جذور علم الآثار بين العلم والأيديولوجيا

جذور.jpg

جان بول ديمول

سعيد بوكرامي

ما الحاجة إلى علم الآثار؟ لا يُوجد شخص لم يفتنه، في وقت من الأوقات، علم الآثار وعوالمه المحفوفة بالحقائق والأسرار، كما يعتبر أحد التخصصات التي يحلم بها بعض الاشخاص المولعين بالتاريخ وجذور الحضارات وتشكل مجتمعاتها ومعمارها وثقافتها، ولكن هذه الرغبة نادرا ما تتحقق. والدليل على ذلك قلة المنتسبين إلى هذا العلم الهامشي على مستوى التوجيه المهني والدرس الأكاديمي، رغم ما يشكله من أهمية قصوى لفهم إنسانيتنا وماضينا وهويتنا لمواجهة جنون التدمير الذي يتهددنا.

إنَّ علم الآثار في الأساس فضُول بشري في كل المجتمعات وبحث عن سؤال أصل: العالم، والبشر... وللإجابة عن هذا السؤال الوجودي والمعرفي، ولإيضاح هذه الألغاز، استبدل علم الآثار، منذ القرن التاسع عشر تدريجيًّا أسرار الحضارات القديمة بدلائل علمية، وحقائق تاريخية، مُبرِزا بذلك مهمته الأساسية: فقد أخذ على عاتقه إعادة بناء الماضي والأراضي والشرعية التاريخية لكل أمة.

 

هذا ما يحاول أن يوضحه كتاب "جذور علم الآثار"؛ حيث يقدم عالم الآثار جان بول ديمول عرضا مفصلا عن الوظيفة المزدوجة لهذا التخصص العلمي من جهة، والأيديولوجي من جهة أخرى، مع إبراز الحدود الضبابية بينهما، في بعض الأحيان. ويتَّضح ذلك من خلال المناقشات الأكاديمية حول تدريس التاريخ وعلاقته بالهُوية الوطنية، التي تميزت في مناسبات عديدة بنوع من التلاعب في التاريخ لاستغلاله في الخطاب السياسي والإعلام الأيديولوجي.

كما يُقدم الكتاب أمثلة عن الطريقة التي يعمل بها علم الآثار في العديد من بلدان العالم؛ سواء في تفسيراته التاريخية أو في تنفيذه على أرض الواقع، مع الإشارة إلى تأثره السلبي المتزايد من قبل الأيديولوجيات الليبرالية المتشددة للمنافسة التجارية على حساب الهوية الثقافية. وهكذا سنرى، في حالة فرنسا بالتحديد، كيف أن التقارب بين المصالح الاقتصادية قصيرة المدى، والأيديولوجية الليبرالية، وأيضًا الفشل الإداري، يعرض للخطر مشاريع إنقاذ التراث الأثري المهدّد بالدمار والضياع. ويقدم الكاتب مثالا جليا عن ذلك، ففي سبتمبر 2019، فُتح تحقيق حول "تدهور أو تدمير التراث الأثري"، وفيه إشارة إلى أن السبب يعود إلى تنفيذ أعمال الميناء دون حفريات وقائية على الموقع الأثري البحري في بورتوس فينيريس. هذه الحالة ليست حالة معزولة، فهي تذكر بأهمية علم الآثار في الحفاظ على التراث الوطني. هذا التخصص، غير المعروف والذي يثير الانبهار، هو اليوم في حالة اضطراب. وبذلك يطلق جان بول ديمول صرخة أخرى من القلق بشأن الأخطار التي تتهدد علم الآثار (وخاصة علم الآثار الوقائي) والتاريخ، بسبب تحول سياسات التراث العام، التي صارت أقل تركيزًا على تعزيز وحماية التراث لصالح منطق السوق. يعود الكاتب إلى التاريخ السياسي الطويل لعلم الآثار الوقائي بينما يحذر من خطر إنكار ماضينا من خلال الفشل في حماية مآثره. لذلك يعد الكتاب بيانًا نقديًا يعبر عن موقفه المعارض لسياسات التراث الحالية.

ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام رئيسية؛ يركز الأول على الوظيفة المزدوجة لعلم الآثار، من حيث هو تخصص علمي، يسعى لمعرفة الماضي ودعم الوظائف الأيديولوجية. ويتناول القسم الثاني علم الآثار في العالم فيه يدرس الطريقة التي يُعَطِّل بها هذا النظام السياسات العامة أو يخضع لها. أما القسم الأخير، فيعالج مسألة الخطر الذي يهدد علم الآثار في فرنسا اليوم في مواجهة المصالح والأيديولوجيات الاقتصادية.

ويوظف جان بول ديمول العديد من الأمثلة الموثقة جيدًا، لكي يوضح أولاً كيف أن الخطابات السياسية أو الأحداث الثقافية أو الفعاليات الإعلامية كانت تنفي على مدى العقود الماضية مساحات كاملة من تاريخ الأراضي الفرنسية. وتركز بشكل خاص على فكرة أن فرنسا لم تشهد في القرن الخامس عشر غزوا خارجيا أو وصول سكان مهاجرين. ثم طورت هذه الفكرة لتصير مذهبا سياسيا يستغل من قبل الحركات القومية ضد الأدلة الأثرية والمصادر التاريخية مما أشاع حقيقة خطابا مخادعا يتحدث عن فرنسا كمنطقة حدودية راسخة لقرون، يقطنها سكان متجانسون. يبين الكاتب أن العناصر الأثرية والأحداث التاريخية يتم التلاعب بها بانتظام لأغراض سياسية أو أيديولوجية أو مالية. وهذه هي الحال، على سبيل المثال، مع "خاتم جان دارك" في حديقة بوي دو فو. في العام 2016، أضافت مدينة الملاهي الشهيرة خاتما كان ينتمي إلى جان دارك إلى مجموع مقتنياتها. ولكن، بعيدًا عن الرغبة في ضمان القيمة التاريخية للتحفة، كان الهدف ماليًا قبل كل شيء، لأنه كان يهدف إلى زيادة جاذبية الأماكن بفضل "شخصية عظيمة" في تاريخ فرنسا. يتعرض علم الآثار أيضًا إلى إساءة استخدامه عندما يتم تلفيق مثل هذه الحالات بواسطة وسائل الإعلام التي تفضل صخب التلفزيون على بث برامج علمية رصينة، يمكن استخدامها لتفكيك الأحكام المسبقة. ومن بين الحالات التي استشهد بها جان بول ديمول: "موقع أليسيا" حيث فُتح "متحف الحديقة" على الموقع المعترف به من قبل المجتمع العلمي كمعلمة أثرية؛ مما أثار خلافات شديدة وجدلا واسعا نشر في وسائل الإعلام. وفي محاولة لدعم ملاحظاته، يعود المؤلف إلى مكانة علم الآثار الوقائي في مناطق مختلفة من العالم. وهذا ما سمح له بأن يثبت أن حجة "الدَّيْنِ العام" يقود الدول إلى خفض خدماتها العامة من أجل التحرك نحو تطبيق مخطط الخصخصة المعادية للمجتمع. إن علم الآثار، حسب جان بول ديمول، يعاني من السياسات الثقافية المتواطئة مع المسثتمرين في قطاع السياحة. وبالتالي لم تعد الآثار محصنة ضد هذا السياق الليبرالي الجارف الذي يشكل حاليا شغف الاتحاد الأوروبي، رغم ما يتخبط فيه من نتائج سياسته الاقتصادية السلبية.

وبذلك؛ أصبح علم الآثار في أوروبا ضحية علم الآثار التجاري. لقد جعل من الممكن الحديث عن مفهوم المنافسة في علم الآثار الوقائي، التي خلقت صراعا بين الشركات الخاصة والهيئات العامة، وهذا بالنسبة للمؤلف يشكل عائقا كبيرا لا يخدم المصالح العلمية ولا الهوية الثقافية. في الواقع، يؤدي هذا إلى تقييم الحفريات الوقائية فيما يتعلق بربحيتها أو إدارتها وفقًا للتكاليف، على حساب جودتها العلمية ومهمتها في حماية التراث الانساني المشترك. هذا هو الحال بشكل خاص في اليونان حيث تم تفكيك الخدمات الأثرية العامة في أعقاب الأزمة الاقتصادية لعام 2008 لصالح الشركات الخاصة. مع هذه الأخيرة، لم تعد الحفريات الوقائية تُنفذ إلا إذا كان صاحب المشروع على استعداد لدفع أجور للفرق الأثرية. وقد أثرت هذه الخصخصة نفسها على اليابان منذ عام 2000، والتي تضررت خدماتها الأثرية الإقليمية وانخفض اللجوء إلى علم الآثار الوقائي بشكل كبير. يعود جان بول ديمول أيضًا إلى المزيد من الأسس المفاهيمية عن نظرة النخبة العالمية التي يرى الكاتب أنها ما تزال تقوّض مفهوم الثقافة في خدمة الجميع مفضلة الاهتمام الدائم بما ستحققه من أرباح وهكذا، بتنا نشاهد داخل المتاحف الأوروبية صعود نوع من رعاة الثقافة الذي يتخذون في الغالب صفة مستشمرين، هدفهم الأساسي الترويج السياحي والاقتصادي. (كيف نأخذ بجدية سياسيا يحتج على تدمير موقع بالمير الأثري إذا كان قد عارض علانيةً علم الآثار الوقائي في فرنسا، والغرض منه هو الحفاظ على التراث الوطني؟ هذه مفارقة التعايش بين خطابين متناقضين، من ناحية تعزيز حماية التراث البعيد، ومن ناحية أخرى، تعريض التراث المحلي للخطر من خلال إضعاف الوسائل (القانونية والشرعية والمالية) للحماية - ص:280)، وهذا ما دفع جان بول دومول في الجزء الثالث والأخير إلى العودة مطولاً إلى التاريخ الاقتصادي والسياسي لعلم الآثار الوقائي في فرنسا، موضحا أن الأمر استغرق ثلاثين عامًا من التعبئة لعلماء الآثار للحصول على تطوير سياسة عامة لحماية التراث المطمور وإنشاء مؤسسة متخصصة، وهي المعهد الوطني للبحوث الأثرية الوقائية. لكن هذا القانون، الذي مُرّر في عام 2001، تم تقويضه في عام 2003، بسن قانون يحدد مبدأ المنافسة التجارية في الحفريات الأثرية. ورغم ذلك ما زال المعهد الوطني للبحوث الأثرية الوقائية والخدمات الأثرية الإقليمية الجهتين الوحيدتين القادرتين على القيام بتشخيص على الأرض يخضع لمشروع التهيؤ، ويمكن لصاحب المشروع اختيار الشخص الذي سيقوم بالحفريات الأثرية المطلوبة. لكن وصول جهات فاعلة جديدة إلى مواقع الحفريات أدى إلى تشويه علم الآثار الوقائي: لم يعد التنقيب منظمًا وفقًا للمبادئ العلمية وإنما وفق التطلعات التجارية. لم يعد تحديد خيارات المخطط على أساس الاهتمامات العلمية (تخصصات علماء الآثار) ولكن على أسس اقتصادية متمثلة في (تكاليف التنقيب).

ويبدو أنَّ المؤلف يُعاتب بشدة الأجهزة الفرنسية المسؤولة عن هذا التقصير؛ لأن المناقشات السياسية، وكذلك النصوص التشريعية، تفتقر إلى منظور علمي؛ لأنها وقبل كل شيء جزء من عملية أيديولوجية. وهكذا، على مدى العقود الماضية، ساد التشكيك في جدوى وجود علم الآثار الوقائي ومؤسسة المعهد الوطني للبحوث الأثرية الوقائية. لا يحاول جان بول ديمول إدانة علم الآثار التجاري كليا ولكن بدلا من ذلك يدافع عن أهمية هيكلة علم الآثار الوقائي بين الخدمات العامة والمنظمات الخاصة من أجل تنسيق الأساليب العلمية، وإنشاء خطط دراسية رئيسية وتنظيم نشر تقارير عن التنقيب توازي بين الطرق المنهجية التقليدية والحديثة. بالإضافة إلى ذلك، هناك اقتراح لتغيير طريقة تخصيص أعمال الحفريات؛ من خلال إعطاء السلطة لهيئة علمية وليس للمهيئ التجاري. ومع ذلك، فإنه يشكك بوضوح في تمويل شركات الحفريات الخاصة التي تسمح، من خلال الاستفادة من الإعانات الحكومية، لمساهميها بإثراء أنفسهم في حين أن علماء الآثار الذين يتقاضون أجورًا زهيدة ويعملون في ظروف صعبة للغاية، كما أن المعهد الوطني للبحوث الأثرية الوقائية يوجد اليوم في وضع اقتصادي غير مستقر بعد عدم إعادة تقييم الرسوم الضريبية على المعالم الأثرية. في الواقع، هذه الضريبة، التي يجب أن يدفعها كل "شخص عام أو خاص يخطط للقيام بعمل يمس الممتلكات تحت الأرض" لم تعد كافية من أجل تمويل التشخيصات الأثرية؛ وبالتالي لا تسمح للمعاهد الوطنية للبحوث الأثرية الوقائية كي تعمل بكفاءة واستمرارية.

لا يُمكن التوصية بقراءة هذه الدراسة القيّمة لجميع أولئك الذين يتساءلون كيف ولماذا يوجد علم الآثار، لأنَّ التحدي الكبير الذي يحمله الكاتب على عاتقه هو حماية التراث الإنساني بصفة عامة وفي كل البلدان. يستنتج جان بول ديمول خلاصة واضحة: "المنافسة التجارية في علم الآثار الوقائي توضح بطريقة كاريكاتورية كل سخافات -ومخاطر- الرؤية الاحتكارية والنفعية لليبريالية الجديدة التي تسعى للهيمنة على العالم" (ص:320) في ماضيه وحاضره ومستقبله. إذا كان هذا الكتاب لا يقدم أي شيء جديد عن التخصص الأكاديمي في حد ذاته، فإنه بالمقابل يناقش قضايا مهمة ومفيدة للغاية، خاصة بالنسبة للخريجين المستقبليين في علم الآثار، حول القضايا السياسية لعلم الآثار الوقائي وانتكاساته منذ اجتياحه من طرف المسثتمرين.

يكتسبُ علم الآثار أهمية كبيرة؛ فقد استفاد منذ عقود من مساهمة التقنيات والأساليب والاستدلالات الجديدة، لا سيما الناجمة عن التقدم في علوم الحياة والعلوم الطبيعية (المقاربة الجيولوجية الأثرية، والتحليلات الفيزيائية الكيميائية...وغيرهما). وهي الآن قادرة على إعادة بناء الأنشطة البشرية وكذلك المناظر الطبيعية أو المناخ عبر العصور المختلفة. كما أنَّ مجموع البيانات المتراكمة في العقود الأخيرة هو موضوع بحث معمق ومختلق يجدد معرفتنا. وبالتالي فإن ذلك كله يثري علم الآثار والمناقشات العلمية العظيمة حول الماضي وولادة وتطور جنسنا البشري، واستخدام الموارد الطبيعية، وتشكيل الهويات الثقافية، والحروب والصراعات والعنف الجماعي، وظواهر الهجرة، مما يساعد على إلقاء الضوء على الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لكل مجتمع، اليوم وغدا. لهذا؛ يجب إعطاؤه عناية خاصة لأنه يعيد الحقائق التاريخية المطمورة ويستعيد ذاكرة الحضارات المنسية، وهذا يثمن الثقافة المحلية ويمنحها إشعاعا ثقافيا وحضاريا إنسانيا ممتدا في الزمان المكان. إذن؛ لا بد من إعطاء علم الآثار قيمته العلمية والإستراتيجية لإعادة بناء تاريخ المجتمعات الماضية وتفاعلها مع بيئتها، وهذا سيمكننا نحن والأجيال القادمة من إثراء معرفتنا بأسلافنا الذين سبقونا، وفهم أفضل لعالمنا في الحاضر والمستقبل.

------------------------

- الكتاب: "جذور علم الآثار".

- المؤلف: جان بول ديمول.

- الناشر: دار لاديكوفيرت، فرنسا، 2020م.

- عدد الصفحات: 332 صفحة.

أخبار ذات صلة