قيس الجهضمي
تُعتبر الدولة من الكيانات الجامعة للبشر، فقد حاول العلماء والمفكرون صياغة نماذج لهذه الدولة التي يعيش فيها النَّاس محققة لهم السعادة والرفاهية، وبالمقابل هم يقومون بالعمل والإنتاج، لذا يتناول الكاتب رشيد الحاج صالح في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم بعنوان "مقولات ومقاييس النجاح والازدهار في الدول المعاصرة" قراءة للدولة المعاصرة وأدوارها وسُبل تحقيقها لأهدافها والازدهار لشعوبها، فهو يرى أن "الدولة المُعاصرة ليست أكثر من نتاج للأزمات التي مرَّت بها في مراحل تشكلها المتعددة"، و"أن السياسة في القرن العشرين ليست سوى جدل حول دور الدولة المتنازع عليه، بين الفاعلين السياسيين في كل بلد". لذلك، تركز الجدل في كيفية تعاملها مع القضايا الرئيسية مثل: مشكلات التضخم، وفرص العمل، وتحسين نوعية التعليم، وحجم القطاع الحكومي، والضرائب.
يرى الكاتب أن "نسبة الضرائب، ورفع مستوى الأجور، وعدد ساعات العمل، وحقوق العمال والنقابات، وتنظيم وضع الشركات الكبرى، والبطالة، والإنفاق الحكومي، والتعامل مع متطلبات حرية التجارة العالمية، وإنشاء تحالفات اقتصادية" هي التي تمثل العمود الفقري الاقتصادي للدولة، وأنَّ الأزمات التي لامست القطاع الاقتصادي أدت إلى انهيار بعض الدول، ومن أمثلة الأزمات أزمة انهيار سوق الأسهم الأمريكية في عام 1929م، بسبب انخفاض السيولة بالسوق لارتفاع نسبة الفائدة وعجز الدولة عن إمداد السوق بالسيولة اللازمة بالإضافة إلى تحول المصانع بأوروبا إلى إنتاج كل أنواع البضائع بعد انتهاء الحرب العالمية. واستفاد العالم أن مبدأ آدم سميث "دعه يعمل.. دعه يمر" غير صالح لبناء الدولة، فقيام الأفراد بالحصول على منافعهم الفردية دون تدخل الدولة في تنظيم الأنشطة الاقتصادية قد يُؤدي إلى انهيارها اقتصادياً.
لذلك بدأ كثير من الدول بالتدخل في النشاط الاقتصادي وسن القوانين لأجل التوازن وتوزيع الثروات بين مواطنيها، كما أنه قام بعض منها بتخفيض ساعات العمل وتقديم الرعاية الصحية ورفع الحد الأدنى من الأجور. وتوضح أزمة الرهن العقاري بأمريكا عام 2008م أنه من الصعب توقع حدوث الأزمات المالية، وكذلك يصعب توقع حجم تأثيراتها، ويرى الكاتب أن الحال في الدول النامية يكون المتحكم في دور الدولة الاقتصادي هما "صندوق النقد الدولي والبنك الدولي"، حيث إنهما يفرضان على هذه الدول حينما تطلب منهما قروضا ضخمة شروطا معينة من أهمها "تخفيض الدعم الحكومي للسلع وتقليص حجم القطاع الحكومي. لذا، تتخذ هذه الدول الحذر الشديد لأن هذين الشرطين يؤثران على سيطرتها لأنشطتها الاقتصادية كما أنهما قد يدخلانها في ديون صعب الفكاك منها.
يشير رشيد الحاج صالح إلى أنَّ الاتحادات والتحالفات والتكتلات الدولية هي إحدى الأدوات التي اتخذتها الدول للتعامل مع مشكلاتها المالية وتقليل الخطر الواقع عليها مقارنة إذا كانت بمفردها، ومن أمثلة الاتحادات الدولية: الاتحاد الأوروبي 1958 ورابطة APEC التي تتكون من 18 دولة. ويصنف الكاتب التكتلات إلى نوعين منها ما يسعى للسيطرة على السوق والتجارة ومنها ما يفتقر لأبسط أنواع التنظيم. ومن المخاطر التي تتعرض لها هذه التكتلات العولمة وسياسات تحرير التجارة العالمية، ونموذج الدولة الضامنة هو المناسب لمواجهة هذا الخطر من خلال خصخصة الكثير من القطاعات وسن قوانين الضرائب بشرط أن تقوم الدولة بمساعدة من يتعرض وضعه للخطر.
ومن الأمور المهمة التي تسترعي انتباه الدولة والاهتمام بها بجانب النشاط الاقتصادي، التعددية الثقافية لساكينها؛ إذ إن بدايات تشكل الدولة المعاصرة كانت قومية، ومن خلال النعرات القومية قامت الحروب العالمية أيضا، حتى أن الديموقراطية الحديثة لم تستطع أن تمنع الحروب، فمثل هذا التأثير للقومية أعطى العديد من القوميات فرصة إنشائها لدولها المستقلة مع تحول حق تقرير المصير لمبدأ عام في حل غالبية الخلافات. وكذلك من الأزمات في هذا الموضوع، قضية الوافدين والأقليات، وقد قامت الدول الديموقراطية بسن التشريعات والقوانين التي أعطتهم حقوقهم وأشعرتهم بوجودهم الحقيقي في محيطها، إذ حدث التحول من الدول القومية العرقية إلى دول قومية مدنية جراء ما لحقتها من صراعات وتطورات، على أن الدولة القومية المدنية قائمة على التعاون المشترك وتعايش القوميات فيما بينها، فتحولت قومية العرق واللغة والأرض إلى قومية المساواة والقانون والثقافة. لذا؛ على الدول أن تأخذ بمبدأ الاعتراف بالتعددية الثقافية للمحافظة على السلم الاجتماعي داخل محيطها تجنباً للكثير من الصراعات.
إنَّ الاعتراف بالتعددية الثقافية يجنب الدولة تطلع الأقليات للدول الأخرى التي تتأمل فيها أن تحتوي هويتها وتمثلها بحسب رؤية الكاتب، وإن مبدأ حقوق الإنسان هو الذي اعتمدته أغلب الدول المعاصرة في تنظيم علاقاتها مع مواطنيها، حتى صارت قضية حقوق الإنسان قضية عالمية بحيث ينظر للدولة التي تعتدي على هذه الحقوق بأنها تجاوز تعديها على مواطنيها لتهدد السلام العالمي؛ لأنَّ أزماتها الداخلية ستمتد للدول الأخرى، وفي هذا المجال يستعرض الكاتب قول تايلر الذي يذهب إلى أن على الدول الليبرالية الحديثة أن تبني مجتمعاتها الحديثة على "الكرامة" وليس على مفهوم "الشرف"، لأن الشرف يعمق منطق الطبقية داخل المجتمع.
وفي القراءة الداخلية لممارسات الدول يجد الكاتب أن الدول الديموقراطية تحمل ازدواجية تتمثل بأنها "تريد الحرية لنفسها ولكنها تريد السيطرة على الآخرين،...، وتريد الأمن والسلام لنفسها لكنها تحرص على إثارة الفوضى والصراعات في بلدان عديدة"، ويذكر الكاتب سبب ذلك في تفسير توردوف بأن هذه الدولة الديموقراطية تنظر لبقية الدول على أنها قوى بربرية. لذا؛ فهو يحذر من هذه النظرة أيضاً ويعتبرها نوعاً من أنواع البربرية. واقتصاديا، يرى البعض أن الدول الحديثة تشارك مواطينها أرزاقهم، وتزيد من ثروة الأثرياء. وهذا ما يستدلون به في ارتفاع وتيرة المشاكل السياسية بطريقة اقتصادية، ويذكر رشيد الحاج صالح الملامح الأساسية التي على الدولة الاهتمام بها لأجل تطورها وبناء مستقبلها وهي: الاهتمام بالحرية قبل الهوية وتعميق معاني العدالة والاعتراف في بنيتها وأنظمتها، والموازنة بين الفردي والجماعي وذلك بالتقليل من سلطة المؤسسات وإعطاء مساحة للفرد وحقوقه، وأخيرا احتواء السياسة للثقافة حيث إن بعض الأطروحات يذكر أن أغلب الصراعات والتوترات التي تعيشها الدول في أساسها قضايا وأزمات ثقافية، فعلى الدولة معالجة وتنظيم عملية التفاعل بينها وبين الثقافات المختلفة. وأرى أن المراجعات المستمرة لقياس مستويات التوازن سواء أكانت على الأنشطة الاقتصادية أو الثقافية التي تفضي إلى صناعة الانسجام والتفاعل المنتج بين الدولة ومواطنيها هي التي تعطي أدوارا حقيقية للدولة الناجحة.
