المُشترك الإبراهيمي منطلقاً لائتلاف الأديان السماوية

فيصل الحضرمي

لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلا بوجود أخلاق عالمية تتضمنها تلك الأديان. تلك هي الأطروحة العامة للاهوتي الكاثوليكي هانز كينغ، أحد أبرز الداعين للحوار بين الأديان، وصولاً إلى تحقيق الائتلاف فيما بينها، وإرساء السلام الذي ينشده العالم. وهي الأطروحة التي تدور في فلكها مقالة الباحث اللبناني رضوان السيد، المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "الديانات الإبراهيمية من الاختلاف إلى الائتلاف".

يُكرس رضوان السيد مقالته المهمة لتتبع أبرز المحطات في الطريق الطويل الذي قطعه الحوار بين الديانات الإبراهيمية، مستهلاً إياها بالإشارة إلى حداثة تسمية "الديانات الإبراهيمية" التي لم تر النور إلا مع انتصاف القرن المنصرم، حيث راح المنفتحون من علماء اللاهوت الكاثوليك يدعون إلى التقاء أتباع الديانات السماوية الثلاث، المسيحية واليهودية والإسلام، تحت مظلة الإبراهيمية المشتركة فيما بينها. ومثّل مجمع الفاتيكان الثاني بين عامي 1962 و1965 ذروة هذه الدعوة على اعتبار أنَّ الاتفاق الحاصل بين الأديان الثلاثة في الأصل الإبراهيمي وأصول أخرى من شأنه فتح الحوار وتذليل العقبات التي تعترض جهود تحقيق السلام في العالم.

يخبرنا الكاتب أنَّ هذه الدعوة كان لها أثر إيجابي على المسلمين الذين لم يتوانوا في التفاعل معها انطلاقاً من كونها "هي دعوى القرآن الكريم ودعوته". كما أنها جاءت منسجمة مع تصور العرب للتاريخ، ومع اشتمال شعائرهم التعبدية على فريضة الحج التي يفد فيها المؤمنون على البيت الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل. وقد ثبّت النص القرآني إبراهيمية الإسلام في أكثر من آية، نذكر منها الآية السادسة والستين من سورة آل عمران: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مُسلماً وما كان من المشركين. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}.

ومنذ البداية توجه القرآن الكريم إلى أهل الكتاب اليهود والمسيحيين بخطاب ثنائي الصيغة يحضهم، من جهة، إلى العمل بالإبراهيمية كما وردت في كتبهم، متوسماً أن يكفل لهم ذلك الولوج إلى روح الإبراهيمية، ويسهل بالتالي عملية انفتاحهم على الإسلام. ويدعوهم، من جهة أخرى، إلى "إعلانٍ مشتركٍ" يرتكز على المنطلقات الإبراهيمية، ويتغاضى عما عداها من اختلافات، ليكون بمثابة اللبنة الأولى في مشروع "التوافق واللقاء".

نجد مصداق الصيغة الأولى في الآية الثامنة والستين من سورة المائدة: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين}. بينما تتجلى الصيغة الثانية في الآية الرابعة والستين من سورة آل عمران: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون}.

وبحسب الكاتب، فإن هاتين الصيغتين، الداعيتين إلى دين واحد في ظل المشترك الإبراهيمي، لم تجدا استجابة من أهل الكتاب الذين ستدور بينهم وبين متكلمي الإسلام جدالات طويلة لعدة قرون. وأساس المشكلة أن اليهودية، من جانبها، تحصر الدعوة الإبراهيمية على نفسها دون الدعوتين الأخريين. أما المسيحية فلم تر في الإسلام إلا هرطقةً عربيةً تهدف إلى استبدال المسيحية أو منع انتشارها بين ظهراني العرب.

إن كتابات يوحنا الدمشقي العائدة إلى العصر الأموي، وكتابات تيودور أبي قرة العائدة إلى العصر العباسي الأول، تقدمان الدليل على تزايد حدة الخلاف العقدي بين الأديان الثلاثة منذ السجالات الأولى في القرن الأول للهجرة. لقد أنكر الدمشقي انتماء الإسلام إلى الإبراهيمية، كما اتهمه بالدعوة إلى العنف والقول بالجبرية. ويرى بعض المؤرخين أن النقاش الإسلامي حول مسألة القدر في الفترة التاريخية نفسها يمكن عزوه جزئياً إلى تأثر المسلمين باتهام المسيحيين لهم بالجبرية. من جهتها، تزامنت كتابات تيودور أبي قرة مع ظهور واصل بن عطاء، مؤسس الاعتزال، وكان قد أخذ على عاتقه الرد على المسيحيين وبقية أتباع الفرق المخالفة للإسلام.

كما شكلت رسالة الجاحظ في الرد على النصارى سنة 252 هـ ورسائل القاسم بن إبراهيم والكندي الفيلسوف وكتابات أبي عيسى الوراق أبرز الأمثلة على الردود التي أسهم بها المسلمون في السجال المحتدم بين الأديان الثلاثة. هكذا، بحسب الكاتب، انتقل النقاش الجدالي من محاولة جمع أتباع الديانات الثلاث تحت مظلة الإبراهيمية، في صدر الإسلام، إلى نفي يهودية ونصرانية إبراهيم وإثبات إسلاميته، في العصر العباسي.

وقد تضمنت الردود الإسلامية على المسيحية أربع مسائل رئيسية تمثلت في طبيعة المسيح، والأقانيم، ورواية الأناجيل، ونظام الكهنوت المسيحي. وكانت الغاية من هذه الردود إثبات خروج المسيحية على الوحدانية وعلى المنطق السليم. بالمقابل، لم يتوان المفكرون المسيحيون عن الرد على شبهات المسلمين -مثلما فعل يحيى بن عدي في رده على الوراق- وإن كانت ردودهم مشوبة بالحذر، ويغلب عليها الدفاع لا الهجوم.

يرى كاتب المقالة أن الجدال العقدي ظل مستعراً بين أتباع الأديان الثلاثة، وأن الدفاع عن المشترك الإبراهيمي ظل غائباً عن ثقافة جميع الأطراف خلال فترة الاستعمار التي شهدها القرنان الماضيان. بل وأدى استيلاء الغرب المسيحي على بلدان العالم الإسلامي إلى ازدهار ثقافة الردود التي رأت في الاستعمار وجهاً مسيحياً تبشيرياً. كما أحيت الظروف المصاحبة للاستعمار في الذاكرة الإسلامية الأهوال التي شهدتها إبان الحروب الصليبية.

ورغم ما اعترى العلاقة بين الديانات الثلاث من صراعات عبر التاريخ، إلا أن العقود السبعة الماضية شهدت توجيه عدد من الكنائس البروتستانتية والمفكرين الكاثوليك والمستشرقين دعوات مختلفة للحوار مع المسلمين. وبحسب الكاتب، فإنه على الرغم من جميع المساعي التي بذلت في هذا السياق منذ خمسينيات القرن العشرين، إلا أن التحول من الحوار الشفاف بين الأديان السماوية إلى تحقيق الائتلاف فيما بينها لم يكتب له الحدوث بعد. والسبب، برأيه، عائد إلى ثلاثة عوائق، أولها: مسألة حصرية الخلاص في شخص المسيح، وثانيها: حدوث أمرين جللين، أحدهما ثقافي، والآخر استراتيجي، هما أطروحة صدام الحضارات، وهجوم القاعدة على الولايات المتحدة عام 2001، وثالثها: افتقاد المؤسسات الدينية والعلماء المسلمين للمبادرة.

ويدعو الكاتب في خاتمة مقالته للعودة إلى الأطروحة الإبراهيمية للقرآن، والتي يرى أن المسلمين قد تخلوا عنها "إلى حد بعيد"، وذلك في سبيل أن "تكون لنا حياة، وتكون حياةً أفضل".

أخبار ذات صلة