخ، والأضرار البيئية، والمخاطر النووية، والأخطار المستقبلية تتمثل في الأوبئة، والذكاء الاصطناعي المتقدم. ويرى رغم كل هذه المخاطر أنه يمكننا الانسحاب من الهاوية، وخلق مستقبل ذي قيمة مذهلة، ويرى أن البشرية لديها إمكانات هائلة، ولدينا الكثير لنفعله لحمايتها.

منح العلم الإنسان قوة هائلة سيطر بها على العالم، فبدأ سلسلة من الإنجازات العظيمة منذ اكتشاف النار، وأصبح أقوى المخلوقات على الأرض، ولم يكن يتميز جسديا بقدر تميزه  بالذكاء والإبداع واللغة، مما عزز قدرته على البقاء، ومنحه الهيمنة على سائر الكائنات "لم يكن الإنسان بل كانت الإنسانية"، انتقلت هذه القوة عبر عصور ومراحل إلى أن وصلت إلى عصرنا.

مرت البشرية بثلاث ثورات كبرى؛ الأولى: الثورة الزراعية لتأمين الغذاء، ثم إعادة زراعة البذور، والحصول على محاصيل أفضل. الثانية: الثورة العلمية، أحدثت تحولا ضخما في تاريخ البشرية، بدأت جذورها عند علماء العالم الإسلامي ومنها إلى أوروبا، ثم طورت البشرية المنهج العلمي القائم على الملاحظة الدقيقة، والتفسير وفرض الفروض القابلة للاختبار، ومعرفة أحوال الطبيعة جعلت الإنسان قادراعلى تسخيرها لتحسين العالم، وأدى التسارع في المعرفة إلى الابتكار التكنولوجي، مما منح البشرية سيطرة متزايدة. الثالثة: الثورة الصناعية؛ ساعد في ذلك اكتشاف كميات هائلة من الوقود الحفري "الفحم"، وتم تحويل الطاقة الكيميائية المخزنة للفحم إلى طاقة ميكانيكية في المحرك البخاري، لدفع الآلات؛ مما سمح بتحويل المواد الخام إلى منتجات بشكل أسرع وتكلفة أقل، وأصبح من السهل نقلها عبر السكك الحديدية لتوزيع المنتجات عبر مسافات طويلة. سمحت الثورة الصناعية للدخل أن ينمو بشكل أسرع من السكان، ويؤدي إلى ارتفاع غير مسبوق في الرخاء يستمر حتى يومنا هذا، وتحسنت الحياة ليس فقط من حيث الظروف المادية، بل في التعليم والصحة. لم تكن آثار تلك التحولات إيجابية دائما؛ فقد أدى استخدام الطاقة الحفرية إلى إصدار غازات ملوثة للبيئة وتهديد بعض الأنواع بالانقراض، وتضرر الأنظمة الإيكولوجية، وجاء الارتفاع الكبير في الرخاء الذي أحدثته الثورة الصناعية على خلفية الارتفاع السريع في انبعاثات الكربون، ونما التأثير الجانبي البسيط للتصنيع في النهاية ليصبح تهديدًا عالميًا للصحة والبيئة والاستقرار الدولي وربما حتى البشرية نفسها.

أصبح مستقبل البشرية بأكمله على المحك مع تفجير القنبلة الذرية الأولى، وشكلت الأسلحة النووية تغييرًا كبيرا في القوة البشرية، فتسببت قنبلة واحدة في "هيروشيما" في إلحاق الضرر بالآلاف، وحملت قنبلة نووية حرارية واحدة طاقة أكثر من كل المواد المتفجرة المستخدمة في مجمل الحرب العالمية الثانية، وأصبح من الواضح أن الحرب بهذه الأسلحة ستغير الأرض بطرق لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. بدأ قادة العالم وعلماء الذرة والمفكرون أخذ احتمال أن تؤدي الحرب النووية إلى نهاية البشرية على محمل الجد، إما من خلال الانقراض أو الانهيار الدائم للحضارة، وإما بسبب التداعيات الإشعاعية والأضرار التي لحقت بطبقة الأوزون؛ مما أثر على المناخ والأمطار والزراعة، وتسبب في أزمة الغذاء، أو بسبب الانفجارات النووية المباشرة التي تعقبها وفيات لا حصر لها؛ مما قد يهدد بفناء البشرية نفسها وتبديد كل تقدم حققه أسلافنا، وكل تقدم يمكن أن يحققه أحفادنا.. بدأ عصر جديد للإنسانية.

تظهر تهديدات جديدة مع استمرار تقدم التكنولوجيا الحيوية، فقد أدى اكتشاف الشيفرة الوراثية لإحداث تغييرات جينية في النبات، والحيوان، وحققت التكنولوجيا الحيوية تحسينات كبيرة في الطب والزراعة والصناعة، لكنها أيضًا سببت مخاطر للإنسانية نفسها: فقد طورت خمس عشرة دولة برامج تسليح بيولوجية، منها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وأضخم البرامج كان في روسيا، التي تحتوي على عشرات المختبرات السرية، وتوظف آلاف العلماء لتسليح الأمراض. قد تدفع سياسة الردع القوى العظمى إلى مغازلة الحرب البيولجية، بيد أن الحرب البيولوجية غير مأمونة العواقب، من حيث تأمين انتشارها مما يدفع الدول إلى استخدام أسلحة أخرى.

 وقد تنشأ المخاطر عن الأبحاث العلمية والطبية، التي يتضمن جزء صغير منها البحث في صنع سلالات من مسببات الأمراض، وزيادة قابليتها للانتقال والفتك، أو مقاومة التطعيم أو العلاج، فقد نشر عالم الفيروسات الهولندي "رون فوشيه" تفاصيل عن تجربة على سلالة H5N1 من إنفلونزا الطيور، وهي مميتة للغاية؛ مما أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 60% من البشر المصابين، ولكن عدم قدرتها على الانتقال من إنسان إلى إنسان حال دون حدوث جائحة، وأراد "فوشيه" معرفة ما إذا كان يمكن أن يطور قدرة H5N1 بشكل طبيعي، فطبق المرض على عشرة قوارض تستخدم عادة للتجارب، وبمرور الوقت أصبحت سلالة قابلة للانتقال مباشرة بين الثدييات. تسبب هذا العمل في جدل حاد، بحث فويشر مثالاً واضحًا للعلماء ذوي النوايا الحسنة الذين يعززون القدرات التدميرية التي قد تهدد بكارثة عالمية. يتم إجراء مثل هذه التجارب في مختبرات آمنة،وتطبق معايير السلامة بصرامة، ومن المستبعد جدًّا أن تهرب مسببات الأمراض المعدلة إلى البرية. نحن بحاجة إلى تقارير متسقة وشفافة عن الحوادث، لكن حتى الأدلة غير المكتملة التي لدينا تتضمن عددًا كافيًا من الحالات المؤكدة لمعرفة أن معدلات الهروب مرتفعة بشكل مقلق، ولا يمثل أي من حالات الهروب الموثقة هذه خطر حدوث كارثة وجودية بشكل مباشر، لكنها تظهر أن تأمين مسببات الأمراض الخطيرة كان معيبًا للغاية، ولا يزال غير كاف.

وينتقل أورد إلى المخاطر المستقبلية، وتشمل الأوبئة والذكاء الاصطناعي. فيما يخص الأوبئة، شهدت السنوات العشر الماضية اختراقات نوعية كبيرة، وزرع جينات جديدة، وتخليقا كاملا للفيروسات، وتربيتها بصفات مختلفة، وتسلسل جينوماتها. وعلى الرغم من تفشي بعض الأمراض، فإنه لا يوجد دليل قاطع على أن هناك محاولات متعمدة لخلق أمراض تهدد البشرية جمعاء.

ويضع الكاتب إستراتيجية تسير في ثلاث مراحل من أجل الحد من المخاطر؛ أولها: الحفاظ على الأمن الوجودي، ويتعلق بتقليل إجمالي المخاطر الوجودية بأكبر عدد ممكن من النقاط المئوية، والوصول إلى نقطة آمنة تنخفض فيها المخاطر البشرية من أجل الحفاظ على الإنسانية، ويتطلب ذلك تغيرات على المدى القريب في مؤسساتنا. ومن الأفكار الرئيسة التي تحفز الأمن الوجودي أنه "لا يوجد عقبات كبيرة أمام البشرية دامت لفترة طويلة". ثانيا: التحقق من إمكاناتنا وذلك لا يتطلب التنبؤ بالمستقبل بقدر ما يتطلب أن نأخذ المخاطر الجديدة على محمل الجد وإدارتها بنجاح أو تجنبها بالكامل، وقد يكون هدفا مستحيلا، وقد تؤدي محاولات تحقيقه إلى نتائج عكسية. إن الاستمرار في تقليل المخاطر تدريجيًّا مع مرور القرون، هو الطريقة المثلى لجعل المخاطر الإجمالية على مستقبلنا بأكمله تظل صغيرة، ويمكننا اعتبار الحفاظ على إمكاناتنا شكلاً من أشكال الاستدامة الوجودية. ثالثا: التأمل الطويل يجعل الفشل مستحيلا، ويمكننا العمل على هذه المسارات بالتوازي، مع تكريس بعض جهودنا للحد من المخاطر الوشيكة والبعض الآخر لبناء القدرات والمؤسسات.

يُواجه فهم الكوارث والتنبؤ والتعامل مع المخاطر الوجودية ومنعها عدة تحديات؛ منها: أننا لا يمكننا الاعتماد على "الحدس"؛ فالكوارث لا تحدث إلا مرة واحدة على مدى آلاف السنين، فكيف لإحساسنا البديهي أن يتوقع أحداث نادرة جدًا، كما أننا لا نستطيع تحمل الفشل ولو مرة واحدة، مما يقلل من قدرتنا على التعلم من المحاولة والخطأ، وغالبا ما تدير الإنسانية المخاطر من خلال الاعتماد على التجربة والخطأ، فتوسع نطاق الاستثمار بناءً على الأضرار التي شهدتها سابقا، لكن نهج التجربة والخطأ التفاعلي قد يصلح في المخاطر الصغيرة والمتوسطة المدى، ولا يصلح على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بالمخاطر الوجودية؛ فهي تحتاج إلى اتخاذ تدابير استباقية، ذات تكاليف كبيرة، وأحيانًا لايكون يكون واضحا ما إذا كانت المخاطر حقيقية، أو ما إذا كانت تلك الإجراءات ستعالجها. يتطلب هذا الإجراء تنسيقًا سريعًا بين العديد من دول العالم أو جميعها، وقد يتعيَّن القيام بذلك ونحن لا نعلم ما إذا كانت إجراءاتنا المكلفة قد ساعدت حقًا. سيتطلب هذا في نهاية المطاف مؤسسات جديدة مليئة بالأشخاص المتحمسين ممن يتحلون بالعقل والحكم السليم، مدعومين بميزانية كبيرة ونفوذ حقيقي على السياسة، وهذه ظروف صعبة للغاية لصنع السياسات السليمة، وربما تتجاوز قدرات حتى أفضل المؤسسات أداءً اليوم، لكن هذا هو الوضع الذي نحن فيه، وسنحتاج إلى مواجهته. هناك حاجة ملحة لتحسين قدراتنا المؤسسية لتلبية هذه المطالب، والتحدي الثالث هو المعرفة؛ لا نستطيع وضع الاحتمالات طويلة المدى لوجود مخاطر وجودية. ورغم ذلك علينا أن نتخذ قرارات ذات أهمية بالغة دون الاستناد إلى احتمالات قوية وهذا يثير صعوبات كبيرة في كيفية تشكيل تقديرات احتمالية لاستخدامها في صنع القرار. تتجلى هذه المشكلة بالفعل في أبحاث تغير المناخ وتسبب صعوبات كبيرة في وضع السياسات، كما قال كارل ساجان: "النظريات التي تتضمن نهاية العالم ليست قابلة للتحقق التجريبي - أو على الأقل، ليس أكثر من مرة".

يجب علينا معالجة هذه التحديات بالتفكير الواضح والدقيق، مُسترشدين برؤية إيجابية للمستقبل البعيد الذي نحاول حمايته، فلا يمكننا البقاء على قيد الحياة لعدة قرون بمخاطر كهذه. حماية الإنسانية منفعة عامة عالمية؛ مما يخلق الحاجة إلى تنسيق دولي بشأن المخاطر الوجودية، والمشاركة في تكاليف السياسات كما نتشارك في الفوائد، فقد تعمل الدول أحيانًا من أجل المصلحة الأكبر للبشرية جمعاء.

لقد تخلفت الحكمة البشرية عن ركب التقدم بشكل كبير، وهناك فجوة تتسع بين القوة والحكمة. نحتاج لاكتساب هذه الحكمة للوصول إلى الثورة الأخلاقية، ولأن اكتساب الحكمة أو بدء ثورة أخلاقية يستغرق بعض الوقت، فيجب أن نبدأ الآن. يكفي هذا المدى الزمني لإصلاح الضرر الذي ألحقناه بالأرض. في غضون آلاف السنين سوف تتلاشى جميع النفايات الحالية تقريبًا، إذا تمكَّنا من التوقف عن إضافة تلوث جديد، فستكون المحيطات والغابات خالية من العيوب مرة أخرى. في غضون مائة ألف عام، ستقوم الأنظمة الطبيعية للأرض بتنظيف غلافنا الجوي بما يزيد على تسعين في المائة من الكربون الذي أطلقناه، تاركين المناخ متوازنا، ويمكننا أن نتطلع إلى العيش معظم أيامنا في عالم خالٍ من ندوب الأوقات غير الناضجة.

تظهر المخاطر نتيجة العمل البشري، وعلى البشر أن يتصدوا لها، فبقاء البشرية على قيد الحياة بعد هذا العصر هو خيار البشرية ذاتها، لكنها مهمة ليست سهلة، وتتوقف على السرعة التي يمكن أن نفهم بها قبول مسؤوليات جديدة. تتعرض البشرية لأخطار متزايدة لا يمكن تحملها في المستقبل، مما يخضعها لاختبار طويل على مدى القرون القليلة المقبلة، وإما أن تعمل بشكل حاسم لحماية نفسها، وإمكاناتها على المدى الطويل، أو ستضيع إلى الأبد.

--------------------

- الكتاب: "الهاوية.. المخاطر الوجودية ومستقبل الإنسانية".

- المؤلف: توبي أورد.

- الناشر: "هاشيت، نيويورك، 2020، بالإنجليزية.

أخبار ذات صلة