شيه رونغ بين
حسام المغربي *
توقع العالم السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في أطروحة بعنوان «نهاية التاريخ» عام 1989، حتمية سيادة مفهوم الديمقراطية الليبرالية الغربية؛ باعتبارها الشكل النهائي لحكومات العالم. ولاقت وجهة نظره هذه صدى واسعا بعد انضمام عدد من البلدان إلى صفوف الديمقراطيات الغربية. إلا أنَّ الصين صمدت أمام هذه الموجة الغربية ونجحت في الحفاظ على نظام حكمها الخاص (الاشتراكية ذات الخصائص الصينية).
ومع الصعود الكبير في الاقتصاد الصيني خلال العقود الأربعة الأخيرة، خرجت عشرات الدراسات المبشرة بحتمية الصدام المستقبلي بين الصين والولايات المتحدة، كان أشهرها "فخ ثيوسيديدز" التي وصفت تاريخيا حالة تهديد أثينا من قبل قوة صاعدة (الصين حاليا) بإزاحة أسبرطة، وهي القوة المهيمنة (الولايات المتحدة حاليا) على الساحة الدولية. هذه النظرية التي أعادها البروفيسور غراهام آليسون من جامعة هارفارد إلى الأذهان، جاءت لتحذير العالم من ضرورة الاستعداد لصدام لا يمكن تجنبه بين الولايات المتحدة والصين.
ويرى المتابع أنَّ إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي بداية عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب أشارت صراحة إلى أن الصين تسعى لتحدي قوة واشنطن ونفوذها ومصالحها، في محاولة للإضرار بأمن ورخاء الشعب الأمريكي. كما اعتبرت استراتيجية الدفاع الوطني الصادرة من وزارة الدفاع الأمريكية منتصف عام 2018 بوضوح الصين "منافس استراتيجي يسعى لتحديث قواته المسلحة لضمان سيطرته الإقليمية على المحيط الهادي وجنوب آسيا، ومقارعة نفوذ الولايات المتحدة العالمي".
وعلى الدوام، تؤكد الصين محورية "الصعود السلمي"؛ باعتباره النهج خلال مسيرة إدارتها لعملية الصعود اعتمادا على تطوير الذات (السوق المحلية والقوى العاملة واحتياطي رأس المال)، والمساهمة في الحفاظ على الأمن والسلم العالمييْن، والتمسك بسياسة الانفتاح وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع جميع الدول الصديقة على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة.
ويقدم كتاب "الصين مختلفة بالتأكيد مختارات من تقارير جلوبال تايمز" لمؤلفه شيه رونغبين نائب رئيس تحرير صحيفة جلوبال تايمز الصينية، محاولة جريئة لفهم مكانة الصين في العصر الجديد على الساحة الدولية من خلال عرض مجموعة مختارة من المقالات تقع في ثلاث فئات وهي "تقارير غلوبال تايمز" و"استطلاع آراء صحفيين" و"مقابلات مع كوكبة من الخبراء"، تسلط جميعها الضوء على نظرة صناع القرار والخبراء في الغرب بشكل خاص والعالم بشكل عام للتغيرات التي طرأت على الصين خلال العقود الأخيرة تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وفهمهم لتأثير الصين على الصعيد العالمي، والخطوات التي اتخذتها وتلك التي تخطط لها من أجل تحقيق إنجازات كبرى تحقّق هدف تعزيز وتحديث نظام الحكم في البلاد. هذا إلى جانب عرض الحلول الصينية للمشاكل العالمية ومدى نجاعة تطبيقها.
وينقسمُ الكتاب إلى أربعة فصول؛ هي: "التغيير الشامل" و"جولة حول العالم لإدراك تأثير الصين" و"آراء مبعوثين أجانب حول تجربة الصين"، وأخيرا "العلاقات الصينية الأمريكية".
ويعرف شيه رونغ بين (مولود في عام 1975) مؤلف الكتاب والحاصل على درجة الماجستير في القانون الدولي والدبلوماسية من جامعة الشعب العريقة في الصين، بكتاباته الجريئة التي يطرح من خلالها وجهة نظر تجمع بين الشأن الصيني الداخلي وعلاقة بكين بالعالم الخارجي. وكان شيه قد انضم لأسرة عمل صحيفة الشعب اليومية في عام 1998، وعمل مراسلا لها في يوغوسلافيا بين الفترة من أكتوبر 1999 إلى أغسطس 2002، بعد القصف الذي تعرضت له السفارة الصينية لدى بلغراد. وبعد عودته إلى الصين التحق بالعمل في صحيفة غلوبال تايمز، ليشغل منصب نائب رئيس تحريرها في عام 2010.
وكصحفي عمل لأكثر من 20 عاما، امتلك تشه دراية واسعة بالشؤون الدولية مع تغطياته الواسعة خارج البلاد والمقابلات التي أجراها مع المسؤولين الأجانب والدبلوماسيين لدى الصين. وكتب العديد من البحوث حول قضايا شملت "المنظور الصيني في وضع دولي معقد" و"الحزام والطريق" و"تطوير الشركات الصينية" و"الطريق الجديد لوسائل الإعلام التقليدية". وخلال العامين الماضيين، نشر كتاب "أساءنا الحكم على الصين" وكتاب "متفائلون بشأن الصين".
نظرة يابانية للإصلاح والانفتاح الصيني
وفي الفصل الأول من كتابه، يستعرض شيه آراء شهود عيان حول التطور المذهل الذي حققته الصين خلال مسيرتها بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، ومن بين هؤلاء تاتسويا هيراراي، الرئيس فوق العادة لإدارة تكنولوجيا المعلومات في الحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني، الذي زار مدينة شنتشن التابعة لمقاطعة قوانغدونغ جنوب الصين في أغسطس 2018. وكانت قد أبهرته بيئة الابتكار وحداثة البنايات والطرق والتطوّر التقني الذي تعيشه المدينة.
وبعد أكثر من عام، عبّر السياسي الياباني يوتشي تاكاو خلال أحد الاجتماعات قائلا: "شاهدت خلال زيارتي لمدينة شنتشن تقنيات الدفع عبر الهاتف المحمول وخدمة الدراجات التشاركية وقطارات السكك الحديدية فائقة السرعة والطائرات المسيّرة". وأوضح أنه شعر على نحو عميق بـ"الصين الحديثة" في هذه المدينة، كما تبدّلت وجهة نظره تجاه الصين تماما، فقد جعلته الرحلة إلى هذه المدينة الجنوبية يشعر بأن الوقت قد حان للتفكير بجدية في كيفية التعامل مع الصين. ووصف شنتين بأنها "مدينة تغلي من السرعة" وتعد رمزا للابتكار والتطور على المسرح العالمي.
وفي يناير 2018، قال دايجيرو ياماجي نائب وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني السابق رئيس هيئة إستراتيجية الذكاء الاصطناعي التابعة للحزب الديمقراطي الليبرالي في خطاب له بالعاصمة طوكيو "إن الوقت قد حان للاندماج الكامل مع الصين". معتبرا أن مدينة شنتشن أصبحت قاعدة للابتكار في العالم بالقدر الذي قد يتفوق على وادي السيليكون الأمريكي، وعلى اليابان التوقف عن التفكير في منافسة الصين، وتركيز جهودها حول كيفية الاتحاد معها.
الحكمة الصينية خلف حبة أرز
في الفصل الثاني تناول الكاتب مفهوم "التأثير العالمي للصين" من خلال عرض أمثلة للحلول الصينية لبعض المشكلات التي عانت وما زالت منها دول مختلفة حول العالم. ويضرب الكاتب مثالا للتعاون الصيني الإماراتي في مجال الزراعة، حيث نجح الخبراء الصينيون في زراعة الأرز في صحراء الإمارات؛ الأمر الذي حاز على ثناء وسائل الإعلام العالمية، والتي اعتبرته مساهمة فريدة للصين في ضمان الأمن الغذائي العالمي من خلال رفع قدرة المناطق الصحراوية على إنتاج الحبوب.
وكانت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية قد تناولت قضية الأمن الغذائي والدور الصيني العالمي، حيث أشارت في تقريرها إلى أنه في الصحراء القاحلة خارج إمارة دبي، بحث العلماء الصينيون كيفية زراعة حقول الأرز المقاومة للجفاف باستخدام مياه البحر بعد تحليتها.
وعلّقت وكالة الأنباء الغانية أن زراعة الأرز في الصحراء كانت على الدوام "تحديا صعبا"، فعوامل المناخ من طقس متطرف، ونقص في إمدادات المياه العذبة، ومشاكل التربة التي تقيّد تطوير هذه التكنولوجيا، لكن فريق العلماء الصيني استطاع تحقيق ذلك والتوصل إلى الحل المناسب.
تطوّر المملكة الوسطى ومحو الفقر
وعبّر خوسيه لويس برنال سفير المكسيك لدى الصين، عن رؤيته حول سياسات الإصلاح والانفتاح التي انتهجتها الصين قائلا: "إن عملية التنمية في الصين جزء من قصة نجاح أكبر شهدت خلالها منطقة شمال شرق آسيا تطورا سريعا على مدى السنوات الأربعين الماضية، ففي البداية كانت كوريا الجنوبية والآن الصين، وقد تعلم قادة أمريكا اللاتينية ورجال أعمالها الكثير من قصة صعود الصين".
ويرى برنال أنه منذ أواخر السبعينيات، حققت الصين نتائج رائعة من خلال سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ، ويمكن إثبات ذلك من الأرقام المتعلقة بمعدل النمو الاقتصادي في الصين وناتجها المحلي الإجمالي المثير للإعجاب، إضافة إلى انتشال نحو 800 مليون شخص من براثن الفقر، هو أمر غير مسبوق في العالم.
وخلال مقابلة حصرية مع غلوبال تايمز قال سفير بابوا غينيا الجديدة لدى الصين كريستوفر ميرلوت "الأخبار الإيجابية القادمة من منطقة المحيط الهادئ ترجع في المقام الأول إلى دور الصين الرائد في المنطقة". وأوضح أنه منذ اقتراح مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، بدأ وضع الصين كقائد عالمي يتشكل ببطء؛ إذ إن نفوذ هذا البلد الآسيوي لا يتعزّز في منطقة جنوب المحيط الهادئ فحسب، ولكن الشيء نفسه يحدث في إفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا ومناطق أخرى حول العالم. وباعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فقد تحولت مكانة الصين كقائد عالمي من النظرية إلى الواقع.
وحول تقييم حضور الصين في بابوا غينيا الجديدة ودول جزر المحيط الهادئ، والذي وصفته وسائل إعلام غربية بـ"الغزو الناعم"، أشار ميرلوت إلى أنه بعد الزيارة التاريخية التي أجراها الرئيس شي جين بينغ للدولة الواقعة جنوب المحيط الهادئ لأول مرة في عام 2014، وإعلانه عن سياسة جديدة تجاه المنطقة، زادت المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الصين بصورة ملحوظة، خاصة في مجال البنية التحتية.
وفي الوقت الراهن، هناك ما يقرب من 3,500 شركة صينية تعمل في بابوا غينيا الجديدة، بين شركات صغيرة ومتناهية الصغر وأخرى كبيرة متعددة الجنسيات. ومن بين تلك الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، نفذت 21 منها العديد من المشاريع الكبرى من بناء طرق ومد سكك حديدية على مدى السنوات الأخيرة. ويرى ميرلوت أن مساعدة الصين لبلاده شيء جيد للغاية، وهو أكثر ما تحتاج إليه.
وفي إطار "منتدى التعاون الاقتصادي والتنمية بين الصين ودول المحيط الهادئ"، قدم بنك التصدير والاستيراد الصيني وبنك التنمية الصيني ما مجموعه 2 مليار دولار أمريكي في صورة قروض ميسّرة إلى دول جزر المحيط الهادئ الجنوبية لدعم مشاريع البنية التحتية الأساسية. وباعتبارها أكبر دولة من حيث عدد السكان والأكبر بين جزر جنوب المحيط الهادئ، أمكن لبابوا غينيا الجديدة الاستفادة منها كثيرا وتحسين مستويات معيشة شعبها. وذلك في وقت تتجه فيه حليفة البلاد التقليدية "الولايات المتحدة" إلى العزلة والحمائية، ما جعل دول جنوب المحيط الهادئ قلقة للغاية، وبالتالي فإنها تتقرب أكثر من أي وقت مضى إلى الصين.
ومن ضمن المسائل التي تدفع لشعور تدلك الدول بالقلق، فإن بابوا غينيا الجديدة كدولة جزرية، معرّضة لارتفاع مستوى سطح البحر وتغير المناخ، لكن الولايات المتحدة أعلنت انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ. وفي المقابل، كانت الفلسفة الاقتصادية الزرقاء للصين هي بالضبط نفس مفهوم هذه الدولة لتنمية المحيطات، لذلك أصبحت على استعداد للحفاظ على تعاون أوثق مع الصين.
واشنطن وقبول فكرة صعود الصين
قال العالم الأمريكي الشهير روبرت كوهان إن آليات التعاون الدولية المتعددة الأطراف تعرضت لضغط هائل بسبب تعديل السياسة الأمريكية، معتبرا أن الخيارات السياسية لإدارة ترامب لم تدرك حقيقة أنه على الرغم من اضطراب السياسة الدولية وتفاوت المصالح وحاجة كل دولة للعمل على أساس فهمها الخاص لمصالحها الوطنية، إلا أنه لا تزال الفرص المتاحة أمام الدول للتعاون واسعة النطاق، فالسياسة ليست معادلة صفرية.
وكان هربرت ريموند ماكماستر مساعد شؤون الأمن القومي للرئيس ترامب، وغاري كون مدير المجلس الاقتصادي القومي بالبيت الأبيض، من المسؤولين المحنكين في الحكومة الأمريكية الحالية قد قالا إن هذا العالم "قائم على التنافس، تتصارع فيه أطراف مختلفة على الفوز في مجالات متعددة مثل الاقتصاد والتجارة". إلا أن كوهان يرى أن هذا الرأي خاطئ، لأنه على الرغم من اختلاف القيم الواضح جدا في عالم اليوم، إلا أنه "إذا نظرنا إلى أية مشكلة من منظور المجتمع العالمي، فسوف نجد أن هناك العديد من الفرص للتعاون بين مختلف الأطراف"، وبالتالي فإن المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف ضرورية لمثل هذا التعاون الدولي، فهي تجعل التعاون أكثر سهولة، وتجعل الالتزامات بالسياسية أكثر مصداقية، كما يمكنها مراقبة تنفيذ تلك السياسات. ولسوء الحظ، لم تدرك الحكومة الأمريكية ذلك.
من جانبه، يرى غراهام أليسون صاحب نظرية "فخ ثيوسيديدز" أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليس "استثناء" في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، فبشكل عام يعتبر كل من الديمقراطيين والجمهوريين الصين خصما استراتيجيا. وبين الأوساط الأكاديمية الأمريكية ومراكز الفكر، خاصة أولئك الذين يدرسون حول الصين، يعتقد كثيرون أن الصين خدعتهم على اعتبار أن "الصين ستخضع للنظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة". لكن كما هو الحال الآن، فإن الصين تسعى لتحقق أهدافها الخاصة، بما يخالف جميع توقعات الولايات المتحدة.
وفي إحدى المناسبات قال رئيس الوزراء الراحل الأب الروحي لسنغافورة، لي كوان يو، إنه مع تزايد حجم الصين وقوتها، فإنها ستطلب من الجميع القبول بخصوصيتها، ولن تقبل بمجرد أن تصبح عضوا فخريا في "نادي الدول الغربية". فعلى الدوام اعتقد الأمريكيون أن الصين ستتبع نفس نسق اليابان وألمانيا، ومن ثم ستتجه الطبقة الوسطى فيها للمطالبة بحقوق سياسية، وبعد ذلك ستصبح الصين "ديمقراطية على الطريقة الغربية" لتحجز مكانها في النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
وأوضح أليسون أن الصين ستصبح حتما أكبر وأقوى ما لم تنحرف عن مسار التنمية، وبالطبع فإن الولايات المتحدة لن ترضى بهذا الوضع، لأن واشنطن معتادة على دور "القائد". لذلك، سيكون من المؤلم للغاية بالنسبة للولايات المتحدة القبول بفكرة "صعود الصين". لكن الأمريكيين براغماتيون على كل حال، وبالنسبة للصينيين فإنه ليس من الصعب عليهم "الصبر".
وخلاصة القول فإن الصينيين والأمريكيين يحتاجون إلى عمل شاق للتكيف مع الواقع، والتفكير بعمق في كيفية تجنب "فخ الصدام".
---------------------
الكتاب: "الصين مختلفة بالتأكيد ـ مختارات من تقارير جلوبال تايمز".
المؤلف: شيه رونغ بين.
الناشر: دار نشر الشعب (رينمين)، بالصينية.
* كاتب وباحث مصري