الدين والعَلْمَنة في المجتمعات الغربية

71dgFB1uFiL.jpg

جوفاني كوتشي

عزالدين عناية

كتاب "الدين والعَلْمَنة في المجتمعات الغربية" هو من الكتب القيّمة التي صدرت في إيطاليا في الفترة الأخيرة، والتي تولي أوضاع الدين متابَعة ومعايَنة من الداخل، سِيما وأنّ مؤلّف الكتاب، جوفاني كوتشي، رجل دين وأستاذ جامعيّ. يحاول تقديمَ صورة عامّة عن أوضاع الدين في الغرب، ليستخلص من خلالها أبرز ملامح التحوّلات التي تعيشها المجتمعات المسيحية في الزمن الحداثي. ويعتمد صاحب الكتاب جملة من المقارَبات والأدوات المساعدة على تتبّعِ الوقائع الدينية، كعلم الإحصاء وعلم الاجتماع والدراسات الديمغرافية، بغرض إنجاز حوصلة شاملة لِما يحاول رصده من تحوّلات.

واعتمادًا على تقرير عامّ حول الأوضاع الديمغرافية للمسيحيين، يُبرز المؤلّف، منذ مطلع كتابه، أنّ أعدادَ المسيحيين على مستوى عالميّ في تزايد مطّرد، ولكنّ ذلك التزايد اِفتقدته أوروبا منذ سنوات، مما جعل عديد المراقِبين يدقّون نواقيس الإنذار ويحذّرون من مغبّة تبدّل هوية القارة الدينية في غضون العقود القادمة. فقد أدْلى كونراد هاكيت أستاذ الديمغرافيا ومدير "مركز بيو للأبحاث" في أمريكا، المتخصِّص في مستقبل الأديان في العالم، بحوار لصحيفة "وول ستريت جورنال" جاء فيه: إنّ المسيحية تشهد حالة تراجع في معظم دول أوروبا؛ من بينها: إنجلترا وألمانيا وإيطاليا. وقد فاق عدد الوفيات بين المسيحيين عدد الولادات منذ العام 2010 وإلى غاية العام 2015 بستّة ملايين. وفي ألمانيا وحدها بلغ عدد الوفيات 1،4 وهو ما يتخطّى عدد الولادات، البالغ مليون نفر. وفي ضوء الأعداد الحالية يذهب هاكيت إلى أنّ رُبعَ الأوروبيين سوف يفتقرون إلى انتماء ديني على مشارف العام 2050.

المشكلة أنّ انحسارَ المسيحية لا ينحصر بدولة دون أخرى، وإنّما يشيع في معظم الدول الأوروبية. وبحسب الأعداد التي أعلن عنها "المؤتمر الأسقفي الألماني"، أعلى الهيئات الكاثوليكية، خلال العام 2015-2016، فقد توارى من سجلّات الكنائس الكاثوليكية 162.093 من الأتباع وأَغلقت 537 خورنية أبوابها. واستقرّ مستوى التراجع، على مدى عشرين سنة، في حدود 15 بالمئة (بالفعل مسَّ أربعة ملايين من الأتباع)، وهو ما قاد إلى اندثار 25 بالمئة من الكنائس الكبرى (خورنيات) من (13.329 إلى 10.280). ففي فرنسا بلغ عددُ الكهنة المكرَّسين خلال العام 2013 قرابة 9.000، وهو ما يعني أربع مرات أقلّ، مقارنة بأعداد نهاية الحرب العالمية الثانية. تُوضِّح أعداد خورنية مدينة بورج الأمر: يرتاد ثلاثمئة شخص على 27 ألفا القدّاسَ مرةً في الأسبوع.

وضمن السياق نفسه، يرصدُ الكتاب ظاهرةَ الكنائس التي توقّفت عن النشاط وأقفلت أبوابها، ويُحصي التي غيّرت أنشطتها من خلال التفويت فيها وبيعها. وعلى ما يذكر مؤلّف الكتاب فقد توقّفت 515 كنيسة في ألمانيا، ويُرجَّح إقفال 15 ألفا أخرى، أي ثلاثين بالمئة، في السنوات المقبلة. وعلى ما يُقدِّر "المؤتمر الأسقفي الهولندي"، أعلى الهيئات الكاثوليكية في البلاد، أنّ 1600 كنيسة ستغلِقُ أبوابها خلال السنوات العشر القادمة، وسيطال الغلق 700 كنيسة بروتستانتية خلال السنوات الأربع القادمة. وبشأن الأوضاع في فرنسا فقد تمَّ هدْمُ عشرين كنيسة قديمة منذ العام 2000، وسوف تلقى 250 كنيسة المصير نفسه خلال السنوات القريبة، وأنّ ثلاثةَ آلاف من المفتَرض أن تتوقّف. وفي العاصمة البلجيكية بروكسيل يُرجَّح أن تغلق 30 بالمئة من الكنائس أبوابها بسبب قلّة الأتباع. ولعلّ أبرز الكنائس التي لقيت هذا المصير، في الوقت الحالي، كنيسة "بِينك سانتيسيمو ساكرامنتو" الواقعة في قلب المدينة العتيقة، فقد بيعت باليورو الرمزي.

شملت الظاهرة العالم الأنغلوفوني أيضا، ففي أنجلترا تَعرِض الصحفُ إعلانات لبيع كنائس وأدْيرة لغرض الاستعمال الخاص، وتتراوح الأسعار بين خمسين ألفًا وخمسمئة ألف من الجنيهات الأسترلينية. وفي إيطاليا ينشر موقع: (www.immobilare.it) عروضًا لبيْع محلّات عبادة متوقّفة عن النشاط باتت مقفرة. ويُفْتَرض عند التفريط في محلّات العبادة أن تُحوَّل إلى مكتبات أو متاحف أو مكاتب بريد، غير أنّ الغالبية منها قد تحوّلت إلى محلّات سوبرماركت أو متاجر لبيع الملابس. فـ"كنيسة القديس يوسف دي آمهيم" في هولاندا قد تحوّلت إلى سكايت بارك، يرتاده شبّان يتدرّبون على موسيقى الراب. وفي بريستول في أنجلترا، تحوّلت "كنيسة القديس بولس" إلى مدرسة للتدرّب على ألعاب السيرك، وقد أعرب مقتنوها عن ارتياحهم لعلوّ سقف المحلّ الملائم للتدريبات.

لا تمسّ ظاهرة التفريط في الكنائس وتحويلها إلى محلّات لأنشطة أخرى شمال أوروبا فقط، بل تمتدُّ إلى جنوب القارة أيضا. ففي إيطاليا يُحصي موقع "ويكيبيديا" تحت عنوان كنائس "منزوعة القداسة" 800 كنيسة، تحوّلت إلى فضاءات دنيوية، كشأن "كنيسة مادونا ديلا نيفي" في مدينة كومو، التي غدت مرآبا للسيارات؛ و"كنيسة سانتا لوشيا" في مدينة ماتيرا، التي تحوّلت إلى صالة لِلَعب البليار. فهذه الأوضاع التي باتت تواجهها الكنائس، قد حذّرت منها الأوساط الأكاديمية، لمّا عُقِد ملتقى علميّ في الجامعة الغريغورية بروما برعاية "المجلس البابوي للثقافة" بتاريخ 29- 30 نوفمبر 2018 تحت عنوان "لم يبقَ بيتٌ للربّ هنا"، عالجَ قضية توقّف محلّات العبادة عن أداء مهامّها وإشكالية الإفلاس التي تتهدّد الكثير منها.

نايل ماك غريغور الذي شغل خطّة مدير المتحف البريطاني في لندن، على مدى الفترة المتراوِحة بين 2002 و 2015، أبدى انشغالًا أثناء تقديم معرض "العيش في أجواء الألوهية"، حوْل أوضاع تراجع الأنشطة الدينية في بريطانيا قائلا: "في غياب الدين نغدو مجتمعًا بدون سرديّة جماعية، وهو وضعٌ مؤسفٌ انطلق منذ ستينيات القرن الماضي". لكن هناك من يُعارِض هذا التحليل ويعتبرُ المجتمعات الغربية تشهد تبدُّلًا في الدين وليس تراجعًا. ولو نظرنا إلى عدد الحجيج الذين يتوافدون على المزارات الدينية في الغرب، فهو عدد مهمّ يبلغ 66 مليون زائر يتردّدون على 6130 مزارا لقدّيسين وقديسات. وفي الظرف الراهن تعيش مجموعة من البلدان فورةً إنجيلية، حيث يبلغ عدد البنتكوستاليين في العالم 600 مليون، يتوزعون بين أمريكا اللاتينية وإفريقيا وبلدان شمال العالم. علّق عالم الاجتماع الإنجليزي دافيد مارتان على هذا التمدّد الجديد قائلا: "الثورة التي كان ينبغي ألّا تقع!". نشير إلى أنّ البنتكوستالية هي تفرُّعٌ بروتستانتيّ بملامح إفريقية، ظهرت في منتصف القرن الفائت في الولايات المتحدة، وهي عادةً ما تُتَرجَم إلى العربية بـ"الخمسينية". ويتمحور الخلاف بين البروتستانتيّة التاريخيّة والبنتكوستاليّة في كونِ العلاقة بين الربّ والمؤمن، تتلخّصُ في التأويل المباشِر للنصّ المقدّس مع الأولى؛ في حين يطغى هاجسُ ربطِ صلةٍ مباشرةٍ للمرء مع الألوهية، بناءً على تجربة عاطفيّة قوامها الإيمان بتنزّلِ الرّوح القدس مع الثانية.

ولو تمعنّا الأوضاع الدينية التي تعيشها بعض البلدان الأوروبية نلاحظ تباينًا، ففي بحث منجَزٍ من قِبل "مؤسسة غالوب وورلد بول" تركّز على سويسرا، تبيّن أنّها من أقلّ بلدان أوروبا الغربية تديّنا وفق النمط المألوف، حيث أبدى 20 بالمئة من المستجوَبين إيمانهم بالتناسخ، وأعرب 20 بالمئة عن اعتقادهم في التمائم والتعاويذ للتوقّي من الشرور وسوء الطالع، كما بيّن البحث أنّ 10 بالمئة من المستجوَبين يرتادون النوادي والحلقات الروحية ويمارسون طقوس "النيو آيج" (العصر الجديد)، وأنّ 78 بالمئة يودُّون جنائز دينية ويفضّل 62 بالمئة الزواج وفق الشعائر الدينية في الكنيسة.

وأما في إيطاليا، فبحسب دراسة أجراها الباحث ألبيرتو ميللوني، سنة 2014، تناولت أوضاع الدين تبيّنَ من خلالها أنّ الإيطاليين وإن صرّحت نسبة منهم تعادل 80 بالمئة أنها تراعي الكاثوليكية، فإنّ نسبة مهمّة تؤمن بتناسخ الأرواح، وهي تتراوح بين 32 و 35 بالمئة. كما أبرزت الدراسة أنّ 70 بالمئة فقط بحوزتهم نسخة من الكتاب المقدّس في منازلهم. وتبيّنَ من خلال الدراسة أيضا أنّ من يصرّحون بعدم الانتماء للكاثوليكية، ولم يتلقّوا تربية دينية، هم أكثر دراية بمضامين الكتاب المقدّس وأكثر اطّلاعا على فحواه. بيّنت دراسة ميللوني كذلك أنّ 26،4 بالمئة من المستجوَبين قد صرّحوا بأنّ الكتاب المقدّس قد كتبه موسى و 20،4 بالمئة هو من تدوين المسيح، وأنّ 27،1 بالمئة اختلط عليهم مدلول العهد القديم بالعهد الجديد. كما كشفت الدراسة أنّ نسبة 14،2 بالمئة ترى أنّ قصّة الخروج الواردة في الكتاب المقدّس تتعلّق بقصة خروج يوسف النجار ومريم إلى بيت لحم، أو كذلك برحلة الرسول بولس إلى روما. وأوضحت الدراسة أنّ نسبة 31 بالمئة لا يبدو لديها المسيح قد عاش في فترة تختلف عن الفترة التي عاش فيها إبراهيم وموسى، رغم فارق ميئات السنين الفاصل بين الشخصيات الثلاث. كما رأى بعض المستجوَبين أنّ المسيحَ قد عاش في فترة سابقة لعهد نوح. وكشف البحث أنّ نسبة 30 بالمئة فقط يعرفون أسماء مدوّني الأناجيل الأربعة المفتَرضين، متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا.

على مستوى آخر، ما يَبرُزُ من خلال كتاب "الدين والعَلْمَنة في المجتمعات الغربية" أنّ اللائكية لا تعني انفصالًا صارمًا بين مؤسسة الدولة ومؤسّسة الكنيسة، بل هناك تداخل وتعايش يبلغ مستوى التنسيق والتكامل بين الطرفين، لا سيما في المجالات التربوية والصحية والإغاثية. يلوح ذلك بشكل بارز في الأموال التي تحصل عليها الكنيسة الكاثوليكية من خَصم الضرائب على الدخل السنوي لكلّ مواطن، وهو ما يبلغ نسبة 0،8 بالمئة في إيطاليا، و 0،7 بالمئة في إسبانيا، ويتراوح بين 1 و 3 بالمئة في فرنسا، وأمّا في أنجلترا وبلاد الغال فهو يبلغ 1 بالمئة. في حين في النمسا فتبلغ تلك الضريبة المدفوعة من المواطن وتحصل عليها الكنيسة 1،15 بالمئة، وأما في ألمانيا فهي من أعلى النسب حيث تتراوح بين 8 و9 بالمئة، تليها سويسرا بنسبة تتراوح بين 5 و 6 بالمئة. تُمثِّل هذه الأموال الطائلة المرصودة للكنائس سندًا قويًّا للأنشطة الدينية، ناهيك عن أنّ قسطا من تلك الأموال يُوجَّه إلى ترميم الكنائس التي تتحوّل إلى مزارات سياحية بعيدا عن وظائفها الأصلية. وعلى العموم تُمثّل تلك الأموال المرصودة للشأن الديني عنوانَ وفاقٍ بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة. قال كردينال مقاطعة كولونيا، جواشيم مايزنر، معلّقًا على هذه المداخيل الوفيرة، ضمن ما أورده جون آلين في دراسة منشورة في "ناسيونال كاتوليك ريبورتر" بتاريخ 17 مارس 2006: "لم تتهاطل علينا أموال بهذه الوفرة، كما حصل في العقود الأربعة الأخيرة، ولم نخسر أعدادًا للمؤمنين، كما حصل في العقود الأربعة الأخيرة... في كولونيا لدينا مليونان و 800 مسيحيّ من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، خسرنا منهم خلال الثلاثين سنة الأخيرة ثلاثمئة ألف. ففي ما يقابل كلّ طقس عماد جديد، أي دخول في الدين المسيحي، لدينا ثلاث جنائز".

يتحدّثُ الكتاب عن توجّهٍ آخر رافقَ حقبة ما بعد الحداثة وأوضاع التديّن السائلة في الغرب، يتمثّل في تطوّر ممارسات روحية مغايرة وَجَدت انتشارًا، وهي تقف على نقيض الممارسة الدينية التقليدية. فقد أبرزت سلسلة من الدراسات من إعداد "مركز بيو للأبحاث" أُجرِيت خلال العام 2012 أنّ نسبةَ هامّة من المستجوَبين يمارِسون رياضات روحية ولا يعتبرون أنفسهم متديّنين وفق النمط المألوف، وهي أنواع من الممارَسات الروحانية الباحثة عن الحقيقة والسلام الداخلييْن، وجدت رواجًا في العقود الأخيرة. ما يلاحظه مؤلِّف الكتاب أنّ العروضَ الدينية قد باتت أكثر سيولةً وأكثر تنوّعًا، خارج الكنائس الرسمية، وهو ما لم يُؤدّ إلى تواري التديّن، ولكن إلى تعدّد الانتماءات.

مع ما ذكرناه آنفا حول وقائع الإفلاس والإغلاق لبعض الكنائس في الغرب، وكذلك ما أوردناه بشأن أشكال التراجع في أعداد المعنيين بأداء الطقوس، والتبدل في خصائص التديّن، فإنّ صورة الله لا تزال حاضرة بقوة في نفسية الإنسان الغربي. يلوح هذا جليّا في الثقافة الشائعة عبر الشبكة العنكبوتية. فخلال العام 2001 اِستخدمَ 30 مليون أمريكي الشبكةَ لغرض البحث عن إجابة على صلة بقضايا الدين والروحانيات، بما يَفوق بكثير الاِستعمال لغرض اللّهو أو الاقتناء. وخلال العام 2004 بلغت صفحات الويب باللغة الإنجليزية، المخصَّصة للمواضيع الدينية 135 مليون صفحة، بما يفوق صفحات الجنس التي بلغت 105 ملايين صفحة. وخلال العام 2007 كانت كلمة الألوهية الأكثر بحثًا عبر الشبكة. وخلال العام 2010 بلغ عدد المبحِرين في المواقع الدينية المليار ونصف المليار نسمة. وبشكل عامّ يتلخّص واقع الدين في الغرب كما يقول عالم الاجتماع أندراو غريلاي: "رغم أنّ الدين دائما في حالة تنازل فهو دائما أيضا في حالة انبعاث".

نشير إلى أنّ كتاب "الدين والعَلْمَنة في المجتمعات الغربية" هو من تأليف اليسوعي جوفاني كوتشي، وهو أستاذ جامعي متخصّص في الفلسفة وعلم النفس، يدرّس في الجامعة الغريغورية في روما، أعرق جامعات اللاهوت الكاثوليكي في الغرب. نَشَر الكاتب مجموعة من الأعمال منها: "في تجاوز ريكور لفرويد" و"أسرار الشرّ"، وهو من ضمن الهيئة القارة للكتابة في مجلّة "لاشيفيلتا كاتوليكا" المرموقة.

--------------------

الكتاب: "الدين والعَلْمَنة في المجتمعات الغربية".

المؤلف: جوفاني كوتشي.

الناشر: شيتاديلا إديتريشي (أسّيزي-إيطاليا)، 2019م.

عدد الصفحات: 258 صفحة.

 

 

 

أخبار ذات صلة