العلمانية.. تاريخ فرادة فرنسية

Screen Shot 2020-07-29 at 11.48.37 AM.png

فليب راينو

محمد الشيخ

عادةً ما تنظر الشعوب الأخرى إلى الطراز العلماني الفرنسي نظرة استغراب. إذ لطالما نظر المحافظون الأمريكيون إلى "علمانية فرنسا" على أنه "إلحاد دولة"، بيما لمح فيها الليبراليون الأمريكيون "طراز إدماج سلطوي وقسري" غير "ليبرالي" ولا "حُرَّاني". وقد أدان فيها الأوائل ما رأوا من "عقيدة معادية للدين" سليلة الأنوار الفرنسية والثورة، تعوق فرنسا عن أن تكون ديمقراطية ليبرالية حقة، ووجد فيها الثواني أدلوجة سلطوية فرضتها فرنسا العتيقة، وهي أدلوجة معادية للأجانب وجامدة على رفضها لفضائل "التعددية الثقافية"... وحده النموذج التركي الكمالي عادة ما يُقَدَّمُ على أنه أنموذج قُدَّ على محك الطراز الفرنسي، لا سيما من جهة نزعه إلى ممارسة الدولة الرقابة على الدين، وقد ترافق ذلك مع احتكار دين واحد [الإسلام في حالة تركيا] للحياة الدينية.

يحاول الفيلسوف والمفكر السياسي الفرنسي فليب راينو، في هذا الكتاب الجديد (2019)، النظر في ثنايا هذه الصورة المرسومة لطراز العلمانية بفرنسا، والتمعن في تضاعيفها، مراوحا بين السفر إلى ماضي فرنسا والحضر في واقع فرنسا اليوم، واقفا عند أهم سمات ميراث العلمانية الفرنسية وعلى أوجه ائتلافها واختلافها عن نزعات الدنونة الأخرى، باسطا أمامنا "مروية" العلمانية الفرنسية في "فرادتها" وفي "كونيتها" معا، وفيما تأتلف به مع باقي اللائكيات وفيما تختلف به عنها.

العلمانية الفرنسية

أشكال من سوء فهم ومراجعات ومفارقات:

يُنبه المؤلف، بداية، إلى أن لفظ "اللائكية" الفرنسي نفسه يتأبى عن كل ترجمة دقيقة إلى اللغات الأخرى. ويبادر إلى مراجعة العديد من الأفكار الشائعة حول هذه اللائكية. ومنها:

أولا؛ عادة ما تختزل اللائكية الفرنسية في ملمح فصل الدين عن الدولة. والذي عند المؤلف: كلا؛ ما كانت العلمانية الفرنسية ثمرة للفصل بين الكنيسة والدولة، وإنما الأصل الذي تنشأت عنه هو مطلب التسامح الديني في سياق الصراع بين الكاثوليكية وحركة الإصلاح البروتستانتية... وفضلا عن هذا ينبه ـ ويا للمفارقة ـ أن قانون 1905 الذي يعد بمثابة إنجيل العلمانية الفرنسية لا ترد فيه كلمة "العلمانية".

ثانيا؛ عادة ما أسيء فهم الطراز الفرنسي: إذ تم فهمه على أنه اجتثاث للدين من الضمائر. وما كان هو بذلك: لئن كانت الدولة علمانية، فإن المجتمع متدين. إذ لم يتعلق الأمر بتحرير المجتمع من سطوة الدين، بقدر ما تعلق، بالأولى، بمنع جزء منه متدين من استتباع بقية المجتمع.

ولا يجادل المؤلف في أن "العلمانية" مكسب من مكاسب الحداثة. ذلك أن الديمقراطية الحديثة ما كان لها أن تقوم لها قائمة لو ما سعت هي إلى ضرب من تحييد الدين. إذ أن السلطة السياسية الديمقراطية محتاجة إلى تأكيد استقلالها أمام السلطات الدينية، حتى تترك للأفراد مجال للعيش المشترك والسعي إلى سعادتهم بمعزل عن الطريقة التي تطرح بها الأديان مسألة النجاة. لكن معظم الديمقراطيات المعاصرة تحل المسألة الدينية بطريقة غير الطريقة الفرنسي: ملكة إنجلترا هي رئيسة الكنيسة الإنجليكانية، والكنائس الألمانية تمول بمال دافعي الضرائب، بحيث يكون على كل مساهم أن يعلن عن صنف الكنيسة التي يود أن يخصها بمساهمته، وتفتتح الحفلات الرسمية الأمريكية بصلوات عمومية، وتسود هناك العلامات الدالة على الانتماء إلى ديانة معينة، دون أن يعني كل ذلك هذه الأشكال من استمزاج "الدينونة" بالدنيوية أن الديمقراطية قد باتت في خطر... فلماذا تتفرد اللائكية الفرنسية؟

 

مروية العلمانية الفرنسية

تعود أصول "العلمانية" الفرنسية إلى فترة حروب الدين، حيث شرع سلطان الملك في التحرر من سلطان الكنيسة بظهور جماعة "رجال السياسة"، وذلك زمن المواجهة العنيفة بين "الكاثوليكيين" و"البروتستانتيين"؛ فكان أن اعتزل أهل السياسة الفريقين معا ودعواهم في ما اعتزلوا فيه الفريقين: بمكنة المرء أن يكون فرنسيا صالحا من غير أن يكون بالضرورة كاثوليكيا. وهو ما شهد به "مرسوم نانت" الذي نص على أنه يمكن للمرء أن يكون من رعايا دولة فرنسا الصالحين دون أن يكون بالضرورة كاثوليكيا؛ فكان أن أدخل لأول مرة فكرة دولة يحكمها العقل ـ لا الشرع الدينيي ولا الهوى الطائفي ـ تكون حامية للحرة الدينية. على أن انتصار هذا الفريق كان انتصارا مؤقتا؛ إذ كان النظام الملكي ما يفتأ يؤكد على الوحدة الدينية للمملكة. ثم سرعان ما تبين أن الملكية المطلقة باتت، في "القرن العظيم" (ق. 17 م)، تستمد شرعيتها من عقلانيتها في التدبير والتسيير (العقلانية الإدارية) ومن سلطانها التمديني التحضيري، وذلك أكثر مما بقيت هي تستمد هذه المشروعية من "الأسس الدينية" التي كانت قد نهضت عليها. ومع مجيء الثورة، كفت فرنسا عن أن تظل مملكة كاثوليكية، لكي تنهج نهج الدولة اللائكية وقد تخلصت من كل تصور لاهوتي.

وكان أن وضع الاتفاق بين فرنسا النابليونية والبابوية النهاية للأزمة الثورية، مدشنا ما يشبه عهد الردة، وذلك بإعادة إدماج الكنيسة الكاثوليكية في الأمة؛ لكن هذا الاتفاق لم يدمر أسس العلمانية. لقد حدث اتفاق بين الأديان والجمهورية بحيث تتولى الدولة تمويل الشعائر التي تعترف بها الجمهورية، ثم ما لبثت سنوات (1815-1830) أن شكلت إعادة تنصيب للنظام القديم، حيث عادت الكاثوليكية من جديد لكي تصير "ديانة الدولة"، وليس فقط "ديانة غالبية الشعب الفرنسي"؛ وهو الأمر الذي استغله الكاثوليكيون لمحاولة منع التجديف وحظر تمويل الشعائر الدينية الأخرى.

هذا.. وقد اتصل الصراع بين فرنسا الكاثوليكية وفرنسا الجمهورية طيلة القرن التاسع عشر، قبل أن تنخرط الجمهورية الثالثة (1870-1940)، المعادية للكنسية وللملكية سواء بسواء، في "علمانية مناضلة" انتهت عام 1905 إلى سن قانون زكى انفصال الكنيسة والدولة، مع حفظ السلطة الروحية وحسب للكنيسة وعدم التدخل في شؤونها، مقابل سن أساس مبدأ حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد. وبذلك تجاوزت العلمانية الفرنسية مجرد إطار الحرية الدينية البسيط: هو ذا ما شكل فرادتها على مر القرون، وهي فرادة ما كفت عن إثارة إشكالات:

لم يكف هذا الطراز من "العلمانية" عن إثارة الجدل بين أجيال من المفكرين الفرنسيين: فعند بداية الجمهورية الثالثة تجابه ورثة الثورة الفرنسية وأهل الحنين إلى الكاثوليكية، وهو تجابه انتهى بانتصار "العلمانيين" وتهميش "الحنينيين"... وبعد ذلك بقرن نشبت معركة جديدة بين اليمين الأشد تصلبا واليسار الأكثر جذرية. وإذ أجمعا معا على "العلمانية"، فإن "اليمين"، بمروحية الشاسعة، بات يروم استعمال "العلمانية" ضد النمو المتزايد للإسلام في المجتمع الفرنسي، بينما بات اليسار الفرنسي، المناصر للأقليات، يوظف "العلمانية" ضد قيم اليمين والكاثوليكية المحافظة. وثمة إلى جانبهما يسار أقلي ذو نزعة "علمانية مناضلة" أمسى يستعمل "العلمانية" من أجل محاربة "الأصولية الإسلامية" من غير مهاجة "الإسلام" نفسه، ويدعو إلى اليقظة ضد المحافظين الدينيين. فضلا عن وجود فريق يدعو إلى "علمانية منفتحة" ذات استيحاء ليبرالي ترى أن قانون 1905 أنشا "دولة علمانية" لكنه لم ينشي "مجتمعا علمانيا"؛ ولذلك ينبغي لهذه "العلمانية" أن تبقى منفتحة أمام "الواقعة الدينية".

 

الدعوى الجوهرية حول العلمانية الفرنسية:

متفردة: نعم، استثنائية: لا

يرى المؤلف أن الخارج نظر دوما إلى فرنسا وعلمانيتها وفق هذه النظرة: فرنسا الاستثناء. لكن ما يجمع علمانية فرنسا بغيرها من ألوان العلمانية: أن في العديد من الأنظمة الديمقراطية ما بقي السلطان الزمني يخضع إلى السلطان الديني، وأن سلطان الدين آيل إلى أفول، وأن الدين سائر إلى أن يصير مسألة فردية محضة. ولهذا يفضل المؤلف الحديث عن "الفرادة" بدل الحديث عن "الإستثناء". الأصل في علمانية فرنسا كما في غيرها من ألوان العلمانية إنما هي حركة "دنونة" جعلت الناس يقبلون على "الدنيا" بدل الإقبال على "الدين"؛ ومن ثمة ضادت "الدنونة" "الدينونة". وما ميز النسخة الفرنسية من "الدنونة" أنها ورثت ما شهدته من مجابهة عنيفة بين "الأنوريين" و"الكاثوليكيين"، وبين "المؤمنين" و"غير المؤمنين".

لهذا؛ يخلص المؤلف إلى أن العلمانية الفرنسية ثمرة تاريخ متفرد، لكن يمكن الادعاء، مع ذلك، بأن لها بعدا يتجاوز إطار "الاستثناء الفرنسي" المحدود. فقد نشأت عن أمة "ذات إرثين": إرث دين كاثوليكي وإرث حكم إطلاقي قليل القبول بالتعددية الدينية التي هي منطلق تاريخ الديمقراطيات البروتستانتية. ولذلك اتخذ الصراع في فرنسا بين الإرث الدينوني والمنطق الدنيوي، الذي يسم الدولة الحديثة، طابعا أعنف مما اتخذه في بريطانيا العظمى أو في الولايات المتحدة الأمريكية أو في هولندا، لكن عنفه متأت من أن الرهانات فيه قد فُهمت على نحو أفضل مما فُهمت لدى أغلب الأمم الأوربية. 

 

ترى، ما وجه فرادة هذه العلمانية؟

"اللائكية" على الطريقة الفرنسية هي إحدى صيغ سيرورة "الدنونة"، هي الشكل الذي اتخذته بفرنسا حركة "الدنونة" التي اجتاحت بالتدريج العالم الغربي برمته. ومن ثمة اتسمت بسمات تخص ولا تعم. لقد حققت فرنسا، بعد بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، إحدى أكبر الثورات السياسية التي قادت إلى ميلاد الديمقراطية الحديثة. لكن فرنسا كانت، بالأساس، ملكية مطلقة وكاثوليكية متدينة، بينما كانت إنجلترا وأمريكا تعيشان في ظل مؤسسات ليبرالية نسبيا وتحت الديانة البروتستانتية. ولهذا؛ فرضت في فرنسا الحرية السياسية ضد الدين وليس معه، إثر مواجهة بين الأنوار والكنيسة الكاثوليكية، بينما قسم كبير من البروتستانتية الإنجليزية والأمريكية أعد توافقات بين المسيحية والروح الحديثة. لقد أقامت فرنسا "العلمانية" ضد نظام "الكاثوليكية" السابق، لكنها بقيت متأثرة بماضيها الكاثوليكي. ولم يحدث انتصار الدولة العلمانية إلا بعد صراع طويل ومرير، يقر المؤلف أن بعض مراحله ما كانت "ليبرالية" كما ينبغي أن يكون موقف كل ليبرالية حقة نحو الدين. وإذن، يرى المؤلف أنه، على عكس ما يعتقده من يسميهم "أصدقاؤنا الأمريكيون"، فإن العلمانية الفرنسية لا تناقض مبادئ الديمقراطية الحديثة، بل هي إحدى "أعظم نسخه الممكنة".

تتسم العلمانية الفرنسية بخمس سمات؛ هي على التوالي: 1- الاعتراف بحرية المؤمنين وغير المؤمنين على حد السواء. 2- حماية المجتمع من الدعوى الدينية النضالية النشطة. 3- الفصل بين مختلف أنظمة الحياة في المجتمع. 4- التحفظ على التوظيف السياسي للمرجعيات الدينية. 5- التحفظ في إعلان القناعات الدينية على العموم. هو ذا ما يجعل من هذه العلمانية علمانية "فريدة".

وفي الأخير، يتساءل المؤلف، وقد لاحظ أن شبح الثورة الفرنسية ظل مخيما على علمانية فرنسا، هل يمكن لفرنسا أن تحافظ على ما شكل قوتها ما دام العالم الذي تشكلت فيه شهد على تغيرات يبدو أنها أثرت في الأسس التي قامت عليها؟ وجواب المؤلف أن علمانية فرنسا، بوسمها استمرارا للثورة الفرنسية، انتصرت في حقبة كان فيها الشكل القومي هو الإطار الطبيعي للنظام الجمهوري، وهو الشيء الذي كان يسمح لهذا النظام بسحقجزء من خصومه القدامى. لقد استندت هذه النسخة من العلمانية إلى واقعة أن غالبية الفرنسيين تتقاسم ما يكفي من قواعد العيش المشترك؛ بحيث أن الانقسام بين "فرنسا وفرنسا"؛ أي بين حساسيتين ثقافيتين وقيميتين، كان مقبولا بالجملة. لكن الجديد اليوم هو "واقعة التعدد الديني". ففي فرنسا اليوم حيث الثورة الفرنسية انتهت، وحيث كان شبح الثورة لا يزال مخيما وحيث كان النقاش يتم في إطار "الأمة"، ما عادت "الأمة" هي الإطار الوحيد للنقاش السياسي، والتوافق المعنوي والروحي الذي قام عليه العالم الكاثوليكي قد غار، وما عادت الانتقادات الموجهة إلى العلمانية تنبع من الكنيسة الكاثوليكية، وإنما من ديانة حديثة الظهور هي الإسلام الذي يتأبى عن الإدماج ويتمنع عن الإلحاق، ولا شيء يضمن أن الجمهورية الفرنسية قادرة على استيعاب هذا الطارئ وفهمه؛ إذ ما عاد بالإمكان استنساخ قانون 1905 في التعامل مع الإسلام؛ فالظروف ما عادت هي هي. لا وجود لكنيسة مسلمة، وما شهد الإسلام قط عملية دنونة، وذلك على خلاف ما شهدت عليه الكاثوليكية؛ مما حملها على أن تتغير شيئا فشيئا. وإن اندماج الإسلام في الجمهورية لن يكون من تلقاء ذاته؛ إذ لا بد للمسلمين من الاشتغال على إصلاح دينهم حتى ينسجم أكثر مع قيم الجمهورية.

وها قد انتهت العلمانية إلى أن تبدو وكأنها مجرد حنين إلى "عالم فقدناه"، وأمست محل تجاذب موقفين متعارضين الباعث عليهما معا ذكرى الحنين: يدعو "المُحْدَثون" إلى التخلي عن طرازهم العتيق، والقبول بالإطار "الليبرالي" و"الثقافي التعددي" الذي فرضه أفول الأخلاق التقليدية والعولمة وفتح الحدود. تلقاء ذلك، يسعى "الحنينيون" بالضد إلى الأوبة إلى السيادة القومية التامة وإلى استعادة ما كان قد سمح من قبل بإحداث توليفة بين فرنسا سليلة الملكية الكاثوليكية والجمهورية اللائكية وليدة الثورة.

لكنَّ المؤلف يرى -في نهاية المطاف- أن هذه الإشكالات التي تواجهها اللائكية الفرنسية ما كانت هي بالفرنسية البحتة، وإنما باتت تصيب هي ما يسميه "مجمل العالم الديمقراطي"، حيث الأشكال العتيقة لحل النزاعات الدينية وتحديد القواعد المشتركة للأخلاق وإدماج ساكنة ذات أصول أجنبية أمست تواجه في كل مكان نفس المعضلات. وهو ما تشهد عليه، مثلا، أحوال أمريكا وهولندة وبريطانيا. ومن تم ما كانت فرنسا "استثناء" في عالم يسير نحو "التنميط"، وإنما هي "استفراد" بملامح حاضرة في كل مكان من "العالم الديمقراطي": الاعتراف بحرية المؤمنين وغير المؤمنين، حماية المجتمع من هجمة أهل الدعاوى الدينية النشطين، التمييز بين أنظمة الحياة، التحفظ على الاستعمال السياسي للمرجعيات الدينية، الرغبة في عدم إظهار القناعات الدينية علنا. والحال أن هذه الملامح تدخل ضمن ما كان سماه مونتسكيو باسم "الروح العامة" للأمة الفرنسية، وهي مكون من المكونات الكبرى لرابطة الأمم التي تشكلها أوربا.

------------------------

الكتاب: "العلمانية.. تاريخ فرادة فرنسية".

المؤلف: فليب راينو.

الناشر: جاليمار، فرنسا، 2019م.

 

أخبار ذات صلة