بوتقة الإسلام

Picture1.png

جلين وارن باوّرسوك

التجاني بولعوالي*

ما أكثر المؤلفات الغربية التي اشتغلت بتاريخ الإسلام، لاسيما أثناء ظهوره المبكر في مكة منذ بداية نزول الوحي على رسول الإسلام انطلاقا من 610 ميلادية. حتى أن معظم هذه المؤلفات تكاد تتشابه شكلا ومحتوى، لأنها تتقاطع عموديا في السرد الدياكروني الذي يرصد المراحل ومجريات الأحداث بشكل تسلسلي حرفي، وتتماثل أفقيا من حيث التيمات والوقائع والروايات التي توصّفها أو تحللها. ولعله يصعب على أي باحث يتناول تاريخ الإسلام أن يحيد عن هذا المنهج سواء في تزامنه أو في صيرورته، غير أن ثمة من المقاربات ما يكسر هذه الرتابة عن طريق التسلل إلى سراديب غامضة من التاريخ، التي إما أن الباحثين السابقين لم يفلحوا في الإجابة الشافية عنها، وإما أنهم لم ينتبهوا إليها أثناء عملية البحث والدراسة.

ولعل هذا هو السبب الجوهري الذي دعانا إلى مراجعة كتاب المؤرخ الأمريكي جلين وارن باوّرسوكبوتقة الإسلام، الذي حاول أن يسلط من خلاله الضوء على التاريخ المبكر للإسلام منذ الدعوة النبوية إلى قيام الدولة الأموية، وهو يركز بالدرجة الأولى على الجوانب المبهمة والمستشكلة، لاسيما في علاقة الإسلام بأهل الكتاب من يهود ونصارى اعتمادا على البحث الأركيولوجي في المخطوطات والمنقوشات والنقود والمصادر غير الإسلامية الموازية كاليونانية والسريانية. 

فراغ في التوثيق التاريخي

يستهل الباحث كتابه بملاحظة مهمة مؤداها أنه يسود فراغ مزعج في الكثير مما نعرفه عن العرب وعن دينهم الإسلام، على وجه التقريب ما بين 560 و660 بعد الميلاد. وتشكل هذه المائة عام تحديدا الإطار التاريخي الذي شهد الأحداث البالغة الأهمية التي غيرت مجرى تاريخ الإنسانية. ويظهر أن السنوات التي تقدم وتلخص هذه الحقبة المفصلية التأسيسية في تاريخ الإسلام في غاية الغموض، وتخلق الصعوبة للمؤرخ الذي يسعى إلى صياغة منظور مناسب لهذه الحقبة، التي كانت مسرحا لنزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ 610، ثم هجرته إلى المدينة، ثم حروبه ضد المشركين حتى وفاته في 632، ثم مرحلة الخلفاء الراشدين الأربعة بشتى إنجازاتها وتقلباتها. ويعتقد الباحث أن الفترتين ما بين 560 و610 وما بين 632 و660 تبدوان موحلتين (من الوحل) نظرا إلى غياب التوثيق التاريخي الواضح لهما. لذلك، من الصعوبة بمكان تأسيس رؤية جلية ودقيقة حول المجتمع العربي أثناء بداية الدعوة النبوية وقبلها، وهذا ما ينطبق أيضا على مرحلة الخلفاء الراشدين الذين خلفوا النبي قبل تأسيس الدولة الأموية في دمشق.

إن الصفحات الموالية من الكتاب لا تهدف إلى تقديم سردية مغايرة حول صعود الإسلام، بقدرما تحاول استيعاب السياق الذي جعل الإسلام ممكنا في واقع كانت تحكمه الفوضى والتشرذم، ومن ثم الإسهام بشكل مثالي في فهم الكيفية التي تشكل بها الإسلام. وقد تضمن ذلك السياق رغم طبيعته العربية الأصلية شتى التأثيرات الخارجية، التي انعكست على المحيط العربي الذي كان متاخما بمختلف العقائد والثقافات والبلدان،كإثيوبيا وفلسطين وبيزنطة والفرس.

ويسجل الباحث أنه توجد فجوة كبيرة في المصادر التاريخية قبل موت الإمبراطور البيزنطي موريس عام 602، وهي المرحلة التي شهدت ولادة محمد. في مقابل ذلك، نملك توثيقا جيدا للمناطق الغربية والغربية الجنوبية من شبه الجزيرة العربية في منتصف القرن السادس، لاسيما خلال المرحلة التي كان يهيمن فيها أبرهة الإثيوبي المسيحي على المنطقة، وقام أثناءها بمحاولة تدمير الكعبة في مكة. لكن المعلومات التاريخية سوف تصبح هزيلة وغير دقيقة بعد المرحلة التي تلت موت أبرهة.

وهذا ما يسري أيضاً على المرحلة التي تلت وفاة النبي محمد، وتعرف بمرحلة الخلفاء الراشدين الأربعة التي اتسمت بعدم الوضوح التاريخي في الكثير من الجوانب، لذلك فهي تحتاج إلى إعادة ترتيب موضوعي لأحداثها المعقدة التي أفضت إلى حربين أهليتين. ربما قد يعني هذا نوعا من التحذير من القبول غير العقلاني للتقاليد التي انبثقت من تلك المرحلة المتأخرة، لكن لا يعني ذلك أنها لا تستحق الاهتمام. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن المؤرخ يجب أن يكون حذرا باستمرار في التعاطي مع تلك الأحداث المفصلية المعقدة، ما يقتضي منه الحفاظ على المصادر الأصلية، وفي الوقت نفسه تجنب تحريفها.

وعلى الإجمال فإن مرحلة الخلفاء الأربعة كانت عاصفة، كما يظهر لنا بوضوح على الأقل من خلال روايات المسلمين الأوائل. إذا كانت حروب الردة قد نشبت مباشرة عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الفتنة الأولى سوف تدفع تلك المرحلة إلى النفق المسدود، ما ترتب عنه نشوء الدولة الأموية منذ 661 في دمشق. ومع ذلك، فهناك العديد من الجوانب المبهمة كما يستخلص المؤرخ باوّرسوك. نشير في هذا الصدد إلى الشك الذي يسود حول زمن جمع القرآن الكريم ونشره، إذ تذهب الرواية التقليدية إلى أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان هو الذي أشرف على جمع القرآن في نسخته الكاملة المعتمدة اليوم من قبل المسلمين. غير أن هذه الرواية أصبحت اليوم تحت المجهر بعد اكتشاف مخطوطة قديمة على سعف النخيل في صنعاء، وقبل ذلك بكثير تم اكتشاف الآيات القرآنية التي خطت على قبة الصخرة في القدس. وهذه المخطوطات تبدو غير متطابقة مع النسخة الرسمية المعتمدة، التي أشرف على جمعها ونشرها الخليفة الثالث.

مملكة أبرهة العربية

إن الطبيعة العشائرية للعرب كانت تخلق تحديا عويصا للقوى الخارجية الكبرى التي كانت لها مطامع في المجتمع العربي الذي كان يوجد على مرمى حجر من حدودها، وذلك لتعقده الاقتصادي والعسكري والديني. لذلك سعت تلك القوى إلى إرساء تحالفات مع القبائل العربية، كما كان الشأن بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية التي تحالفت مع الغساسنة لإحياء وتفعيل النظام الروماني القديم. وهذا ما يسري أيضا على الإمبراطورية الفارسية التي تحالفت مع المناذرة في الحيرة المتاخمة للحدود الفارسية العربية. 

وابتداء من 525 سوف يغزو ملك الإمبراطورية الأكسومية الإثيوبية المعروف بكليب حمير في اليمن، ويعمل على إبادة النظام اليهودي الذي سبق له بدوره وأن ألحق مجزرة بنصارى نجران في 523. ولا يمكن استيعاب هذا التمدد المسيحي في انفصال عن دور البيزنطيين الذين شجعوا النجاشي على ذلك، رغم أن المسيحية الإثيوبية المونوفيزية ذات الطبيعة الواحدة كانت تختلف جذريا عن الأرثودوكسية المسيحية الخلقيدونية. وقد أدى بلاء الملك كليب في حمير اليمينة إلى القضاء النهائي على اليهودية الحميرية وتعويضها بالنصرانية. وسوف يصبح أبرهة لاحقا حاكماً لحمير، وقد كانت لديه مطامع توسعية نحو أجزاء أخرى من شبه الجزيرة العربية. وبعد أن تمكن أبرهة من ضم مناطق مهمة من اليمن إلى نفوذه سوف يعلن نفسه ملكا عليها، دون نية الانفصال عن إثيوبيا.

وجراء ذلك لم تعد اليهودية دين دولة كما كانت في السابق، بل حلت محلهاالديانة النصرانية التي كانت الأقرب إلى تقاليد الشمال الغربي من المنطقة العربية، لأنها كانت متأثرة بالسريانية. وهذا ما يبدو من خلال مخطوطات أبرهة التي تختلف عن سابقيه من الملوك، حيث تم اقتراض المفاهيم المسيحية من السريانية كالروح والبيت للكنيسة على سبيل المثال لا الحصر. كما أنه تم اقترض كلمةekklesiaمن اليونانية لاسم كنيسة أبراهة في اليمن وهي القليس. ويعتقد الباحث أن تلك الكنيسة شكلت معجزة العرب المسيحيين في ذلك الزمن من خلال معمارها الفخم والمتميز، وقد شيدت بهدف جعلها مركزا دينيا يستقطب الحجاج العرب بدل الكعبة في مكة.لكنه سوف يفشل أثناء محاولته تدمير الكعبة في عام الفيل، ما سوف يعزز مكانة مكة أكثر على مستوى شبه الجزيرة العربية برمتها.

ويشير الباحث إلى أن أبرهة خلف وراءه إرثا من الصراع بين النصارى والمشركين الوثنيين، جراء الاصطدام بين كنيسة القليس في صنعاء والكعبة في مكة. وقد نجح في أن يتوسع إلى وسط وغرب شبه الجزيرة العربية، ويضم إليه قبيلة كندة. بل وقد بلغ بجيشه العرمرم مكة، غير أن طيرا أبابيل حال بشكل خارق دون تحقيق هذا الهدف الذي أصبح بمثابة لغز من ألغاز التاريخ.

وأكثر من ذلك، فإن أفول مملكة أبرهة ترك فراغا سياسيا في المنطقة سوف يعوضه الفرس الذين أحيوا تحالفهم القديم مع اليهود العرب، الذين نجوا من غزو كليب المسيحي، وهذا لم يكن في صالح النصارى. إن هيمنة الفرس على المنطقة سوف تمتد ما بين سقوط النصرانية في 560 ومولد النبي العربي في 570، وهكذا لم يعد يعول البيزنطيون على مملكة إثيوبيا التي أصبحت ضعيفة، ما جعلهم يعقدون تحالفا سياسيا مع الغساسنة العرب.

إثيوبيا وهجرة المسلمين

عندما ولد محمد في 570 كان الفرس الساسنيون يتحكمون في المنطقة العربية التي كان أبرهة يحكمها سابقا كمملكة نصرانية. وقد كان المسيحيون يتعرضون طوال هذه المرحلة الانتقالية، التي تعتبر اليوم الأكثر غموضا في تاريخ العصور القديمة، للتهميش والاضطهاد مقابل تصاعد التعاطف الفارسي مع اليهود. وقد جاء هذا التعاطف نتيجة الدعم الفارسي المبكر لمملكة حمير اليهودية القديمة في صراعها مع النصارى البيزانطيين أو الإثيوبيين.

إن الأقليات اليهودية التي كانت تستقر في يثرب خصوصا، كانت تنظر بشكل إيجابي إلى تأثير النظام (الفارسي) الجديد في شبه الجزيرة العربية. ولعل هذا ما ينطبق على الوثنيين العرب الذين كانوا يرصدون عن كثب أقرانهم الوثنيين الفرس. ولم يكن هؤلاء نشيطين أبدًا في الترويج للزرادشتية، وربما كانوا يدركون أن تنوع الشرك العربي كان من شأنه أن يمنع أي نوع من المقاومة الموحدة، وهكذا عملت قبائل وعشائر وآلهة الجزيرة العربية في هذا الوقت لصالح القوى الخارجية. ولعل هذا التنوع والانقسام على وجه التحديد سوف يشكل لاحقا تهديدًا لدعوة محمد الذي كان يتلقى الوحي من الملك جبرائيل لأول مرة، وسوف يتم تجاوز هذا التهديد في نهاية المطاف أمام قوة الحركة الإسلامية الصاعدة.

وما يسترعي الانتباه أن الباحث يحتفي كثيرا بعلاقة المسلمين الأوائل بالحبشة عامة والنجاشي بوجه خاص، إذ سوف تلي الهجرة الأولى هجرة ثانية للمسلمين إلى إثيوبيا أكبر منها، لكن لا نملك المعلومات الكافية عنها. غير أنه على العموم تجمع الأدبيات التاريخية الإسلامية على قبول مملكة الحبشة للاجئين المسلمين واحتضانهم. كما تشير المصادر إلى أن النجاشي بكى عندما سمع آيات من القرآن الكريم، بل وأن محمدا صلى عليه عندما جاءه خبر موته.

وتجدر الإشارة إلى أن وصول المهاجرين من مكة إلى أكسوم في إثيوبيا كان بعد مدة قصيرةمن احتلال الفرس لمدينة القدس. وتعكس القطع النقدية للنجاشي أنباء هذا الحدث، وأهمية القدس للمسيحيين في جميع أنحاء الإمبراطورية البيزنطية. ثم إن تأثير النصرانية على المهاجرين المسلمين الأوائل انعكس في نظرتهم الإيجابية إلى النجاشيولجوئهم إلى مملكته في إثيوبيا. ويعزو الباحث هذا إلى الهيمنة الطويلة للإثيوبيين تحت زعامة أبرها على شبه الجزيرة العربية، علما بأن الإثيوبيين المسيحيين غزوا شبه الجزيرة العربية في 525، حيث قضوا على الحكم الجائر لليهود العرب الذين كانوا يروجون لعقيدتهم التوحيدية الخاصة عن طريق اضطهاد النصارى. 

ويعتقد الباحث أن الحالة الدينية في شبه الجزيرة العربية كانت جد معقدة، رغم أن مفهوم الله كان مشتركا بين الجميع؛ يهودا ونصارى ومسلمين ومشركين. وما كان يزيد الطين بلة هو التوظيف السياسي الذي أدى إلى الصراع بين اليهود والنصارى والمسلمين لاحقا رغم اشتراكهم في الأصل التوحيدي الإبراهيمي نفسه. وفي هذا السياق المعقد كان تشكل إثيوبيا البعيدة حلقة وصل مهمة لترسيخ وحدة هذه الأديان.

الصراع حول القدس

يذهب الباحث إلى أن الفرسغزوا القدس على يد الملك الساساني خوسرو الثاني في 614، فقاموا بهدم أسوار المدينة والتنكيل بالسكان أيما تنكيل،فتدمرت المدينة على بكرة أبيها؛ ماديا واقتصاديا وروحيا. وهذا لا ينطبق على المسلمين، الذي أبقوا على طبيعة التعايش بين مختلف مكونات المدينة من يهود ونصارى ووثنيين. وهناك من يشير إلى تواطؤ اليهود مع الفرس في التنكيل بالنصارى.ولعل هذا ما يتضمنه نصان قديمان: أحدهما يتصدره اقتباس من إصحاح دانيال تم العثور عليه ليس ببعيد عن القدس، وهو مكتوب باللغتين الآرامية والعبرية، والنص الثاني تم العثور عليه في منطقة سبأ جنوب شبه الجزيرة العربية. ويشير هذان النصان إلى أن اليهود لم تكن لديهم مشكلة بخصوص وجودهم تحت الغزو الفارسي، بل وكانوا يدعمون الوجود الفارسي في القدس. لكن الباحث يرى أن هذا وحده لا يكفي،لأنه لا توجد أدلة تاريخية أو أركيولوجية تؤكد هذه الفرضية التي تقول بانحياز الفرس إلى اليهود ضد النصارى.

وجراء معركة اليرموك في 636 سوف ينهي المسلمون الهيمنة العسكرية البيزنطية على المنطقة. بل وأكثر من ذلك، فإن الباحث يثبت دور البطريك سوفرونيوز في تمهيد الطريق للمسلمين لفتح القدس بشكل سلمي، فهو الذي أقام تحالفا مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وسلم القدس للعرب. وتتحدث مصادر سريانية من تلك الحقبة التاريخية عن عمر الخليفة بشكل إيجابي، كما يؤكد صاحب الكتاب المؤرخ جلين باوّرسوك.

ويختم الباحث مؤلفه بفصل حول  قبة الصخرة التي تناول مختلف جوانبها التاريخية والمعمارية، غير أن جملة من الأسئلة ظلت معلقة. من بينها على سبيل المثال لا الحصر زمن بناء القبة وهل تم ذلك من طرف الأمويين أو العباسيين؟ تأسيسا على البحث الأركيولوجي والتاريخي يظهر أن قبة الصخرة أسست أول مرة من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي انتهى من بنائها في 691، غير أن الخليفة العباسي المأمون نسب هذا العمل لنفسه، ويذكر أن أحد العمال غير اسم عبد الملك الخليفة الأموي مؤسس وباني قبة الصخرة أثناء الترميم، ووضع مكانه اسم الخليفة العباسي المأمون، وقد نسي تغيير التاريخ القديم!

فضلا عن ذلك، فإن تسامح المسلمين لم يقتصرعلى التعامل السلمي والإيجابي مع البلدان التي تم فتحها، ومنها مدينة القدس وفلسطين، بل تجاوز الأمر ذلك إلى تبني جملة من الأعراف والأشكال الثقافية التي لم يكن لها تأثير سلبي على العقيدة الإسلامية، فاستعملت العربية بجانب اليونانية إلى عهد عمر بن العاص، واعتمدت نقود مسكوكة باللغتين اليونانية والعربية إلى ما بعد زمن معاوية. وما أحوجنا اليوم إلى استلهام ذلك التعايش الإيجابي الذي كان يعرب عنه أجدادنا الأوائل حتى في زمن الحرب والصراع.

مدينة للجميع

وفيما يتعلق بمرحلة المدينة يطرح الباحث سؤالا من الأهمية بمكان فحواه: كيف تمكن محمد النبي من أن يقنع مختلف مكونات المدينة المتنافرة والمتصارعة لعقد تحالف داخلي على أساس التعايش والتعاون في إطار الأمة الجامعة؟ وهذا يعني تحقيق الاندماج بين اليهود الموحدين والخزرج والأوس الوثنيين ومسلمي مكة المهاجرين. وقد ترجم هذا الاندماج، الذي كان مستبعدا أمام الإرث التاريخي الموسوم بالصراع والقتال، على أرض الواقع دون أي مقاومة أو رفض. بل وعلى أساس ما هو رسمي، فيما يعرف بوثيقة المدينة التي حددت حقوق وواجبات كل طرف.

وإذا كان توحيد المدينة قد تم بشكل عجيب وغير متوقع، لتصبح عاصمة الدولة الإسلامية الفتية، فإن المسلمين، كما يستخلص الباحث، فشلوا في أن يجعلوا من مكة عاصمة سياسية وإدارية لهم رغم محاولات بعض الدول والسياسيين. عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وغير اسمها إلى المدينة، أي مدينة الإسلام، شكل ذلك القرار خطوة حاسمة في تعزيز الإيمان الجديد. وسوف ينحسر تأثير مكة منذ تلك اللحظة فصاعدا؛ مكة التي كانت قد اكتسبت شهرة بارزة لم تدم طويلا أمام صعود الإسلام خارجها. ثم إن محاولة ترقية مكة إلى عاصمة الإسلام في منتصف القرن السابع الميلادي أثناء مرحلة حكم الخلفاء الراشدين لم تنجح. وهذا ما تكرر مع دعوة ابن الزبير التي باءت بالفشل. وهكذا عادت مكة إلى ما كانت عليه في الماضي، إلى مجرد مزار مقدس للحجاج. وبمجيء الأمويين سوف تتمركز إدارة الدولة الإسلامية في دمشق بعيدا عن مكة.

ولم يكتف النبي محمد بتبليغ رسالته والسهر على مجتمع المدينة المصغر، بل كان مثل غيره من الزعماء الكبار والأنبياء يهيء المجتمع المسلم، ويقوده إلى اللحظة التي سوف لن يكون حاضرا فيها، وسوف يصبح مجرد مثال من التاريخ يستلهمه المؤمنون في مسارهم الإيماني والتعبدي والقيادي. وبعد حوالي ثلاثة عقود من استلهام الأنموذج النبوي من قبل الخلفاء الأربعة سوف تقترب اللحظة الخطيرة التي صار فيها المجتمع الإسلامي على محك الفتن والحروب الأهلية، لتؤول الأمور في آخر المطاف إلى الدولة الأموية منذ 661 في دمشق. وتعتبر تلك العقود الثلاثة المرحلة الجوهرية في تشكيل الإسلام كما نعرفه. وقد أفضى ذلك أيضا إلى نوع من اللا يقين بخصوص مستقبل رسالة الرسول.

* باحث مغربي مقيم في بلجيكا

------------------------------------------------

الكتاب: بوتقة الإسلام

المؤلف: جلين وارن باوّرسوك

الناشر: جامعة هارفرد، الولايات المتحدة الأمريكية

تاريخ النشر: 2019، باللغة الإنجليزية

عدد الصفحات: 240

أخبار ذات صلة