أم كلثوم الفارسية
نتناول في مقالنا هذا ما طرحه الكاتب صلاح الدين الجورشي، في مجلة "التفاهم"، تحت عنوان "الحركات السياسية-الدينية في الإسلام المعاصر"، والذي وضح فيه بعض النقاط الأساسية لفهم تاريخ الحركات الدينية وأسباب انهيارها؛ حيث لا يكاد يختلف اثنان على أن ظاهرة «الإسلام السياسي» تعدّ اليوم من القضايا المحورية، التي تفرض نفسها على مائدة البحث العلمي، ولا يقتصر هذا الاهتمام على المسلمين أنفسهم، بل أيضًا نجد الاهتمام ذاته في الدراسات الأكاديمية الغربية، حيث نلاحظ أن الغرب أفسح حيّزًا من اهتمامه لمناقشة هذه الظاهرة ودراستها بعمق وجِدة، سواء تلك الدراسات الغالبة التي تصنّفها كخطر يهدّد الغرب وحضارته الحديثة، أو تلك التي تلتزم بالموضوعية وتكتفي بدراستها كظاهرة «اجتماعية - سياسية» بغض النظر عن الموقف المعلن منها.
وفي مقدمة ظاهرة الإسلام السياسي، تأتي الحركات الإسلامية التي تسعى لتقديم معالجات للمشكلات المعاصرة بنظريات واجتهادات ترتكز إلى النصوص والقيم والمبادئ الإسلامية المقدّسة، ولا تستهدف تغيير الأفكار فحسب، وإنما تسعى أيضًا لإنجاز ذلك التغيير على أرض الواقع، فهي تمتلك مشروعًا سياسيًّا يستهدف التغيير السياسي والاجتماعي عبر خطط منظمة، وفقًا لباحثين فإن «الحركة الإسلامية في مفهومها الواسع، تضمّ جميع الأفراد والجماعات التي تسعى لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام، وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها وقضاياها الآنية، إلَّا أنها تتّفق على القيمة الإيجابية للإسلام والصلة الوثيقة بين مفاهيمه وقيمه الأساسية والعالم المعاصر، فهي تريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام بتفسيراته المختلفة قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة.
وتمتاز الحركة الإسلامية عمَّا سواها من الجماعات والتكوينات الإسلامية المختلفة، بأنها تسعي دومًا وبصورة مباشرة إلى السلطة السياسية، والسيطرة على الدولة، من أجل تفعيل برنامجها السياسي، والهادف لتطبيق الإسلام وإنفاذ تعاليمه باتّساعها وتنوّعها، وهي بالضرورة تختلف في أساليب عملها بين الاعتدال والتطرّف، وبين العمل السلمي والثوري، وبين المرحلية وحرق المراحل، وهي تسعى نحو «إعادة البناء الاجتماعي من الأساس من أجل انطلاق دورة حضارية إسلامية جديدة... ولا أعني بالضرورة أن الطبيعة الثورية للحركة الإسلامية بعد سقوط الخلافة «العثمانية» تستدعي استخدام القوة في التغيير، وإنما أعني أن التغيير جذري ولو تَمَّ بالتدريج وبالوسائل السلمية، فهو تغيير في طبيعة الدولة ذاتها.
فمنذ البدايات الأولى لنشأة الحركات الإسلامية السياسية، في مصر؛ حيث انطلقت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م، وفي باكستان مع الجماعة الإسلامية عام 1941م، والعراق مع حزب الدعوة الإسلامية عام 1957م، وغيرها من الحركات والتيارات الإصلاحية، والإسلاميون يبشّرون بأن الإسلام هو الحل، وأنه المخرج الواقعي لكل المشكلات المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، والمدخل الحقيقي لبسط عدالة السماء على الأرض، وتخليص الإنسان من ألم الاستبداد والسلطوية التي أرهقت كاهلهم، ويستندون في ذلك إلى جملة من النصوص القرآنية والحديثية التي تثبت علو شأن الحكم الديني، وأنه الاختيار الوحيد الذي يلبي احتياجات البشرية ويخلّصها من الشرور.
لكن لا يوضّح الحركيون الإسلاميون في الغالب كيف سيحقّقون تلك البشائر التي يرفعون لافتاتها دومًا، ولا يفصحون عن خططهم التفصيلية لإنجاز ذلك الأمر، بل إن الكثير منهم لا يعتقد أن إثبات ذلك يعدّ شيئًا ملحًّا، أو أنه يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد الفكري، وذلك لسببين:
- الأول: لطبيعة التحديات الخارجية والداخلية التي تعرّضت لها الدول الإسلامية؛ وذلك أن نشأة هذه الحركات إنما جاء كردّ فعل على التغريب والوجود الاستعماري في المنطقة، وكذلك على فشل النُّخب العلمانيَّة القوميَّة في الداخل؛ وبالتالي فإن كل فرد مسلم يحمل في وجدانه الاستعداد الكافي للدفاع عن الهوية الدينية والتصدّي لكل من يتعدّى عليها بشكل تلقائي، فالغيرة والحمية الدينية محرّك رئيس وحيوي حتى لأقل المسلمين تدينًا.
- الثاني: للطبيعة العقدية للفرد والمجتمع، وهي أن الفرد المسلم يميل بالضرورة إلى حكم الإسلام، ويخضع بالفطرة إلى تعليماته المقدسة، وهو على هذا الأساس ليس مخيَّرًا بين انتخاب القانون الوضعي أو أن يحكمه أمر الله، فمن لم يرغب في حكم الله هو خارج عن ملة الإسلام، وهو على إحدى حالتين: إما مسلم عاصٍ أو مرتد كافر، والمسلمون تحرّكهم العقيدة وهي جزء من موروثهم الثقافي، والحركة الإسلامية تتحرّك تحت تلك اللافتة، وتشكّل نفسها بوصفها جزءًا من هذا العنوان الديني الواسع.
وفي نهاية مقالنا، نذكُر بأنه على عكس حقبة الميلاد الحركي، يظهر أن الحركة الإسلامية كلّما تقدّم الزمن بها كانت تقدّم القليل من المفكرين وعشرات الآلاف من المناضلين والثوريين، وهي في مسيرتها المتأخّرة لم تعتنِ بإيجاد وتوليد المفكرين المسلحين بالعدة المعرفية والعلمية لمواجهة التحديات الفكرية، وإنما انصبت جهودها على استقطاب الجنود الحركيين والمناضلين الذين يتكرّس دورهم في الدفاع عن الحركة وقادتها وأفكارها، ومن الفئة التي تتحلّى بأعلى مراتب الالتزام بالتعليمات الحركية، والذين لا يلامسون الفكر والتجديد إلَّا بشكل خجول يقع ضمن ضوابط حركية مسبقة، من أهم شروطها أَلَّا يخدش التجديد بفكر القائد، ولا يخرج عن سياق الأهداف التي استقرت عليها الحركة، ولا يخلّ بأولوياتها الحركية، فهو تجديد مشروط، وتطوّر بفرض المماثلة.
الحركة الإسلامية ليست بديلا عن الأمة، والجماعات ليس بديلا عن الشعوب، وأي محاولة لمواجهة الواقع بغير حماية الأمة والشعب محكوم عليها بالفشل، فإذا وصلنا إلى هذه القناعة فلا بد من أن تجيد الحركة وسائل مخاطبة الناس وقيادتهم وتثويرهم واستثمار غضبهم وثورتهم (لا تبريدها وتخديرها) وتطوير حركتهم، وليس يمكن هذا بغير فهم شأن السياسة والتاريخ والاجتماع وعلم نفس الجماهير.
وليس هذا كلاما جديدا، بل هو قديم في أدبيات الحركة الإسلامية لكنه لم يوضع موضع التنفيذ، فقديما قال حسن البنا "نحتاج تغييرا نقود الأمة إليه ولا ننوب عنها فيه"، وحديثا قال أبو مصعب السوري بعد مراجعة طويلة للتاريخ إن سبب الفشل المعاصر للحركة الإسلامية هو أن الأمة لم تكن جزءا من معادلة المواجهة.
