أحلام المنذرية
التفرقة والفتنة كالنَّار في الهشيم متى ما سكنت مجتمعاً أماتت تقدمه؛ لذلك جاء الإسلام كالبوصلة تحدد اتجاهات السير لإدارة مثل هذا النوع من المشكلات في المجتمع لضمان تقدمه. نتطرق في هذا المقال لأهم ما ذكره الكاتب كيان يحيى في بحثه "التفرق والفتنة ومُعالجتهما في الكتاب والسيرة النبوية" المنشور في مجلة التفاهم.
التفرق والفتنة في اللغة والاصطلاح:
(التفرق): مصدر على زنة (التَّفعُل)، من الفعل (تفرق يتفرق)، ومادته تدل على الفصل بين الشيئين. أما الفتنة: مصدر من الفعل (فتن، يفتن) والفتنة، العذاب وأن يفتن الله قوماً: أي يبتليهم، والفتن: ما يقع بين الناس من حروب.
التفرق والفتنة ومعالجتهما في الكتاب والسيرة النبوية
نصَّ ابن قيم الجوزية على أنَّ المراد بالفتنة إنما يعرف بالسياق والقرائن وبحسب ما أضيف إليه في مواضع ورودها، فقال: وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه، كقوله: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض)، وقول موسى:(إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء)، وهي بمعنى الاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام لون آخر.
تصاحب (التفرق) و(الفتنة) في الكتاب والسيرة النبوية
يحدد اللغويون المعاصرون وسائل تفسير المعنى في المعجمات بخمسة أنواع هي: التفسير بالمغايرة، والتفسير بالترجمة، والتفسير بالمصاحبة والتفسير بالسياق، والتفسير بالصورة. والذي يهمنا من هذه الوسائل التفسير بالمصاحبة الذي كتب عنه من علمائنا القدماء الجاحظ ،إذ قال: «وفي القرآن معانٍ لاتكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس»، بافتراض أن اللفظ يكتسب جزءا من معناه بمصاحبته لفظا آخر.
أمثلة تصاحبهما في الكتاب:
يذكر الكاتب عدة أمثلة نذكر منها قوله تعالى:(قال فإنِّا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري)، وقوله تعالى بعد ذلك: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي). فالتصاحب هنا صريح بين فتنة بني إسرائيل بعبادة العجل بعد ذهاب موسى عنهم للقاء ربه، وتفريق شملهم خشية هارون عليه السلام، فلم يزد على أن ذكرهم بأنهم إنما فتنوا بالعجل وأن ربهم هو الرحمن، فكان ما كان من عدم استجابتهم لدعوته وبقائهم على غوايتهم، فلما جاء موسى ورأى ضلالهم عاتبه بشدة، فاحتج عليه بخشيته، تفريق شملهم وكلمتهم، فكف عنه موسى عليه السلام. ويلحظ هنا أنَّ هارون لم يسكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل مارسهما بحكمة ودعوة بالتي هي أحسن، ولكن حين رأى خرقهم وإصرارهم على باطلهم خشي أن يؤدي الاستمرار في الإنكار عليهم إلى انفراط عقدهم وتبددهم.
أمثلة تصاحبهما في السيرة النبوية:
نذكر منها موقف الرماة المشهور، إذ نظم الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه جاعلا ظهورهم إلى جبل أحد ووجوههم تستقبل المدينة، وجعل خمسين من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير فوق جبل عينين المُقابل لأحد وقال لهم:(إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأنا لهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم). بيد أنَّ هؤلاء الرماة لما رأوا المُسلمين قد كشفوا المشركين عن المعسكر وركبوا ظهورهم يقتلون ويغنمون اختلفوا فيما بينهم، بشأن ترك مواقعهم للمشاركة في مطاردة العدو، وأخذ حصتهم من الغنائم، وهو ما مال إليه أغلب الرماة، وهو ما رآه قائد الرماة عبد الله بن جبير، فكان ما كان من تمرد الجنود على قائدهم وتركهم مواقعهم، والتحاقهم بسواد الجيش للمُشاركة في جمع الغنائم، وبقاء ابن جبير وحده على الجبل مع نفر دون العشرة بقوا في أماكنهم. وبذلك دارت الدائرة على المسلمين، وانقلب نصرهم إلى هزيمة بعد أن انتقضت صفوفهم وعمتهم الفوضى.
وسائل تعامل الكتاب والسيرة النبوية مع التفرق والفتنة قبل وقوعهما:
- الحفاظ على وحدة الصف: وحدة الأمة المُسلمة هي صمام الأمان لوجودها والضامن لديمومتها وعدم تفرقها، قوله تعالى:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا رب فاعبدون).
ب - إشاعة مفهوم التعددية: فالتعددية تنوع مؤسس على تميز وخصوصية، فهي لذلك لا يُمكن أن توجد إلا في مُقابلة الوحدة والمجتمع.على أن ما يهمنا في هذا المقام هو مفهوم التعددية الدينية وتكييفه الإسلامي، فلهذه العبارة معنيان: أما المعنى الأول فيغلب عليه الطابع الاجتماعي أو السياسي العام، وهو تعايش المعتقدات الدينية المتنوعة المختلفة والأديان بمفهومها الواسع في وقت واحد، مع بقاء مميزات كل منها وخصائصه. وأما المعنى الآخر، فهو أشيع في البيئات الغربية المهتمة بدراسات الدين وفلسفته، ويعبر عنه فيلسوف الدین جون هك بقوله: (اتضح لي من حضوري العرضي للعبادات في المسجد والكنيسة والمعبد أن الشيء نفسه في أساسه الذي يحدث في الكنيسة المسيحية يحدث فيها كلها؛ أعني أنَّ البشر يفتحون عقولهم لواقع إلهي أعلى، يعرف بأنَّه الخير وبأنه الآمر بالاستقامة وبالمحبة بين البشر).
ويضيف الكاتب أن المنظور الإسلامي للتعددية الدينية لا يقر تذويب الحقيقة وتمييعها، لكن في إطار التعايش مع الأديان الأخرى، الذي يتجاوز منطق العدل والإنصاف، ومن تجليات هذا المنظور تحريم الإكراه على العقيدة أو الدخول في الإسلام، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
ت - تثبيت مبدأ الوسطية:
ومما لا شك فيه أن الوسطية ضمانة للمجتمعات المسلمة من الانزلاق في بعض مظاهر الغلو، كاستسهال التكفير، وفي الوقت نفسه على عدم الانجرار إلى فتنة استسهال التكفير الكفيلة بتمزيق الأمة وتفريقها لشبهات عارضة، فالتكفير يُؤدي إلى استسهال سفك الدماء، وقيام الحرب الطاحنة.
ث - منهج التبين والتثبت: حرص الإسلام على تبنيه في مواجهة الأخبار والشائعات، إدراكاً منه لما للكلمة المنقولة من خطر قد يُؤدي إلى فتن لا يعلمها إلا الله.
ج - الأخذ بالظواهر وترك السرائر: يُعد الركون إلى الظواهر وعدم محاكمة البواطن مبدأ مكملاً لمنهج التبين والتثبت وامتدادا طبيعيا له، فعلى الأفراد والجماعات مراعاة صورة الدين وأهله لدى الوقوف طويلا أمام إغراءات الحكم على النيات وإملاءات اتهامها من غير بينة ولا دليل.
وسائل تعامل الكتاب والسيرة النبوية مع التفرق والفتنة بعد وقوعهما
أ- إدارة الأزمات واحتواؤها: لفظ (إدارة) يوحي بالمواجهة بالصرامة حينا وباللين حينا آخر، أو من صرف أطراف التحدي إلى وجهة أخرى مما يمكن أن يسبب فتنة أو أزمة.
- إصلاح ذات البين: فالإسلام دين واقعي لا ينظر بمثالية إلى الأمور، ولذلك تجده يفترض أحداثا ووقائع يمكن أن يكون المسلمون أطرافا فيها، على الرغم من كراهة الإسلام لذلك، وتشديده على عدم وقوعه، ولذلك تجده يفترض إصلاح ذات البين في حالتين خطيرتين، تتعلق إحداهما بوقائع يمكن أن تؤدي إلى هدم نواة الجماعة المسلمة الواحدة (الأسرة)، وتتعلق الأخرى بنشوب الحرب بين جماعتين اثنتين من المسلمين.
إنَّ قيام المُجتمعات على الفتن يؤدي إلى تفرقها وتمزقها ويحد من تطورها وتقدمها، وعلى كل واحد منِّا أن يقطع كل ما من شأنه أن يؤدي إليهما.
