«الوحشية»

Picture1.png

أشيل مبيمبي

سعيد بوكرامي

يأتي كتاب (الوحشية) للمؤرخ والفيلسوف الكاميروني المعروف أشيل مبيمبي في أوانه فقد صدر بالتزامن مع الاعتداء الوحشي الذي طال المواطن الأمريكي من أصول زنجية جورج فلويد وأدى إلى وفاته. ومعروف  أن هذه المأساة أعادت ذكريات سيئة ودامية إلى الأذهان وأحيت تاريخا استعماريا تجاه الأفارقة الزنوج بصفة عامة والأقليات في أنحاء العالم بصفة خاصة. يساير هذا الكتاب الجديد أعمال أشيل السابقة مثل (الخروج من الليل الجسيم) (2010). و (نقد العقل الزنجي) (2013) و (سياسة العداوة) (2016) لكن في كتابه الأخير يحلل أوجه القصور في الديمقراطيات الليبرالية، التي تستسلم لإغراء تثبيت حالة طوارئ دائمة، وتقييد الحريات الفردية باسم مكافحة الإرهاب، ومؤخرا "تحويل حالة الحرب إلى وضع مدني " مما ساعد على الإقصاء والميز العنصري.  وقد عزز هذا التوجه  تطوير التقنيات والتكنولوجيا الرقمية - التي تساعد على مراقبة الفرد  وتصنيف السكان على نحو أفضل وجعل الإنسانية كيانًا مصطنعًا ومُعززًا ومتزايد الارتباط الرقمي. كما عززت الإنترنت والشبكات الاجتماعية "النرجسية الجماعية". ونحن نشهد العودة العاطفية للهوية من خلال الفرد والعرق والجنس والأمة.

لا ريب أن مجالات الوجود البشري جميعها أصبحت شبه متحكم فيها، وبذلك أضحت هذه المجتمعات البشرية الآن تقاد وفق توجيه واحد، وهو ما يعرف اليوم بالحوسبة الرقمية، ورغم أن كل شيء يدفع نحو توحيد غير مسبوق للكوكب، فإن العالم القديم المشكل من الأجسام والمسافات، والمواد والمجالات  والمساحات والحدود، لا يزال يقاوم هذا التحول الذي يندمج في أفق الحوسبة بشكل متناقض. و مع  هذا الانخراط الاصطناعي الجارف للبشرية، أصبح الإنسان رهينة بين يدي الآلات، وبذلك دخل مرحلة شبيهة بالاختبار الوجودي. هذا الوجود لا يُختبر كجماعة بشرية وغير بشرية موحدة بل يختبر ويستغل كمؤشرات ومعلومات وبيانات. وبذلك تتحول القوة إلى سلطة آلية لا تعترف بجوهر الوجود إلإنساني، تعترف فقط بالقدرة على التصنيع والإنتاج في عالم صناعي. يمنح أشيل مبيمبي لهذا العصر صفة الوحشية، ويصفه بالعبء الحديدي الكبير في عصرنا، والوزن الجسيم للمواد الخام التي أصبح من ضمنها البشر أيضا. إن تحويل البشرية إلى مادة وطاقة هو المشروع النهائي للوحشية. من خلال تفصيل الطابع التذكاري والعملاق لهذا المشروع، يناشد هذا الكتاب إعادة تأسيس مجتمع بشري متضامن مع جميع الأحياء، والذي لن يحدث إلا إذا قمنا بإصلاح ما تحطم من إنسانيتنا.

تمكن كتاب أشيل مبيمبي الجديد من إلقاء نظرة جديدة على تقلبات العالم المعاصر. بحيث سيكتشف القارئ دراسة فلسفية حقيقية تشتغل على مفاهيم النظرية النقدية ونظرية ما بعد الاستعمار. وبذلك يواصل آشيل مبيمبي، المؤرخ والفيلسوف الكاميروني الذي يعمل في جامعة ويتواتيرساند (جوهانسبرغ)، التفكير في آثار العولمة في أفريقيا، بعد نشر العديد من الأعمال العظيمة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أبرز فيها كيف تنجز العولمة وتستكمل بطريقة ممنهجة منجزات الاستعمار، مركزا في مؤلفاته السابقة على تسليع العلاقات الاجتماعية، لكن كتابه الأخير يركز وينتقد هذه المرة على وحشية هذه العلاقات. يشير اقتصاد الوحشية في الواقع إلى الهيمنة النهائية على الأرض والكائنات. استعار الكاتب المصطلح من الهندسة المعمارية لتسليط الضوء على التوترات التي تمارس على الأجساد والحياة بشكل عام (ص 7). "إن العمارة والسياسة هما بالتالي مسألة ترتيب منظم للمواد والأجسام، وهما مسألة كميات وأحجام ومجالات وتدابير وتوزيع وتعديل القوة والطاقة. إن الارتفاع العمودي في موقع متميز هو أحد الآثار الملموسة للوحشية، سواء كان يمارس على الأجسام أو على المواد "(ص 8). وبهذا المعنى، تظل أفريقيا "مختبراً متميزاً" لدراسة مظهر هذه الوحشية التي يتعرض لها البشر والأرض بشكل عام (ص 24). تشير كلمة الوحشية بالفرنسية إلى صفة "المادة الخام" (ص 26) و "الوحشي" (ص 40) لأن الوحشية، في الواقع، ترتبط بالعلاقات الاجتماعية ارتباطًا وثيقًا من خلال استغلال المواد الخام، وبالتالي الحاجة إلى تبني منظور ما بعد استعماري لفهم التطورات التكنولوجية لهذا الاستغلال الحاصل منذ قرون.

بالنسبة لأشيل مبيمبي، فإن الرأسمالية الرقمية، التي تفتخر بأن للخوارزميات القدرة على حل المشاكل البشرية الكبرى، ليست سوى الصورة الرمزية لهذا السباق المحموم نحو استغلال الإنسان والأرض. "إن هذا التحول الاصطناعي للإنسانية ونظيرتها، ليصبح الإنسان من بين الأشياء والآلات، ربما يشكل المادة الحقيقية لما يسميه البعض اليوم" الاستبدال العظيم "(ص 23). يختلف مبيمبي هنا، مع خطاب الهوية القومية الشائع في أوروبا والذي يعتمد في إيديولوجيته على خطر "الاستبدال الكبير" للسكان الأوروبيين من قبل السكان المهاجرين. وبالتالي فإن الوحشية تتميز بعدم وجود منظور مستقبلي وإمكانية جماعية لتصور عالم مشترك. إنها تعبر في النهاية عن المرحلة النهائية من الليبرالية الجديدة التي تقوي القبضة على الأحياء بتقنيات النانو. يضيف أشيل مبيمبي فارقًا دقيقا لما بعد الاستعمار إلى هذا الصعود العالمي الذي استمر لعدة قرون من خلال تحديث تشخيص هايدغر للأزمة في المجتمعات إبان العصر التقني (ص 38 ؛ ص 65). كانت العولمة، منذ ظهورها الأول في القرن الخامس عشر، بمثابة استغلال للبشر من أجل استعمار أراض جديدة (ص 38-39 ؛ ص 61).

بالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الوحشية على أنها "شكل من أشكال القياس السياسي، إذ تخضع الأجسام المتدهورة، وطاقة وحياة بعض الأنواع لطريقة توظيف النار، من خلال إبطاء احتراقها "(ص 47). وبالتالي، يساعد فصل الفضاءات على استبعاد الأجسام موضوع العنصرية و التي هي غير مرغوب فيها. ويتمثل ذلك في الفضاءات السكنية الهامشية في الضواحي أو بعض الفضاءات المعزولة، بحيث يغيب مفهوم الضيافة وشاعرية العلاقات الإنسانية، ليفسح المجال لبيئة غير مضيافة وعدائية في بعض الأحيان، حيث تساهم التكنولوجيا في إنشاء نظام للمراقبة واستبعاد السكان غير المرغوب فيهم. إن الرأسمالية تحقق هيمنة مطلقة، لأن كل شيء محسوب: لقد انهارت المقاومة الأخيرة. ومع ذلك، فإن هذا المنطق يهاجم جوهر الإنسانية ويهدد البشرية بأكملها بالانقراض. إن الشرخ الذي يتحدث عنه أشيل مبيمبي، ويجب الانتباه إليه، يتجسد في هزة جوفية لها تداعيات مدمرة وممتدة(ص 68). الوحشية هي في الواقع خروج من العالم الملموس من خلال تحرير الرغبات، بفضل العالم الرقمي. اللاوعي لم يعد مكبوحا كما كان، بل يظهر في علاقة مباشرة بالواقع الافتراضي، ليصبح الهدف هو خلق فقاعات من المتعة  حيث لا يظهر الجسم إلا كعارض مصطنع للاستمتاع والخضوع. "تساعد النرجسية الجماعية  على ذلك، ليس من خلال اللغة، ولكن من خلال الاستمتاع والجسد، وهنا تحدث المواجهة مع الواقع الحقيقي الذي يناقض تماما التصورات الذهنية" (ص 95).في السابق، مكن الحلم الاستعماري من مصادرة هذا التحرر من الدوافع، لأن المستعمرين أرادوا أن يكونوا قادرين على تحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه في مجتمعاتهم الأصلية " إن الوحشية في مستعمرة هي إقحام الاختلاف المنهجي في كل من المظهر الخارجي سواء بواسطة مستحضرات تجميل الجسم، والأعصاب، والأعضاء، وبالتالي في بنية الخيال" (ص 108).

يسير أشيل مبيمبي على خطى المفكر فرانز فانون عندما يفكر في البنية الضارة للاستعمار الذي يعامل المستعمَر معاملة دونية وبذلك يحقق الاغتراب الجذري "يشكل الاستعمار، من وجهة النظر هذه، لحظة عظيمة من الاختراق والتقسيم، و من السيطرة على الأحياء. في حين أن هذا الإجراء من المحتمل أن يفتح الطريق أمام الخسارة، هذا ليس كل شيء. إنها أيضًا فرصة لاختراع الأساطير، وإثارة الحكايات، لكتابة إشارات جديدة على الأجسام و خلط الصور التي نأمل أن تفتح النافذة على الآخر و ما وراء ما تخفيه الشاشة "(ص 111).

يتحقق الاستعمار في شكل رغبة اختراق قسري، وباسم هذا الاقتحام القهري تظهر العنصرية وكراهية الأجانب في الدول، لاستبعاد السكان غير المرغوب فيهم (ص 186). في هذا السياق، تظهر الركيزة العرقية للأمة فجأة للقضاء على أي أمل في الانضمام إلى مجتمع المستوطنين (ص 192 - 193). وهكذا، فإن الإيديولوجيات الكونية هي مجرد أوهام لأنها تستند إلى تجريد غير واقعي. "تمامًا مثل المجتمع، لا توجد جمهورية ولا ديمقراطية كماهية أولية مجردة وثابتة يمكن للمرء أن يُخاطر بحياته باسمها، ومن أجلها" (ص 192). تنضم هذه الملاحظة في نهاية المطاف إلى فرضية السياسة الاقتصادية على أنها المرحلة النهائية من السيادة، والتي يمكن أن تقرر في المصير الحتمي لمن يجب أن يموت ولمن يجب أن يبقى على قيد الحياة. هناك صلة واضحة بين السياسة الشمولية والوحشية، حيث يمكن النظر إلى الأخيرة على أنها تحيين واستكمال لأهداف السياسة الشمولية.

لا يكتب  أشيل مبيمبي في أعماله عن إفريقيا فحسب، ولكن انطلاقا من إفريقيا. إن أفريقيا مثيرة للاهتمام لسببين: فهي من جهة، تأوي الفضيحة التاريخية لهذا الاستعمار الذي يستعبد علاقتنا بالأرض ؛ ومن جهة أخرى، فإنه يعطي الأمل إلى درجة أن هناك مجموعة خيالية من الضيافة والعلاقة بالبشر والتي يمكن أن تشكل مستقبلا واعدا. هذه الملاحظة هي أساس "مبدأ الأمل" الجديد الذي صاغه أشيل مبيمبي(ص .174)، والذي لن يؤدي إلى الانهيار الموعود للبشرية (ص 201). إذا كانت النزعة الجديدة والحيوية المحيطة هي تجسيدات النيوليبرالية، فإن أفريقيا تحمل في داخلها إمكانيات التحرر البشري من القدرية الاستعمارية. "حقيقة أن أفريقيا لم تكن مصدر الانفجار الصناعي، لكن هذا لا يعني أنها لم تخلق أشياء فنية أو أعمال فنية، أو أنها كانت منغلقة على التطور أو الابتكار. لقد فضلت أنماط الوجود الأخرى التي لا تشكل فيها التكنولوجيا بالمعنى الدقيق للكلمة قوة تمزق وانحراف ولا قوة اختلاف وانفصال، بل قوة تعدد ومضاعفة "(ص 222).

من خلال معالجة الجدل الصعب حول إعادة المصنفات الفنية إلى الدول الإفريقية، يشجب أشيل مبيمبي مَتْحَفَة أفريقيا، الذي بدأ خلال الغزو الاستعماري الكبير في القرن التاسع عشر. معتبرا أن الاستعادة ليست كافية للإصلاح، فمن الضروري إعادة ربط الأعمال الفنية بالخيال الأفريقي (ص 227). "الحقيقة هي أن أوروبا أخذت منا أشياء لا يمكنها أن تعيدها إلينا. يجب أن نتعلم التعايش مع هذه الخسارة. من جانبها، سيتعين عليها تحمل مسؤولية أفعالها، هذا الجزء المظلم من تاريخنا المشترك الذي تسعى دائما إلى تخفيف عبئه الجسيم "(ص 232).هل هذه محاولة لمحو الاستعمار بمعنى أن هناك حاجة لفصل قصص المستعمِرين عن المستعمَرين من أجل تفكيك العلاقة بين الضحايا والجلادين؟ في الواقع، يبرز أشيل مبيمبي أن الاستعمار يتضخم بشكل كبير في ضوء العولمة الحالية. مع التقنيات الجديدة، تم إلغاء حقوق الإنسان لصالح المنطق الحوسبي مع استبعاد السكان الزنوج الجدد الخاضعين لإملاءات السلع. إن مصطلح "نيغرو/ الزنجي" لا علاقة له بلون البشرة، بل على العكس، فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسكان المعرضين للاستغلال التجاري. أصبح العالم مزرعة عملاقة حيث يتم استغلال الموارد المعدنية بطريقة أكثر وحشية من خلال إخضاع الأجساد وانتهاكها. "لأن هذا هو الخيار الأخير: إما الاصلاح أو المأتم. لن يكون هناك هروب إلى أي كوكب خارجي صالح للحياة. ستكون الأرض الواحة الأخيرة التي ستقوم منها "البشرية جمعاء" بالعمل الضخم لتجديد الأحياء. أو سيكون قبرها الكوني، وضريحها الهائل "(ص 236). هذا البديل يذكرنا في نواح كثيرة بالملاحظة التي قدمتها مجموعة بارباري في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي مع إضافة بعد ما بعد استعماري. وفي السياق ذاته يدق أشيل مبيمبي ناقوس الخطر، لأن تحالف المال والسياسة يقودان العالم إلى حتفه الأخير، إذا لم تستيقظ الضمائر الحية والمفكرة الداعمة للمشترك الإنساني والمدافعة عن المصير البشري المشترك بين العدالة والتضامن والأمل في مستقبل إنساني مسالم.

-------------------------------------

الكتاب: الوحشية

المؤلف: أشيل ميبمبي

دار النشر: دار لاديكوفيرت. فرنسا

سنة النشر: 2020

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 246 ص

 

أخبار ذات صلة