جورجيو أجامبن
علي الرواحي
يتطرق الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبن في هذا العمل إلى مواضيع تبدو مُتفرقة، غير أن ما يجمع بينها كما يقول في المُقدمة القصيرة جدًا، هو الإمكانية والسلطة أو القوة، ذلك أنَّ هذا العمل المكون من خمسة فصول، عبارة عن مُحاضرات ألقاها في معهد ميندريسيو للآثار الواقعة بين الحدود الإيطالية والسويسرية.
الفصل الأول المعنون بأركيولوجيا العمل الفني يستمد رؤيته من فكرة أنَّه عبر طريق الأركيولوجيا أو علم الآثار من المُمكن الوصول إلى الحاضر، وذلك بالعودة لمفهوم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يشير إلى أنَّ التحقق من الماضي لا يعني شيئاً سوى استنطاق الماضي مُباشرة لفهم الحاضر، من وجهة النظر الأوروبية التي يُشدد عليها أجامبن هنا، حيث إنَّ وجهة النظر الأوروبية هذه تعود إلى افتراض ضمني، ومباشر، وبشكل خاص في الماضي، إلى وجود اختلافات جذرية، سياسية، دينية، واقتصادية، تتباين عن الآسيويين، والأمريكان.
فبالعودة إلى الكثير من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، وبشكل خاص المفكر الفرنسي الجنسية والروسي الأصل إلكسندر كوجيف، الذي قال بأنَّ الإنسان وصل إلى نهاية التاريخ، عن طريق جانبين أو مسارين مختلفين: الوصول إلى ما بعد الحيونة التاريخية والتي تجسدت في الحلم الأمريكي أو الطريقة الأمريكية في الحياة، في حين أنَّ الجانب الثاني تجسد في اليابان التي واصلت الاحتفال بطقوس الشاي وتعزيزها دونما وجود معنى تاريخي خلفها.
وما بين الجانبين الأمريكي والياباني حسب المعاني السابقة، تقدم أوروبا نفسها كبديل ثقافي، حاسم، ومصيري، وبشكل خاص بعد انتشار مقولة نهاية التاريخ، ذلك لأنها تمتلك المقدرة على مُواجهة نفسها، من خلال تاريخها، وخلق تاريخ آخر جديد، ومسار جديد.
ولأجل ذلك، فإنَّ الأزمة التي تمر بها أوروبا يدل عليها تفكك الجامعات والمؤسسات من جهة، وتزايد الاستياء الثقافي من الجهة الأخرى، ولا تعتبر أزمة اقتصادية، بقدر ما هي أزمة مع الماضي، وتعايش القيم القديمة مع الحاضر، الأمر الذي جعل الكثير من المؤسسات المختلفة كالجامعات والمتاحف تُعبر عن إشكالية ثقافية. وهو ما أثار سؤالا مهما حول أين يكمن مكان الفن في الوقت الحاضر؟
إنَّ تعبير أركيولوجيا العمل الفني يُشير وبشكل واضح إلى وجود مُشكلة ينبغي مُعالجتها والبحث فيها، وذلك بالاستعانة بالفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتنغشتاين حيث إنَّ الإشكالية تكمن في الكلمات، منها على سبيل المثال معنى كلمة "عمل" و معنى كلمة "فن".
فبالعودة إلى عام 1967م، وهو العام الذي أصدر فيه الباحث الشاب روبرت كلاين عملا حول كسوف أو تراجع العمل الفني، نجد أنه هاجم في كتابه الكثير من الفنانين الطلائعيين في القرن العشرين الذين حسب تعبيره ليسوا كذلك، وأعمالهم تخضع لمنطق العرض والطلب. فإذا كانت الأعمال اليوم أنشطة بدون عمل، حتى ولو أنها تهدم نفسها بنفسها عن طريق وضع سعر لكل هذه الأعمال من جهة، ولأنها منتجات بدون تفكير عميق من الجهة الأخرى، فإنِّه من الضروري العودة للأعمال الإغريقية الكلاسيكية، وتحديدا إلى أرسطو وذلك للإجابة عن نفس السؤال المطروح أعلاه، وبشكل خاص في كتابه الميتافيزيقا الذي كرسه للحديث عن إشكاليات الفعل وإمكانياته.
في الفصل الثاني من هذا العمل، والمعنون ما هو فعل الخلق، يعود أجامبن إلى مُحاضرة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في عام 1987م، حيث إنَّ تعريف هذا الأخير لفعل الخلق يوازي فعل المقاومة، وفي المقام الأول مقاومة الموت، ومقاومة البرادايغم أو النموذج الفكري والتحليلي السائد تجاه المعلومات والبيانات، وتحديدا استعمال السلطة والذي أطلق عليه "السيطرة على المجتمعات"، وذلك بشكل ٍ مُغاير عن طرح ميشيل فوكو لهذا الموضوع. فكل فعل للخلق يتضمن فعلاً للمقاومة بطريقة أو بأخرى، فعلى سبيل المثال – يقول دولوز- إنَّ موسيقى باخ تتضمن فعلا للمقاومة ضد تدنيس المقدس الروحي. كما يُشير فعل المقاومة بشكل مستمر إلى إمكانيات الحياة الحُرة تجاه القدرات المسجونة، أو المُساء إليها.
في هذا الفصل يسعى أجامبن إلى البحث في مقولة دولوز عن المسكوت عنه، أو تلك الأفكار التي لم تٌقل حول فعل الخلق، وذلك من الجانب المعماري أو الفني في هذا الفعل المثال حيث نجد أن ثيولوجيا العصور الوسطى إبان شرحها لهذا الفعل، قد عادت إلى مثال استخدمه الرواقيون في الفترة الإغريقية، وهذا ما شرحه توما الأكويني، حيث فرّق بين الخلق من العدم الذي يحيل إلى القدرة الإلهية، والخلق المادي والذي يحيل إلى الفعل البشري في المقابل، وهو ما يحمل بذور الانتقال في النمط الفكري والتحليلي للعمل الأدبي والفني، الأمر الذي جعل أجامبن يفُضل استخدام مصطلح الإنتاج عوضاً عن الالتباس السابق، والغموض المحيط بفعل الخلق. إن فهم المُقاومة كمقابل أو معارض للقوة الخارجية يبدو غير مُفيد، وغير عملي لفهم هذا الفعل؛ ففي الفسلفة الغربية نجد أنَّ مفهوم الإمكانية له تاريخ طويل يرجع إلى أرسطو، فهو يُقابل ويربط في نفس الوقت الإمكانية مع الفعل، في الجانبين الفيزيائي والميتافيزيقي على حد سواء، في فلسفته اللاحقة، أو فلسفة العصور الوسطى والعلم الحديث. غير أنَّ الإمكانية تشير بدرجة كبيرة إلى توقيف الفعل، فهي بهذا المعنى ليست البوابة الأكيدة للفعل، بل تترك الباب موارباً، ولذلك فهي تبقى في حالة الاحتمال.
بهذا المعنى، من الممكن فهم مقولة دولوز الافتتاحية حول العلاقة بين الخلق أو الإبداع والمقاومة، ذلك أنَّ كل فعل للخلق يرتبط بدرجة أو بأخرى بالمقاومة، والتي تأتي من الفعل الإغريقي (سيستو)، التي تعني أن تتوقف، أو تقوم بتعليق، أو المحافظة على شيء ما، أو وضع ما، حيث من الممكن سحب هذا المفهوم خارج النطاق الفلسفي التجريدي إلى الجانب الاجتماعي عن طريق عدم الانجرار وراء القطيع، واتخاذ موقف مما يحدث في السياقات المجاورة، لأن تبني وجهة نظر خارج المجموعة ليس بالأمر السهل أو الهين.
في الفصل اللاحق، يتطرق أجامبن إلى معنى القيادة أو الأمر، حيث إنها تشير لدى الإغريق القدامى لمعنيين مختلفين مثل الكثير من الألفاظ المتداولة، حيث يذهب المعنى الأول إلى البداية، في حين أن المعنى الثاني يشير إلى أن تكون قائدا أو تتولى القيادة. وبالعودة إلى التوراة عن طريق الترجمة الإغريقية في القرن الثالث قبل الميلاد، والذي يبدأ بعبارة افتتاحية تشير إلى أنه في البدء خلق الله الجنة والأرض، ولكن ذلك تم بواسطة الكلمة، أو فعل الأمر، حيث إن أجامبن يقترح هنا تعديلاً لهذه الترجمة من "في البدء كانت الكلمة" إلى "في البدء كان الأمر". بالإضافة لذلك، فإنِّه من المهم لفت الانتباه هنا إلى أنه – وحسب أجامبن – فإن كلمة الأصل تشير في الثقافة الغربية إلى الأمر، ففي البداية دائماً وكمفهوم تذهب إلى الحُكم، والأمر.
وفي هذا السياق، فإنَّ التفكير بشكل حاسم في وظائف مفهوم البداية، أو البدء حسب تفكير وأطروحات هايدغر، الفيلسوف الألماني، نجد أنَّ هناك بدايات لا يُمكن أن تصبح من الماضي، فهي لا تتوقف عن أن تصبح من الحاضر، لأنها تتحكم، أو تُحدد تاريخ الوجود. حيث إنَّ كلمة التاريخ وحسب أصل الكلمة الألمانية، وحسب الاستخدام الهايدغري، تشير إلى النقل، أو الإرسال، أو بتصريف من تصاريفها تشير إلى الإيمان.
في فصل ٍ آخر، يذهب هذا العمل للحديث عن الرأسمالية كديانة، ويشير إلى عنوان حاسم، ومهم للفيلسوف الألماني فالتر بنجامين والذي كتبه في عام 1921م، ونُشر بعد عقود من تاريخ كتابته، حيث يعود في مُستهل هذا الفصل وكمدخل لهذا السياق، إلى العام 1971م، عندما أعلنت الحكومة الأمريكية مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، عن تعليق التحويل الدولي المباشر للدولار الأمريكي إلى الذهب والتي عُرفت لاحقاً باسم "صدمة نيكسون"، وذلك لمُواجهة التضخم المتزايد في الولايات المتحدة في تلك الفترة. فبحسب عمل فالتر بنيامين المُشار إليه، فإنَّ الرأسمالية لا تحضر وبشكل ٍ مغاير لرؤى ومقولات ماكس فيبر، والذي ذهب إلى أنَّ الرأسمالية هي علمنة للقيم البروتستانتية، بل تعتبر – كما يذهب بنجامين – في جوهرها كظاهرة دينية تطورت من خلال القيم المسيحية بشكلٍ هامشي أو متطفل كما هو الحال في الحداثة أيضاً والتي تتحدد بثلاث خصائص مهمة، وفارقة.
ففي المقام الأول، نجد أنها ديانة طقوسية، فكل شيء يحمل معه مرجعيات مختلفة. والمقام الثاني، أن هذه الطقوس دائمة، ومستمرة، وليست مُؤقتة، وذلك من خلال الاحتفال ببعض أيام الأعياد، التي نجدها في أيام نهايات الأسبوع، أو في المقابل أيام العمل الرسمي في بقية أيام الأسبوع، وهو ما نراه في الاحتفال بيوم العُمّال الذي يشير إلى هذه الطقوسية المستمرة والعميقة. ثالثاً، نجد أن الطقوس الرأسمالية لا تعتبر كفّارة، أو بمثابة تضحية أو فداء لذنب معين سابق، بل كخطيئة بحد ذاتها. فالرأسمالية والكلام لفالتر بنجامين أول مثال على طقوس تخلق الشعور بالذنب، بدون كفارة، مما يجعلها مستمرة، وعالمية في نفس الوقت. وهي بهذا المعنى، لا تشير إلى التكفير، بقدر ما تُشير إلى عقدة الذنب المتأصلة بالمعنى الديني المسيحي، ولا تذهب إلى الأمل بقدر ما تشير إلى التدمير، فهي لا تطمح إلى نقل العالم وتحويله لعالمٍ أفضل، بل نشر الإحباط قدر الإمكان، وهذا ما نجده واضحاً في ثلاثة من أهم فلاسفة الحداثة: نيتشه، وماركس، وفرويد، في نقدهم العميق لهذه الظاهرة.
علاوة على ذلك، من الضروري أخذ أطروحة فالتر بنجامين بكل جدية، ومُناقشتها لهدف نقدها، أو تطويرها، كما يقول أجامبن، فإذا كانت الرأسمالية قد تحولت إلى ديانة، فكيف يمكن فهم تعريفها للإيمان؟ وما هي مُعتقداتها؟ وما هي مع الاحترم لهذا الإيمان تلميحات إعلان نيكسون؟
بالرجوع إلى ديفيد فلوسر النمساوي الأصل وهو المُختص في علم الأديان، نجده في بحثه عن الاستخدامات الدينية لكلمة "إيمان"، والتي أعادته لمقولة هامة، ومفصلية في التراث العبري تفيد بأنَّ الإيمان هو جوهر الأشياء التي نأملها، والتي تمنحنا واقعية الحياة والثقة بها، وذلك من خلال الكلمة، والاعتقاد. فكلمة الائتمان المتداولة حالياً في المعاملات المصرفية، تشير في أصلها اللاتيني إلى النمط الاعتقادي، والإيماني، عندما يتعلق الأمر بتأسيس علاقة مع طرف يحتاج للحماية، أو إقراضه لبعض المال، والتي تضمن الولاء الشخصي أو الدَّين، أو طلب الرحمة منه، والتي تعود عليه كضمانة لدعمه.
وإذا كانت فرضية فالتر بنجامين لها وجاهتها، فإنِّها تشير إلى وجود علاقة بين الرأسمالية والمسيحية التي تمنح هذه العلاقة الثقة، والتأكيد أنَّ هذا الطقس متحرر من كل المواضيع، ومذنب بدون خطيئة، أو من كل إمكانية للتكفير أيضاً، لأنه من وجهة النظر الإيمانية التقليدية، فإنَّ الرأسمالية بدون موضوع، فهي تعتقد بالإيمان النقي، والمباشر، أو الائتمان المباشر، والتي تتجسد في المال، والنقود. وهذا يعني أنَّ البنك أو المصرف ليس شيئاً آخر سوى آلة لتفريخ، وإنتاج، وإدارة الائتمان، الذي أخذ مكانة المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة، والتي تُدير العمليات الائتمانية، بما تضمن معالجة، وإدارة الإيمان، المقدس، أو الثقة غير المؤتمنة.
ولكن، مالذي يعنيه تعليق تحويل الذهب إلى الدولار من الناحية الدينية؟ يشير هذا الحدث بحسب القراءة التي يطرحها أجامبن، وفي سياق الحديث عن ديانة الرأسمالية إلى واقعة العجل الذهبي للنبي موسى، والتي ساهمت في ترسيخ وتثبيت العقيدة المُجمع عليها في تلك المرحلة، حيث إنها كانت حاسمة للتقدم باتجاه تنقية هذا الإيمان. غير أنه في سياق المال، والائتمان، نجد أنها تحررت من كل مرجعية خارجية عنها، وألغت أي صلة صنمية لها مع الذهب، مما جعلها تقوم بنفسها مقام الصنم، والمعبود. فالائتمان في هذا السياق، وجود غير مادي، حيث يعتبر محاكاة مكتملة الأركان للإيمان كما ورد سابقاً، الذي يفيد بوجود الأمل في الأشياء. ولذلك نجد أن النقود هي الإيمان بصيغته الجديدة، فهي التي أسست لديانة جديدة، مليئة بالأمل، والرجاء، والتي تمَّ ترجمتها من الجانب الديني، والنظري، إلى الجانب السِلعي، كما نجده في البضائع، والسلع التي تُباع في الأسواق.
فيما يتعلق بالتشابه بين النقود واللغة، نجد الشاعر الألماني جوته يذهب إلى أنَّ قيمة الكلمات موازية لقيمة النقود، وهي مقولة شفافة، وواقعية، غير أنَّه إذا أخذنا هذه المقولة على محمل الجد نجد أنَّها تحيلنا إلى عوالم أعمق من هذه العلاقة، فالنقود تحيل إلى علاقة تأسيسية بين الأشياء واعتبارها كسلع، عن طريق التعامل معها بشكل تجاري، في حين أنَّ اللغة تحيل الأشياء إلى مواضيع تُقال ويتم تداولها، ويتم التواصل معها. وفي الحالتين فإننا أمام تحول جذري قد طال المال من جهة، واللغة من الجهة الأخرى، الأمر الذي يجعل الصلة بينهما وثيقة أكثر من أي وقت مضى.
--------------------------------------------------------------------
الكتاب: الخلق والفوضى: العمل الفني والديانة الرأسمالية.
المؤلف: جورجيو أجامبن
الناشر: Stanford University Press,2019
عدد الصفحات: 104
لغة الكتاب: الإنجليزية
