سلطنة عمان: أساطير وحكايات وحقائق تاريخية

Picture1.png

إيغور سينتشينكو

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

يقول الرحالة والمستعرب البريطاني الشهير سير ويلفريد ثيسيجرإن أسوأ ما في الوحدة هو أن تكون وحيدًا وسط الحشود، وبأنه شعر بالوحدة في المدرسة وهو طفل وفي المدن الأوروبية التي زارها فيما بعد، ولكنه لم يشعر بها في أي مكان بين العرب، وفي شبه الجزيرة العربية لم يكن وحيدا مطلقا.

صدر في ربيع هذا العام الكتاب الأخير من سلسلة الأعمال التي عكف على تأليفها المؤرخ والمستشرق الروسي إيغور سينتشنكو حول دول الخليج العربية من بينها: "الجزيرة العربية: التقاليد والأخلاق"، "الخليج العربي: نظرة عبر القرون"، "الإمارات العربية المتحدة: وجهاً لوجه مع عجائب الدنيا الجديدة"، "شبه الجزيرة العربية: الماضي والحاضر"، "شبه الجزيرة العربية: مهد العرب"، "عرب الجزيرة العربية. مقالات عن التاريخ، الإثنوغرافيا والثقافة"، "شبه الجزيرة العربية: لوحات للتاريخ"، "الكويت: فسيفساء من القرون"، "الإمبراطورية الروسية، الجزيرة العربية والخليج العربي: مجموعة من القصص""اليمن: أرض الممالك الأسطورية وشعوب العالم القديم"،"مملكة البحرين: وجوه التاريخ" .وها هو آخر العقد يصدر تحت عنوان:"سلطنة عمان: أساطير وحكايات وحقائق تاريخية"... فإن كانت مرتبته الأخيرة من حيث التسلسل (حتى الآن) إلا أننا لا نظن أنه الأخير من حيثالأهمية والجودة  والتشويق.

كُرست معظم صفحات الكتاب لتاريخ العلاقات الدبلوماسية بين عمان وإنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا حيث خصص لها أربعة فصول متوالية.

 

وفي تناوله للعلاقات التي ربطت روسيا وعُمان من جانب، وبريطانيا وأمريكا وفرنسا من جانب آخر، نجد أن المؤلف يتجنب اجترار المعلومات الشائعة والمتداولة في المصادر الغربية، فيسعى إلى إظهار وجهة النظر الروسية لمراحل وأحداث تاريخية مختلفة. ولهذا الغرض يكشف المؤلف ملاحظات أرشيفية للموظفين الدبلوماسيين لدى الإمبراطورية الروسية، ويسوقمقاطع من مذكراتهم الخاصة، وينفتح على تقييماتهم وانطباعاتهم الشخصية. أما محور البحث فيرتكزعلى فترة أواخر القرن التاسع عشر - أوائل القرن العشرين حيث يجد القارئ ما يشبع فضوله من تفاصيل، في حين كان نصيب النصف الثاني من القرن العشرين، معلومات متفرقة ومقتطفات موجزة.

يعتمد المؤلف في وصفه وتقييمه لجانب من مادة كتابه على الأوراق التي تركها القنصل العام للإمبراطورية الروسية في بغداد أليكسي فيدوروفيتش كروغلوف (1864-1948)الذي قدم معلومات موسعة ومواد مرجعية حول مسقط في وقته، فيشير إلى أن الاهتمام المتزايد للسلطات البريطانية بمسقط كان مشترطا بالمصالح طويلة الأجل للإمبراطورية في تلك المنطقة من العالم. وكان هدف إنجلترا، كما يؤكد القنصل الروسي،استغلال المناطق الشاسعة في الساحل العربي الخاضعة لعمان وذلك لفرض هيمنة الإمبراطورية البريطانية على كامل الممرات البحرية في الخليج العربي، وكذلك للتغلغل في أراضي الجزيرة العربية الساحلية، ومن هناك إلى وسط شبه الجزيرة العربية. فسمى كروغلوف هذه الفترة من نشاط الإمبراطورية البريطانية بأنها سعي بريطاني سلمي تجاه مسقط، فقد كانت إنجلترا مدركة لأهدافها وغاياتها في تلك المنطقة، ورأت أن الوسائل السياسية والدبلوماسية تجاه عمان هي الأوفر حظا لتحقيق سياستها. وفي رأيه فقد حدثت تغييرات ملحوظة في أنشطة إنجلترا في الجزيرة العربية الساحلية عام1895 وذلك مع بدء مرحلة سياسة القوة الصريحةوالهادفة إلى إطاحة تركيا وإبعادها عنشبه الجزيرة. ويرى قنصل الإمبراطورية الروسية في بغداد أن تصرفات البريطانيين مع ظهور قطع من الأسطول الروسي، ومراكب التجار الروس في المياه العربية، قد شابها نوع من الانفلات العصبي خشية المنافسة.

 

   وفي سياق مختلف يخلص الباحث إيغور سينتشينكوإلى أن تطور التعاون بين روسيا وفرنسا على نطاق الخليج العربي ينطلق من رؤية باريس في أن: "روسيا مؤيدة للأفكار الفرنسية وسياستها لمنع بريطانيا للانفراد بالخليج العربي (...(وقد كانت روسيا مهتمة بفرنسا (...) وأصبح التجار الروس الذين بدأوا العمل في أسواق الخليج العربي مفوضين لتمثيل مصالح التجار الفرنسيين الذين وصلوا إلى المنطقة قبل الروسبكثير. ووفقًا للدبلوماسيين الروس، فقد دافع الفرنسيون عن مصالح التجارة الروسية هناك (...(ومع ذلك، فإن تفاهمات سانت بطرسبرغ (عاصمة روسيا القيصرية) وباريس للعمل في الخليج العربي كثنائي مضاد للطموحات الإنجليزية لم تجد لها صدى في أرض الواقع" ( :ص504). ولكن وبشكل عام فإن: "نجاحات الفرنسيين في تطوير العلاقات مع سلطنة عمان، بحسب الدبلوماسيين الروس، لم تتجاوز بكثير نجاحات الروس، وذلك على عكس أنشطة باريس في بلاد فارس التي كانت واعدة للغاية (:ص482).

 

إن الفصل الأكثر ديناميكية في الكتاب يتعلق بالفصل المكرس للعلاقات العمانية الأمريكية، وقد أضفى وصول السفينة سلطانة إلى الساحل الأمريكي عام 1840، وما ساقه المؤلف من تفاصيل دقيقة لتلك الرحلة التاريخية، والاحتفاء الذي استقبل به رجال الأعمال الأمريكيين السفينة، وموقفهم الودي تجاه عمان البعيدة، كل هذا أضفى على فصل الكتاب جوا من الظرف والتشويق.

ولا يقل عن ذلك كياسة، الفصل المُكرس لمذكرات معاصري تلك الفترة حينما شرعت روسيا في اتخاذ الخطوات الأولى لإقامة علاقات دبلوماسية مع عمان (والتي كللت بالنجاح كما هو معروف في منتصف الثمانيات من القرن الماضي فقط، وذلك بمشاركة الدبلوماسي والمستشرق الروسي المعروف يفجيني بريماكوف).

 

يعترف الباحث الروسي،ولأسباب موضوعية عديدة، بعجز روسيا عن تزويد عُمان بنفس شروط التعاون التي ربطت السلطنة بإنجلترا، وبالتالي فقد ضيّق ذلك وقصّر من التواجد الروسي في الخليج. في هذا السياق نجد الإشارات التي أوردها المؤلف وتعود إلى مواد إرشيفية أعدها القنصل العام الروسي في بندر بوشهر، نيكولاي باسيك عام 1905 حيث كتب يقول: كانت تزور مسقط أكثر من 140 سفينة أجنبية كل عام. الغالبية العظمى منها تحمل العلم الإنجليزي و8 فقط تحمل العلم الروسي (ص: 431).

ويستعرض لنا المؤلف الموقف الروسي حيال النزاع والصراع الأنجلو – فرنسي في شبه الجزيرة العربية، موضحا أن الدبلوماسية الروسية كانت تراقب عن كثب تصرفات البريطانيين في المنطقة، وتوجه إدانتها لها، ولكن من غير أن تتخلى عن موقفها المحايد، كما تغلبت بمهارة على الفِخاخ التي وضعتها العبقرية الدبلوماسية الألمانية، وسعيها للإيقاع بين روسيا وفرنسا من جانب، ودفع روسيا للتصادم مع إنجلترا من جانب آخر.

ومن المعلومات الظريفة التي نثرها المؤلف في كتابه، نعثر على قصة أحد الأطباء الروس الذين عملوا في خدمة السلطان العماني في زنجبار. يقول سينتشينكو: "في ثمانينيات القرن التاسع عشر عمل المواطن الروسي ميخائيل غريغوري طبيبا في زنجبار وذلك في عهد سلطان زنجبار.ومن وثائق أرشيف الوزارة الخارجية للإمبراطورية الروسية نتابع أنه ولد في كيشينوف المالدوفية، ونشأ على نفقة الحكومة في جنوب روسيا، ثم درس في مؤسسة تعليمية عسكرية للطب الجراحي في سانت بطرسبرغ العاصمة، ثم شارك في حملات للجيش الروسي في تركستان وفي الحرب ضد تركيا (...)بعد دخول قواتنا مدينة فارنا البلغارية، هجر مختبئًا من الشرطة الذين كانوا يبحثون عنه لانتمائه إلى الدوائر السياسية المعارضة(...)هرب إلى القاهرة  ومن هناك - عبر الحجاز ثمإلى زنجبار"(ص: 533)

 

وهكذا، وبما أن عمان تاريخا قوة بحرية عظيمة، فمن الطبيعي أن تكتظ صفحات الكتاب بالبحر. يصف المؤلف الصعوبات التي واجهها الدبلوماسيون الروس لدى حكومة بلادهم لفتح الخط البحري الأول بين روسيا وعمان، وخط الركاب والتجار الذي يصل ميناء أوديسا في البحر الأسود بموانئ الخليج العربي، والذي أصبح فيما بعد أداة مهمة بيد الإمبراطورية الروسية لتنفيذ خططها التجارية في دول المنطقة. كما يصف المؤلف محاولات الأطقم البحرية الروسية إثارة إعجاب الحكومة العمانية بالأسطول الروسي. ويورد الكاتب أن الخطوط التجارية الروسية لم تقتصر على التجار الروس وحدهم، فها هي برقية القنصل الروسي نيكولاي باسيك من بوشهر في 22 يناير1905 يخطر فيها سلطات بلاده بالآتي: "إن سلطان مسقط راغبٌ في إرسال ستة من الإبل مع سواقها إلى مكة المكرمة كهدية،وقد أرسل إلى قبطان السفينة الروسية "تروفور"، التي كانت ترسو في البصرة،يخبره بأن يعرّج على مسقط في رحلة العودة ويأخذ الجمال معه ويسلمها في جدة".

وبحفاوة بالغة ووصف دقيق يحدثنا المؤلف عن وصول السفن الروسية إلى ميناء مسقط كسفينة "جيلاك" التي رست عام 1900 ، وسفينة "فارياج" عام 1901 والتي اعتبرت درة الأسطول التجاري الروسي آنذاك ومفخره التكنلوجيا الروسية لصناعة السفن حيث زودت بخمسة مضخات للوقود، وسفينة "آسكولد" عام 1902وسفينة "بويارين" عم1903. كما رسم الكاتب تفاصيل تلك الزيارات ووصف الانطباعات التي أثارهاالحاكم العمانيلدى ممثلي روسيا، والمعاملة الرفيعة التي وجدوها في قصر السلطان حيث تمت استضافتهم، ونوع الاستقبال الذي أجاب به الروسدعوة السلطان على ظهر سفينتهم، والهدايا التي تبادلها الطرفان، كما أورد قائمة بالبضائع التي تم التباحث فيها للاستيراد والتصدير بين الجانبين.

 ولا يقل أهمية للقارئ الروسي الجزء الذي يسردفيه الباحث تاريخ عمان من العصور القديمة حتى يومنا الراهن. وتكمن أهمية هذه المادة في أنها تعرض التاريخ العماني باللغة الروسية بتنظيم منهجي وتسلسل تاريخي للمرة الأولى، ناهيك عن ضخامة المادة حيث بلغت صفحات الكتاب أكثر من 750 صفحة، مما يمنح شمولا بحثياومتانة علمية كبيرة.

وفي جولة سريعة على أقسام الكتاب نذكر الجزء التاريخي المقسّم إلى عدة فصول: يوميات الذاكرة (عمان في أعمال الباحثين البارزين في شبه الجزيرة العربية،والمؤرخين المشهورين، والجغرافيين وجامعي الآثار العربية، وفي مذكرات البحارة والمسافرين، وفي تقارير وملاحظات الدبلوماسيين)؛ صفحات من حوليات الأزمنة (الآثار العمانية)؛ دخول عمان الإسلام. أعماق الماضي (عمان عشية  دخولها الإسلام وحياة البلاد في زمن الخلفاء الراشدين)؛ الخلافة الأموية وعلاقتها بعمان (661-750)؛ عمان في زمن الخلافة العباسية (750-1258) (شخصيات وحقائق)؛ عهد النباهنة في عمان (1154-1624) (خط الحياة)؛ عمان في عهد اليعاربة (1624-1749) (المسار في التاريخ)؛ عُمان والبوسعيد.

 ولن يفوت أي باحث روسي يخوض في الكتابة عن عمان ذكر الرحلة التاريخية التي قام بها الرحالة الروسي الشهير أفاناسي نيكيتين  إلى هرمز ومسقط بين أعوام 1468 -1475 حين لم يكن ثمة علاقات بين روسيا وعمان؛ ففي كتابه الموسوم "عبور البحور الثلاثة" وهو مذكرات وضعها الرحالة عند وصوله بلاده عام 1475 يقول: "إن هرمز ملاذ بحري رائع ، يفدها الناس من كل مكان، وهنا تجد بضائع من كل بقاع العالم".

الجزء الأخير من الكتاب حمل عنوان "عرب عمان" ويتطرق فيه الكاتب إلي حياة العمانيين وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم. إن معرفة المؤلف لهذا الجانب مذهلة بسعة نطاقها، فنجده مطلعا على طقوس تضحيات الصيادين والبحارة، والملابس التقليدية لسكان مسندم الذين يرتدون الجراز بدل الخنجر، ومعايير الحياة في الصحراء،إلى جانب معرفته الواسعة بالخارطة القبلية العمانية وتشعباتها. أخيرا فإن اللازمة التي ظل إيغور سينتشينكو يرددها مرارًا وتكرارًا هي أن السمات الرئيسية للعمانيين تكمن في تضامنهم وحسن ضيافتهم وكرمهم وشجاعتهم والتزامهم بالعهود.

-------------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: سلطنة عمان، أساطير وحكايات ووقائع تاريخية.

المؤلف: إيغور سينتشينكو.

دار النشر: آليتيا/ سانت بطرسبورغ/ 2020.

مكان الإصدار: سانت بطرسبرج

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 758

   *أكاديمية ومستعربة روسية

 

 

 

 

أخبار ذات صلة