2020 «الوباء والنهوض»

Screen Shot 2020-07-29 at 11.51.01 AM.png

جولييو سابيللي

فاتنة نوفل

 كانت هناك عدة أوبئة في تاريخ البشرية تركت آثارا عميقة؛ لذلك لا جديد أن وباء عامي 2019 و2020 هو مثل الأوبئة التي سبقته سيتم تجاوزه وأرشفته. وهو بالتأكيد أول وباء يتكشف في عصر العولمة، علاوة على ذلك في عولمة مريضة. ولهذا السبب أصبح مصطلح الجائحة اليوم أكثر من الماضي مرادفًا للتحول بمعناه الأعمق الذي يجعلنا ننتقل من مجتمع إلى آخر، كما مررنا في القرن الثامن عشر في بريطانيا العظمى وفي منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا وبلدان أخرى من عصر ما قبل التصنيع إلى العالم الصناعي. نحن اليوم نواجه مثل هذا التحول الهام؛ إذ يجب علينا إعادة صياغة فرضياتنا في إدراك ما يتعلق بمركزية عقدة التحول لكننا لسنا مستعدين. هذا الاحتمال يبدو أنه يأخذنا بعيداً عن الأسئلة التي تثير معظم المراقبين والجمهور: هل سنخرج منها؟ كم من الوقت تستغرق؟ سيكون من الأسهل التدقيق في ملامح العالم في المستقبل؛ وبالتالي في نموذج اقتصادي في أزمة متقدمة للغاية وفي زمن انتهى فيه مجد النيوليبرالية، حيث لم يعد هذا الأخير منتصراً كما كان طوال دورة كاملة يمكننا أن نسميها تغييرا في الوعي لاتجاه جديد وأسلوب حياة جديد يمكن أن يؤدي إلى خلاص البشرية التي تعتبر اليوم في خطر وإن كان التصرف عند نقطة البداية لهذا التغيير هو الاعتراف بما حدث وكيف وصلنا إلى هنا. أراد النيوليبراليون الذين سيطروا على المشهد الاقتصادي والسياسي للدورة الختامية أن نصدق أن قوانين الاقتصاد فُرِضت وأنه لن يكون ممكناً تغييرها، كما أننا لم نكن قادرين على التدخل في العصر الأخير لتحرير أنفسنا من الحقائق "الهيكلية".

إن المدافعين عن هذه الحتمية الاقتصادية هم بالتحديد المسؤولون عن أزمة لها مدى كبير، هم أنفسهم ولّدوا وطوّروا باسم المصالح الفردية احتياجات الناس والعائلات والشركات الذين يضطرون إلى النضال بشكل دائم وبصعوبة أكبر من أجل البقاء. هذا ما حدث عندما انفصل الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي للآخرين، الأمر الذي أدى لقطع علاقاته مع المجتمع الذي كان لا بد من فصله عنه. اليوم هذا الوباء لا يفعل شيئًا سوى تسليط الضوء على كل هذا: لذلك سيكون من غير المجدي والخطير كما فعلنا فيما يتعلق بأزمة عام 2008، تركيز اهتمامنا ببساطة على عواقب الأزمة وعلى طريقة الخروج منها. ما نشهده في بداية عام 2020 وما مررنا به منذ عام 2008 هي الأحداث التي أضعفت المجتمع ككل أولاً واليوم نتساءل عن وجوده. لذلك من المهم تطوير نظريات جديدة من التحليل. إذا كان الأمر يبدو قبل ذلك مبالغًا فيه للحديث عن أزمة حضارة، فلا يمكن لأحد الآن إخفاء هذا الواقع.

العنوان "الوباء والنهوض" يقول كل شيء عن هذا الكتاب، الذي يتنقل باستمرار بين مستوى عملي واقتصادي وأخلاقي كما هي الحال في الحياة الواقعية؛ حيث لا يمكن فصل الظاهرة أبدا عن معناها. فكلمة النهوض، التي تقفز علينا بحملها الهائل من الإيحاءات والتي هي في الوقت نفسه كلمة بسيطة: تعني القيام ويمكن استبدالها بكلمة الانتعاش المستخدمة اقتصاديًا، ليتعامل المؤلف مع مواضيع مختلفة: العمل، وتداعيات الاقتصاد الدائري، ونماذج الاستجابة للأزمة، والتضليل الطبي للإمبريالية الصينية. ولا يتوانى فيها كذلك عن تقييم نتيجة دراماتيكية محتملة للأزمة وهي خروج ألمانيا من منظومة اليورو بطريقة عنيفة ومفاجئة.

يحلل مؤرخ الاقتصاد سابيللي الأزمة التي تسببت بها حالة طوارئ الفيروس التاجي في إيطاليا والعالم بدءًا من الأخطاء التي وقعت في إدارة الوباء وصولاً إلى آثاره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي ستكون لها عواقبها بالتأكيد؛ إذ يصبح هذا الفيروس قصة غير متوقعة ولا يمكن التنبؤ بها جلبت أمام الشعوب تناقضات العملية التاريخية التي هي السبب والضحية في الوقت نفسه. إنه منشور يكسر الضوء الاجتماعي ويسمح لنا برؤية وفهم ما حدث وما يحدث.

بادئ ذي بدء، هناك نقد للديمقراطية الليبرالية كشكل غير قادر على خلق التوليف بين الليبرالية والاشتراكية كما لم يحدث من قبل في التاريخ؛ حيث النخب منفصلة عن الجماهير، والبنية الاجتماعية محرومة من الطبقة الوسطى وتحكمها في مفتاح وظيفة الهياكل الدولية الفوقية في حالة تأكل فيها العولمة شكل الدولة وحقها الدستوري ونهوض الأمم مجددا لوجود أزمة في مشاعر المواطنة والإنتماء للدولة. كل ذلك مع كشف الصين عن وجهها الإمبريالي الذي يقرأ فيه سابيللي صعود شي جين بينغ إلى السلطة كنقطة تحول تقود الصين إلى التحول من قوة على الأرض إلى قوة عظمى قادرة على الدخول في صراع مع الولايات المتحدة حول السيطرة على الفضاء الآسيوي، والذي يجب أن يؤدي إلى رد فعل من الغرب لأن "الصين ليست دولة رأسمالية مثل الدول الغربية ولكنها نظام دولة تسيطر عليه بيروقراطية ديكتاتورية تهدف إلى السيطرة على العالم" وستكون منطقة احتواء التوسع الصيني إفريقيا وهنا ينتقد موقف الخارجية الإيطالية الخالي من العمق التاريخي في السياسة؛ حيث تمتلك دولا كفرنسا والولايات المتحدة روحًا زراعية وتصنيعية؛ وبالتالي تجارة حرة وهذه السرعة المختلفة في الإنتاج العالمي شبه الإقليمي تخلق أزمات.

يقول البروفيسور سابيللي: "بضراوة مخيفة ضربت بجعة سوداء ذات أبعاد هائلة العالم" ومن المستحيل اليوم أن نعرف على وجه اليقين ما ستكون عليه نتائج "هذه السنة القاتلة". سيستغرق الأمر وقتًا لفهم الآثار الحقيقية لما يحدث في العالم. ومع ذلك، هذا لا يعني إعفاءنا من إجراء تحليل لكيفية معالجة هذه الحالة الطارئة.

خضع جميع الأشخاص الذين اتصلوا بالمصابين لفحوصات دقيقة باستخدام إمكانية التتبع والترابط عن طريق الهواتف اللاسلكية ونماذج التنبؤ الخوارزمية. تم اتخاذ القرارات من قبل هيئة مركزية عملت برؤية جمعت بين علم الاجتماع والمعرفة الأنثروبولوجية والطبية، لكنها تفتقر إلى معرفة النسيج الاجتماعي لبلدنا الذي يتكون من آلاف البلديات الصغيرة والمتوسطة الحجم وعدد لا يحصى من أنشطة الإنتاج الصغيرة جدًا؛ لا يستطيع الكثير منهم العمل عن بُعد في "العمل الذكي" ولكنهم لا يزالون في المصنع وفي المكاتب التي سيتم تعقيمها باستمرار ليكون الوباء وإدارته هما ثمرة مريرة لمجتمع ونظام اقتصادي معولم، فضلاً عن تراجع السياسة والدولة والروح العامة. ويتابع سابيللي أنه بالرغم من الوضع الدرامي المؤسف الذي يحيط بنا يمكننا أن نتعلم منه ليصبح فرصة للنهوض. "إن الصالح العام ثمين جداً في هذه اللحظة ويجب أن يوضع في قلب المشهد لتحقيق مكاسب وطنية"، وللقيام بذلك، يجب على المجتمع أن يحقق قفزة حقيقية بالانتقال من هيمنة السوق إلى الاعتراف بالعمل كأداة رئيسية لضمان العدالة الاجتماعية والرفاهية والسلامة والعدالة والتغلب على التنظيم النيوليبرالي للاقتصاد.

"طريقتنا في بناء النظام حتى الآن هي التعددية -بدون حكم جيد- حيث الفصل بين المصالح الخاصة والعامة وتغليب الخاصة على العامة". يقول الكاتب إنه لا يمكن الاستمرار في هذا النموذج ويجب أن يتغير لأن عاقبته الوحيدة هي تدمير المجتمع بدون أي بدائل. لذا يجب أن يكون الإنسان والعمل هما أكثر المواضيع السائدة، وإذا أرادت الرأسمالية البقاء يجب أن تتغير من أجل الحفاظ على نفسها من خلال إعادة التكنولوجيا إلى الدور الأكثر صحة وهو دعم العمل البشري الذي هو العنصر الأساسي لقيمة أي منظومة، وعدم سيادة الثنائي الدولة وحالة السوق ولكن الثلاثي الدولة والمجتمع وحالة السوق ليعود القانون العام محوريًا مرة أخرى؛ لأننا إذا وجدنا القوة للانحناء على الدراسة والتأمل الأخلاقي والفلسفي فإن مفهوم المجتمع نفسه سيتغير كما ظهر في الفكر الاجتماعي الألماني بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين: فالمجتمع يمكنه دائمًا إعادة بناء نفسه كما علمنا ذلك الاقتصادي العظيم ألفريد مارشال.

الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي كذلك تحدد الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية. إن الأزمة الثقافية التي سببها الفيروس التاجي لا يمكن لها إلا التأثيرعلى القواعد الاقتصادية الأوروبية أيضًا. أوروبا في حالة وباء ثقافي كارثي، تم فيها التخلي عن عملية التوحيد الأوروبية ضمن مشروع اجتماعي ديمقراطي تضامني على الفور بعد انهيار جدار برلين في عام 1989 لصالح أوروبا مركزية تعتمد على السوق ويهيمن عليها رأس المال. وحدث ذلك في مواجهة الوباء كما هي الحال في مواجهة الأزمة الاقتصادية والصعود المهدد للإمبريالية الصينية، عكس ما كان يمكن أن يحدث لو كان للقوى الأوروبية القارية والولايات المتحدة توجه استراتيجي واقعي قائم على ما يسمى "المصلحة السائدة" الجيوسياسية.

ومع ذلك، يجب على القوى الأوروبية أن تنظر إلى ما يحدث في آسيا إذا كانت لا تريد أن تطغى عليها الإمبريالية الصينية. ولكن للقيام بذلك نحن بحاجة إلى تفكير استراتيجي عالمي، والظروف الثقافية التي تم فيها الاستجابة لهذا الوباء تبين أن أوروبا غير موجودة كقوة ثقافية وغياب الثقافة هو الذي ينزع السلاح وليس نقص الأسلحة.

وهنا نستعرض النموذج الصيني كما يتضح من وصول وفد الصحة إلى إيطاليا التي تكافح ضد الفيروس التاجي، والذي يهدف لتعزيز الاختراق الاقتصادي والثقافي الصيني في إيطاليا. اختراق بالفعل عميق للغاية كما يتضح من عمل الدبلوماسية الصينية في قطاع صناعات الاتصالات الاستراتيجية والاستخبارات السرية الخاصة كما تم الإعلان عنه في البرلمان بشفافية كبيرة.

... إنَّ دور الصين في الواقع، يرجع جزئيًا فقط إلى أسباب ديموغرافية - جيوسياسية: فمن المؤكد أن لديها موارد كبيرة فيما يسمى "العناصر الاستراتيجية" الثقيلة. لكن السبب الحقيقي لاحتكارها الاقتصادي النسبي يكمن في التخلي عن الأبحاث التي تمت في الغرب في المقام الأول.

كل هذا يبدأ بعصر جديد من السلطة الإمبريالية الصينية يتجلى في صعود شي جين بينغ الأمين العام الحالي للحزب منذ 15 تشرين ثاني/نوفمبر 2012 وكرئيس لجمهورية الصين الشعبية منذ 14 آذار/مارس 2013 وهو أحد هؤلاء "الأمراء" المنحدرين من الحركة الماوية التي تشكلت في الخارج ثم عادت إلى وطنها لتحتل مناصب مرموقة في السلطة. لذلك من الضروري دراسة الأطروحات التي تأسست عليها فكرة الإمبراطورالجديد والتي تعود فيها الصين إلى ما كانت عليه في أصولها الإمبراطورية: قوة عظمى تسعى للهيمنة على العالم.

الصين الآن تطمح بأن تصبح قوة بحرية وهذا يفتح سيناريوهات عالمية جديدة. كل هذا يعكس ويعزز معًا تحول الصين من طاقة برية إلى طاقة بحرية ليفتح هذا التحول صراعًا مع الولايات المتحدة للسيطرة على المساحة الآسيوية مما يثير الصدام في المقام الأول مع اليابان وفيتنام وكوريا الجنوبية؛ ليكون المجال البحري الآسيوي على المحك من خلال تصنيف صعود الصين كقوة جيوسياسية إذ لم تكن هناك من قبل قوة بحرية بهذا التأثير الديموغرافي الكبير، وكذلك التهديدات المتكررة التي شُنت ضد الغرب بما يسمى "حرب العُملات" والتي تحاول مجموعة العشرين السيطرة عليها دون جدوى. وهذا يمكن أن يجعل الصين تفقد هؤلاء الحلفاء الذين لديها في جميع أنحاء الغرب: الأوساط الفكرية، والبنوك الاستثمارية الكبيرة، والدوائر المالية بشكل عام والتي نشرت الفكرة بحسن نية -في بعض الحالات- عن عدم عدوانية الصين. وفي مواجهة كل هذا، تغيب أوروبا كقوة سياسية وبحرية، تختنق بسبب صراعاتها على السلطة التي يقول المراقبون إنها كارثية.

وهذه هي المشكلة الجديدة الحقيقية للنظام العالمي في مواجهة هذا المرض الخطير إذ يجب الاعتراف بتواضع بأن النمو الذي لا يمكن إيقافه للعولمة المالية والصين المرتبطة به ارتباطًا وثيقًا سيجعلنا نعاني من انتكاسة. إن إعادة البناء والبناء، على سبيل المثال التصنيع في كل من أراضي جنوب وشمال الكوكب في شكل مستمر وإعادة التفكير في الاقتصاد الدائري كنموذج جديد للإنتاج وليس فقط لإعادة تدوير النفايات، وكذلك مكافحة تغير المناخ.

وإذا كان هناك خلاص بالنسبة لبقية أوروبا، فسيأتي من البحر، كما نحتاج أن ندرك أن الليبرالية الجديدة قد انتهت وأن أزمة الحضارة واضحة ويجب الجمع بين المساواة والاختلاف لأن غالبية البلدان أو المناطق لديها ثقافة وطنية ذات خصوصية محددة للغاية علينا احترامها؛ وكما قال أليساندرو مانغيا، بينما كان هناك عملية توحد في الحرب ضد الإرهاب الإسلامي، كان الأثر الأول للوباء الحالي هو الانهيار والتباطؤ في العلاقات الاجتماعية لأن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى تمثيله الروحي، وقِيَمُه هي قِيَم مصطنعة تم جمعها في مواثيق حقوق منافقة وغير واقعية وحماية المصلحة الوطنية أو بالأحرى مصالح المجتمعات تم جمعها ضمن الشكل السياسي للدولة الوطنية.

ينتهي الكتاب بملاحظة أن التاريخ لم ينته بعد، والوباء جزء من العملية، وأن كل تحول اجتماعي بحد ذاته "حدث صحي". الصحة أيضا وباء ثقافي يهز الرجال والمجتمعات والاتحاد الأوروبي في الصدارة.

---------------------------

العنوان: "2020.. الوباء والنهوض".

المؤلف: جولييو سابيللي.

الناشر: غويريني وشركاؤه، إيطاليا، 2020م.

عدد الصفحات: 128 صفحة.

أخبار ذات صلة