أسماء القطيبي
يتناول الباحث وأستاذ الفكر السياسي ياسر قنصوة في مقاله (الشعبويات اليمينية القومية والدينية في العالم المعاصر، الأسباب والتداعيات) مصطلح الشعبوية بداية ودلالته، وكيف استطاع هذا المصطلح تجاوز الكثير من الأُطر والنظريات السياسية لصالح خطاب جديد يحمل طابعا دينيا أو قوميا بتأييد واسع من أطياف المُجتمع. ويطرح الباحث العديد من الأسئلة حول هذا الخطاب ومدى رسوخ قاعدته، وصلابة رهاناته مبدياً الكثير من المخاوف حول مدى إمكانية الشعبوية في الحفاظ على التعددية، واحترام الحريات، والرأي الآخر في المجتمع. مستعرضاً عدة نظريات تفسر أسباب صعود الشعبوية اليمينية مُقابل المُمارسة السياسية التقليدية.
نشأت الشعبوية لتكون الحركة المُضادة لما يُطلق عليه أصحاب الفكر الجديد (النخبوية) أي تحكم النخبة في الحياة السياسية للدولة. ويرى الشعبويون أنَّ النخب السياسية هي مجموعة متنفذين يعتلون أبراجاً عاجية، مما يجعلهم بعيدين كل البعد عن واقع المحكومين ومطالب الشارع. ولعل من أقدم هذه الحركات حركة "إرادة الشعب" في روسيا ، و"الحزب الشعبوي" في أمريكا في القرن التاسع عشر، فقد حمل مؤسسو هذه الحركات على عاتقهم المطالبة بحقوق الفئات الأكثر عرضة للاستضعاف كصغار المزارعين، واضعين أنفسهم في صراع مُباشر مع المنظومة السياسية التي يعدونها أقلية غير مهتمة بمصالح الشعب، بل إنِّها معيقة لتقدم المجتمع بسبب أطماعها الرأسمالية، وأطماع الشهرة والمكانة الاجتماعية الرفيعة. وغالباً فإنَّ الشعبوية تتخذ من الجانب الديني أو القومي عنصراً ثابتاً في تحديد هويتها، مضمنة إياها خطابات مُجلجلة وشعارات رنانة تحث النَّاس على الالتفاف حولها.
ويطرح الباحث ياسر قنصوة في المقال عدة إشكاليات تتعلق بمبادئ الشعبوية، فهو يتساءل مثلا عن مصير المهاجرين والأقليات في حال نجحت الشعبوية في الوصول للحكم لكونهم لاينتمون للحركة ولايعنيهم خطابها. وإذا سلمنا جدلاً بأن الشعبوية تتسامى عن كل الاختلافات فإنها ولابد من أن تعين من يُمثل الشعب وبالتالي فإنَّ لهؤلاء الممثلين الأحقية في تحديد من هم الشعب؟ وماهي أولويات مطالبهم؟ والشعبويون عند هذه النقطة بالذات لا يختلفون عن النخب التي سعوا لإبعادها. كما يطرح الباحث إشكالية هامة تتمثل في قيم الشعب حيث يقول:" بناء على التصور الأخلاقي لفكرة الشعب فإنَّ الشعب لن يسمح بتعددية أخلاقية تسمح بالتنوع والتسامح، ومن ثم يتم فرض صورة وحدة الشعب الأخلاقية على نحو قسري، مع رصد كل التصورات والأفكار السياسية المتباينة واتهامها بالانحراف من منطلقات أخلاقية، مما يستدعي ضرورة إصلاحها ومعالجتها أو استئصالها إن لزم الأمر، حيث إنِّها تعد خروجًا عن المبادئ الأخلاقية الموحدة واللائقة بالشعب والوطنية الحقة من وجهة نظر شعبوية" ، ويبدو لي أنَّ الإشكاليات التي يطرحها الباحث حول الشعبوية نابعة من التخبط الذي يلحظه في الحركات الشعبوية القائمة على الحماس الجمعي العام، وهو ما يولد بالطبع الخوف من تنامي العنصرية وتضييق الحريات وتهميش الرأي الآخر من أجل الحفاظ على التأييد الشعبي. خاصة وأنَّ الشعبوية لاتحبذ الطرق السياسية التقليدية المُتمثلة بالبرلمانات والمجالس والتي يمكن أن تكون مؤشرا واضحا لمدى التقدم الحضاري، وفي نفس الوقت تعمل كسلطة رقابية، بينما غيابها سيسمح ربما لتمرير أهداف عن طريق شخصيات كاريزمية منحازة لآراء وأفكار معينة.
ورغم القلق الذي يبديه الباحث ياسر قنصوة حول صعود الشعبوية وتناميها في العالم المعاصر خاصة أوروبا، وسياسة الصوت الواحد الذي تعد به مقابل اليمين واليسار في السياسات التقليدية فإنِّه يتفهم هذا الإقبال الكبير نحو الشعبوية والتي يمكن تفسيرها من خلال ثلاث نظريات أولها نظرية الحرمان النسبي وهي ردة فعل فئات اجتماعية محددة جراء تجاهل مطالبها من النخب السياسية، فهي تقبل أي شيء عدا من يعتلون هرم العملية السياسية وبالتالي فإنَّ تأييدها للشعبوية هو رفض للخيار الآخر. أما النظرية الثانية فهي نظرية السياسة الجديدة وهي تعبر عن رغبة الشعب في تجربة نظام جديد عله يقدر على حل مشكلات اقتصادية واجتماعية لم تستطع الممارسات السياسية المتمثلة في الأحزاب حلها على مدى عقود. أما النظرية الأخيرة "نظرية الطلب الاجتماعي" فهي منطلقة من رغبة قطاعات كبيرة من المجتمع في الحفاظ على الهوية وقيم المجتمع ومبادئه وترى في الشعبوية طريقاً لذلك. وبالعودة للنظريات الثلاث فمن السهل ملاحظة أنها تضع آمالاً عريضة وتطلعات كبيرة حول الشعبوية، وتبدو الشعبوية المخرج الأخير والحل السحري خاصة لدى أولئك الذين يعولون عليها في الحفاظ على الهوية، وبالتالي فإنَّ بقاءها مرهون برضى المؤيدين الذين لا يملكون الأدوات المنطقية لقياس المؤشرات، بل يعتمدون على تجاربهم الشخصية ونظرتهم العامة للوضع. وهو ما قد يضع (الشعبويين السياسيين) في ضغط كبير يضطرهم لاتخاذ قرارات متسرعة من أجل مد الشارع بجرعات مُتواصلة من الرضا.
إنَّ صعود الشعبوية رغم كل المخاوف حولها دليل على ضعف المنظومة السياسية القائمة، أو ربما انتهاء صلاحيتها بعد عقود من إسهامها في التقدم الحضاري للأمم. وتنامي المطالبة بأنظمة شعبوية دليل على رغبة المجتمعات في المشاركة بشكل أكبر من أي وقت مضى في صنع القرارات خاصة، وأن السياسة لم تعد كما وصفها أفلاطون بأنها "شأن نخبة قليلة من الحكماء" بل صارت مُتاحة وقابلة للحوار والنقاش في الواقع وعبر الفضاء الإلكتروني بل صارت بعض النقاشات والحملات التي يُديرها العامة مؤثرة وحاسمة في اتخاذ القرارات في المجالس السياسية. وقد تكون الشعبوية لحداثتها تُعاني من بعض العراقيل سببها عدم وضوح المحددات لكنها بالتأكيد ستتخذ شكلها الواضح بمرور الزمن إذا ما حظيت بفرصتها في الحياة السياسية في عالمنا المعاصر.
