القرآن الكريم وإصلاح الأمة

قيس الجهضمي

إن "الدين هو في الأساس ذلك النشاط الروحي المنظم للحياة المشتركة بحسب هدف أسمى هو الخير العام"، والتاريخ يذكر أنَّ الدين كان أداة للنهوض والتطور ومكافحة الظلم والفساد، لذا يتناول الكاتب عبد المالك أشهبون في مقاله المنشور بمجلة التفاهم "القرآن الكريم في الإصلاح الإنساني والاجتماعي" دور الإسلام في مجال الإصلاح والتوجيه الإنساني بما يوفر للنَّاس حياة سعيدة ومنظمة وخالية من الظلم والفساد.

والإسلام في معناه الاصطلاحي هو "الخضوع والانقياد لأمر الله والتسليم لقضائه وأحكامه والرضا بها"، وأوامر الله والانصياع لها تحمل في طياتها إرادة الإصلاح ومقاومة الظلم والفساد، والإصلاح اصطلاحا يدل على "تقويم ما إعوج، وترميم ما تداعى" وهذا الأمر قائم على الصيرورة الزمنية التاريخية، والكاتب يرى أن الإصلاح المطلوب الآن هو إصلاح الفساد على أسس ما وصلت إليه الإنسانية المتقدمة وهي التي تشمل كل مجالات الحياة خصوصا الدينية والسياسية.

فعلى الصعيد الإنساني جاء الإسلام لإصلاح الصفات السيئة بالإنسان واستبدال الصفات الحسنة بها، لذلك ثار في البداية على العادات والتقاليد والأعراف السيئة الموجودة عند العرب، منها التطير من المولود الأنثى، ووأد البنات لمّا ظنوا أنه حين يرزق الرجل بأنثى فكأن العار جُلب له، فهذه الأمور كلها حرمها الإسلام لأنها اعتداء على حق الأنثى بالحياة، وأصلح النظام بأن سوى بينها والرجل في الحقوق والواجبات، وشرع الطلاق في حال انعدام الانسجام بينهما، وجعل لها نصيبًا من الميراث بالعدل.

أما على الصعيد الاجتماعي فسعى الإسلام إلى حصول كل إنسان على كفايته من المأكل والملبس والمسكن، وألا يكون في الدولة أناس فقراء، وهو هنا لم يجز للغني الاستئثار واستحواذ المال كله دون أن يفكر بأفراد مجتمعه، كما أنه أوصى بالاهتمام باليتامى وتنمية أموالهم وتحريم أكلها بالباطل، وشدد الإسلام على ألا يتعاون المسلمون مع المفسدين والسفهاء في الأموال، لأنَّ الأموال هي من أساسيات قيام الدولة وقوتها، كما أنه نهى عن أكل الأموال بين الناس بالباطل، وأمر المسلم بالتوسط والاعتدال في الإنفاق، ويذكر الكاتب أن علماء أصول الدين قسموا المقاصد والغايات إلى ثلاثة: الضروريات وهي المصالح الضرورية لوجود الإنسان ماديا ومعنويا، والحاجيات وهي المصالح التي يحتاجها الإنسان لاستقامة حياته، والتحسينات التي يرتقي بها الإنسان نحو مزيد من السعة والفضل، وفي الصعيد السياسي قام الإسلام بتعديل نظام الحكم القائم على القبيلة وعاداتها وأعرافها والتي في بعضها جائرة وظالمة، إلى نظام التشاور بين الحاكم والمحكوم والاتحاد وعدم التنازع، والسعي لامتلاك القوة والتأهب للقتال في حال الطوارئ.

 منذ القرن الخامس الهجري بدأت الدولة الإسلامية بالتفكك، وضعفت الحركات العلمية واقتصرت على شرح المتون وتلخيصها وتراجع الإبداع والتجديد، ثم طمعت الدول الاستعمارية بهذه الدولة، "ولئن كانت دوافع المستعمر اقتصادية في الدرجة الأولى فإنها لم تكن تخلو من حوافز دينية تمثلت في البعثات التبشيرية"، وكان أصحاب الإصلاح في تلك الفترة جامدي الأفكار ولم ينطلقوا إلى اتجاهات منطق الحضارة الجديدة، إذ يرتكز الاتجاه الجديد على مبدأين: العقلانية والنظرة النقدية، وبهذه الرؤية الجديدة يقوم المصلح بالاجتهاد في مستوى النوازل المعاصرة وصناعة قراءة حقيقية للواقع، ويذكر الكاتب أن الانتكاسات في تحقيق مشروع النهضة هو ناتج من أحوال ومُمارسات المسلمين أنفسهم أما القرآن الكريم فهو السبيل الصحيح للإصلاح.

وينتقد الكاتب علماء المسلمين بأنهم هم من ضمن أسباب الانحطاط والتخلف في الدول الإسلامية، حين لم يسترشدوا بجوهر الدين ولم يتمكنوا من تحويل آيات القرآن إلى نشاط اجتماعي وسياسي وثقافي إنساني برؤية معاصرة، وأنّ علماء الإسلام حددوا شروطا ثلاثة لجعل الإسلام يتكامل دينا ودنيا عليهم التركيز عليها وهي: الأول معرفة معهود العرب لأنَّ القرآن جاء بلغتهم، الثاني: المعرفة بأسباب النزول، الثالث: المعرفة بمقاصد الشرع، ولكي يكون الدين صالحًا لكل زمان ومكان لابد من تجديده، وأن الدين تشوه عندما تحالف رجال الدين والسلطة لتحقيق مصالحهم الذاتيه أو الطائفية.

إنَّ استخدام أسلوب القصة في النص القرآني هو لتوضيح الأهداف السامية بين الناس، وليس على المسلم أن يضعها في إطار الأدب وإنما يسعى لاستخلاص الحكمة منها وأخذ العبرة، وهنا يتخذ الكاتب من سورة "القصص" نموذجاً للتوضيح أن فهم الموعظة القرآنية واستخلاص الحكم منها هو سبيل الإصلاح لهذا المجتمع، فهو يوضح أن كثيرا من القصص القرآنية كانت تمثل حالة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، ومنها سورة القصص التي تحوي على قصتين أساسيتين وهما قصة فرعون الطاغية بالسلطة وقصة قارون المتجبر بالمال، وكلاهما في الإثم سواء لإذلالهما الناس لتحقيق مصالحمهما الشخصية.

يرى الكاتب أن سورة القصص تترابط آياتها وتتعاضد لتشير للغايات والمقاصد العظيمة، فهي كلها ترتبط مع الآية 83 منها على وجه الخصوص لتقول خلاصة العِبر، حيث يقول تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يُريدون علوًا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين". ويقسم الكاتب تحليله لها إلى مبحثين مركزيين: الأول في عبارة الآية: ففي سورة القصص خاصة يأتي البيان القرآني بتعقيب قوي ومدو على آفة الاستكبار، سواء بالسلطة كفرعون أو بالمال كقارون، وهذه القصة تركز على أهمية التزكية والسمو بالأخلاق، وتقويم السلوك، ومن أهم مقاصدها تجنب العلو ممثلاً في ثيمة الاستبداد، وتجنب الأخذ بغير الحق ممثلاً في ثيمة الفساد، وبالتالي تشير لتجنب الاتصاف بصفة المتجبر أو الفاسد.

أما المبحث الثاني في إشارة الآية فتشير إلى النهاية المأساوية التي آلت إليها مصائر كل من فرعون وقارون، كما أنها تفتح الآية على آفاق تأويلية رحبة ودالة، إلى أنه ما من دولة سقطت أو حضارة احتضرت، إلا وكان أهم أسباب انحطاطها أو زوالها عاملين بارزين: الاستبداد والفساد، وهنا يذكر الكاتب أن سبب تأخر المسلمين هو ضعف استيعابهم هذه المعاني وتركهم الرجوع إلى القرآن وفهمه انطلاقا من جوهر الدين، كما هو حاصل الآن في أغلب الدول العربية الإسلامية فكل ما فيها نقيض لهذه المعاني، ويؤكد أن "الاستئناس بالاستبداد والفساد ومهادنتهما يؤديان إلى ترسيمهما وتأييدهما، لأنهما بمثابة الطاعون". وأرى أن الكاتب في محاولته جمع العلماء على فهم القرآن بطريقة عصرية تسعى لإصلاح الأنظمة الإنسانية داخل الدول الإسلامية هي بعين الاعتبار، لكن أيضاً وجب النظر لحقيقة العلاقة بين العلماء والساسة وإيمان كل واحدٍ منهم بفاعلية الآخر في طريق الإصلاح؛ إذ إن هناك دولا تأخذ بالاعتبار القول الديني داخل أنظمة الدولة بينما أخرى تتجاوز هذا الأمر، وأرى أنه على كلا الطرفين أن يسعى للانسجام بقراءة جامعة دينية-سياسية للوصول إلى مناطق الإصلاح وإزالة الظلم والفساد عن حياة الإنسان.

أخبار ذات صلة