مستقبل الدين في تصور فلاسفة ما بعد الحداثة

أحلام المنذرية

إن تلاحق العصور والشخوص في أي عهد ليست مجرد أيام وتواريخ تمر، إنما ما يخلفه ذلك العهد من ثقافة وتفكير تنعكس آثارها على النواحي الدينية والدنيوية في تلك الحقبة، نتطرق في هذا المقال لأهم ما ذكره الكاتب محمد الشيخ في "الفلاسفة المعاصرون ودور الدين في زمن ما بعد الحداثة".

أوّلت النزعة ما بعد الحداثة فيما يخص صلتها بالدين ومنزلته فيها بتأويلين متضادين، أما التأويل المتعارض فهو ما ذكره الفيلسوف لوتار من أن نزعة ما بعد الحداثة تنم عن فقدان المرويات الكبرى لمصداقيتها، وهذا يعني أنَّ الأديان هي مرويات كبرى، بمعنى أن تكون ما بعد حداثي هو أن تكون رافضا للأديان، لكن سميث يرى أنَّ ما بعد الحداثة كانت رافضة لديانة واحدة لا للأديان كلها وهي ديانة الأنوار، فإن هذا يعني أن هناك تعارضا بين ما بعد الحداثة والديانة؛ بحيث يبدو أن ما بعد الحداثيين لا يمكنهم أن يؤمنوا بالمرويات الدينية، وأن المتدينين لا يمكنهم أن يشاركوا في حركة ما بعد الحداثة. ومن أنصار هذا التأويل الفلاسفة المسيحيون مثل ريتشارد وستانلي وغيرهم، ويرى فلاسفة مسيحيون آخرون أن نزعة ما بعد الحداثة إنما تشكل فرصة للأديان للانفلات من القبضة التي فرضتها عليها الحداثة، ومن أشهر أنصار هذا التأويل هو سميث والذي سوف نبسط موقفه في هذا المقال.

جان فرانسوا ليوتار: الوضع ما بعد الحداثة

 ويوضح الكاتب أنه من بين النصوص الفلسفية المؤسسة لتيار "ما بعد الحداثة" هو نص الفيلسوف ليوتار باسم"الوضع ما بعد الحداثة". كان هذا النص عبارة عن تقرير حول المجتمعات فائقة التطور، والتي كانت ما بعد الحداثة دخيلة على اللسان الفرنسي، ولكنها كانت رائجة في القارة الأمريكية وتعني" حال الثقافة بعد التحولات التي طرأت على قواعد لعبة العلم والفنون، بدءا من القرن التاسع عشر" والذي يراه ليوتار أن العلم الحديث قد دخل في صراع مع المرويات؛ أي أن العلم بعد الفحص تبين أنه مجرد خرافات. والحال أن المرويات الكبرى هذه التي كان يتم اللجوء إليها هي ما أضحت تبعث الشك في زمن ما بعد الحداثة، ولذلك ينبغي تعريف عهد ما بعد الحداثة على أنه عهد الارتياب في المرويات الكبرى.

ما وضع الدين في زمن الارتياب المرويات الكبرى- زمن ما بعد الحداثة؟

لقد كان وضعه مشكلاً؛ ففي عهد الحداثة عهد هيمنة الخطاب العلمي المسوغ بمرويات كبرى كان الدين بالنظر إلى أنَّ الغالب عليه ألا يسوغ نفسه بحجج يقع على الهامش.

الجدل حول فلاسفة الدين المعاصرين حول وضع الدين في زمن ما بعد الحداثة

يجمع الفيلسوف الديني سميث في شخصه بين كونه فيلسوفا وقساً، وقد اهتم كثيرا بطرح قضية البحث عن" المعنى" عند الباحثين عن "الروح"  على عهد ما بعد الحداثة، حيث يشير إلى أن مصطلح ما بعد الحداثة تيار داخل الكنيسة المعاصرة، إذ تشكل بالنسبة لبعضهم آفة للدين المسيحي وللدين، لكن البعض الآخر يعد نزعة ما بعد الحداثة روحًا منعشة، بل إنها طورت حركة الكنيسة. ويسعى سميث إلى نقد التصورات المسيحية الخاطئة عما بعد الحداثة، ويقترح أنه ينبغي على المسيحيين الترحيب بها؛ ذلك أنَّ هناك تأويلا "دينونيا" لعبارة دريدا "لا شيء غير النص، ولا شيء خارج النص" والتي تترجم إلى مبدأ الإصلاح الديني، وحدس دريدا يمكن أن يدفع إلى مركزية الكتاب المقدس في توسيط أفهامنا بوصفة" كلا"، ودور الجماعة في تأويل الكتاب المقدس، ولكن هناك ثمة جهة ثانية في التأويل لفكرة ليوتار حيث يعرف ما بعد الحداثة على أنها الارتياب اتجاه المرويات الكبرى، وهذا يدفع إلى الطابع المروي للإيمان المسيحي، والدور الاعترافي لمروية الدين.أما الجهة الثالثة فعبارة فوكو المتعلقة بسلطة المعرفة، وأن هذه السلطة تتحول إلى مرجعية. ويقر سميت بأنه لا أحد من هؤلاء الثلاثة كان فيلسوفا مسيحيا، بمعنى ضرورة عدم التجاوز عن نقاط الخلاف بينهم وبين فلاسفة الدينيين، لكنه يقر بأنه يمكن الاستناد إليهم من أجل بناء" كنيسة ما بعد الحداثة".

مرافقة دريدا إلى الكنيسة أو من أجل ديانة تفكيكية

لقد أوحى دريدا بأن العالم إنما هو نص، ينبغي أن يكون موضوع التأويل، ومن شأن هذا الحدس أن ينتج عنه أمران: إذا كانت إحدى الاستبصارات الأساسية لنزعة ما بعد الحداثة تتمثل في كون كل إنسان عندما يقبل على تجربة العالم فإنه لا يقبل فارغ الذهن وإنما يحمل جملة افتراضات مقررة، كما يحملنا هذا الأمر على التساؤل عما إذا كان النص التوراتي يحكم حقا نظرتنا إلى العالم.

ويضيف الكاتب أن دريدا لا يمكن لتأويل النص من غير قواعد تأويل جماعي، وتبعا للتصور الحداثي للديانة وللكنيسة ما يهم هو المسيحية بحسبانها نظيمة من الأفكار، وليس بوصفها جماعة حية؛ ذلك أن المسيحية الحديثة نزعت إلى عد الكنيسة مكانا؛ حيث يتوافد الأفراد لكي يجدوا أجوبة عن أسئلتهم. والقول بأن لا شيء خارج النص إنما يتضمن أنه لا فهم خاصا للنص خارج النفس الجماعي للديانة، والروح نفسها هي صاحبة النص، وهي منورة القراءة  الجماعية.

مرافقة ليوتار إلى الكنيسة

وقد سبق الإشارة إلى أنَّ ليوتار قد حدد ما بعد الحداثة على أنها" فقدان المرويات الكبرى مصداقيتها" والذي ثبت عند لوتار أن ثمة توترا بين العلم والمروية في مرويات ما بعد الحداثة؛ إذ تلجأ الحداثة إلى العلم لتسويغ ادعاءاتها، وهي تعني بالعلم في نهاية التحليل العقل الكوني المستقل، ومن هناك تتم المعارضة بين العلم والمروية التي لا تسعى إلى التدليل على دعواها بقدر ما ترنو إلى بسط ادعاءاتها في صورة مروية.

ويضيف الكاتب أنه قد يتسائل البعض بأنه يمكن للإيمان الديني شرعنته باللجوء إلى العقل، فيرى الكاتب أنه وجب التمييز بين المدافعين عن العقيدة بالحجج العقلية وبين المفترضين للإيمان بلاحجية، والأوائل يرون أن الدين قائم على الحجة، ومن ثم يشكل المروية على الطريقة الحديثة. لقد أثرى لوتار الإيمان بإسهامات حيث كشفت نزعة ما بعد الحداثة أن العلم نفسه قائم على عقائد لا تقبل التسويغ، وطالبته بالتصريح بعقيدته، فاضحة بذلك منطلق الأنوار الذي يدعي القيام على العقلانية الموضوعية. وأيضاً ما كان الدين جملة ادعاءات وحجج حول الرب بل للدين بعد تعبدي (قائم على المروية).

مصاحبة فوكو إلى الكنيسة

الذي يراه سميث أن على كنيسة ما بعد الحداثة أن تفيد من رؤى فوكو حول الدور التأديبي داخل الثقافة الغربية، فعلى المتدينين أن ينتبهوا كيف يلجأ مجتمع الرأسمالي المتأخر إلى التأديب عن طريق ثقافة معينة، وأن يكشفوا عن التعارض في الفهم الثقافي لمطلب الإنسان، وهو الفهم المهيمن وبين الفهم التوراتي لرسالة الإنسان في هذه الدنيا.

دور الدين ومستقبله في تصور فلاسفة ما بعد الحداثة

ويذكر الكاتب أنه يمكن أن نسجل الملاحظات التالية حول ذلك أن من سموا فلاسفة ما بعد الحداثة فوكو ولوتار ودريدا لم تكن لهم مقالة مستقلة في شأن الدين،كما تلقى فلاسفة الدين و اللاهوت الإعلان عما بعد الحداثة على ثلاثة مناح:نزعة مؤيدة، معارضة، معتدلة.

أخبار ذات صلة