أسماء بنت عبدالله القطيبي
في مقاله "المرجعيات السيميوطيقية والإبتسمولوجية والأيديولوجية لمفهوم الدولة الفاشلة"، يناقش الباحث مجدي الجزيري نشأة المصطلحات في الفكر السياسي من حيث بواعث هذه النشأة، وتطورها واستخداماتها، ويتساءل عمَّن له الحق في التصنيف؟ وما هي المعايير التي يمكن الاستناد إليها في ذلك؟ لاسيما وأنَّ غالب هذه المصطلحات تصنف الدول إلى دول عظمى وأخرى ضعيفة، وتسقط على هذين التصنيفين بقية المصطلحات والتعريفات. في هذا المقال، يتَّخذ الباحث مجدي الجزيري من مصطلح "الدولة الفاشلة" نموذجا للبحث، متناولا المصطلح من ثلاث جوانب؛ هي: الرمزية، وسلطة أنظمة المعرفة والإيدلوجيا.
نشأ مصطلح "الدولة الفاشلة" -كما يذكر الكاتب- في بداية الثمانينيات، واستُخدم لأول مرة في خطاب مندوبة أمريكا بالأمم المتحدة إبان حديثها عن الوضع في الصومال وضرورة تضافر الجهود الدولية في تقديم المساعدات لها ولأمثالها من الدول. ثم تعدد استخدامه في المجلات السياسية والمحافل الرسمية في العالم عامة وأمريكا خاصة. أما عن التعريف الدقيق لمصطلح الدولة الفاشلة، فقد ظهر تعريفان أساسيان له؛ فالأول عرفه بأنه الدولة التي لا تستطيع أن تلعب دورا ككيان مستقل، أما التعريف الثاني فقد حدده بأنه الدولة التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها. وكلا التعريفين يمكن أن يكون أيضا -برأيي- وصفا للدول النامية والفقيرة عدا أن هذا المصطلح يبدو أكثر فوقية، ويفترض أن هناك دولا تسببت لنفسها في الفشل بفعل عدم قدرتها على التقدم وإدارة أزماتها، ولعل كون دولة مثل أمريكا هي التي وضعت هذا المصطلح، فهي تشير ضمنيا إلى أنَّ هناك دولا ناجحة تتقدمها أمريكا وأخرى فاشلة بحاجة للأخرى حتى تستمر بغض النظر عن أسباب (فشل) هذه الدول الذي ربما يكون أمرا تسببت به دول متقدمة.
ويختص علم السيميوطيقيا أو علم الرموز بالبحث عن المشكلات العامة للإشارات والدلالات والمعاني، ويتصل اتصالا وثيقا باللغة؛ كونها أهم أدوات التعبير المستخدمة في الوصف والتعبير عن الماديات وغير الماديات. فاللغة انعكاس أو رمز لما هو عليه الحال في الواقع، وكونها كذلك فقد يحدث أن يتلاعب البعض في اللغة عن طريق اختلاق مصطلحات يتم استخدامها وتكرارها لتحقيق وعي معين. فمصطلح مثل "الدولة الفاشلة" هو مصطلح حديث صنعته السياسة الأمريكية واستخدمته في سياقات تبيان قوتها، وأحقيتها في التدخل في شؤون الغير، وتقديم نفسها بصورة المنقذ أمام العالم. وكما هو حال المصطلحات الحديثة فإنها تتسرب شيئا فشيئا حاملة معها التصور الذهني والأحكام المسبقة لتتجذر في وعي الناس دون إعادة النظر فيها. ويرى الباحث مجدي الجريزي أن مشكلة مصطلح "الدولة الفاشلة" ليس دلالاته المهينة فحسب ، بل مقدار التعميم الذي يأتي به فيقول: "طالما أننا حكمنا على الدولة بالفشل، فإن حكمنا هذا يسري على جميع العناصر، ومن ثم نحكم على الشعب بالفشل وهل هذا يعقل؟ ... وبطبيعة الحال يمكن الحكم على الحكومة بالفشل لكن هل الحكومة هي الدولة؟".
ويدرس الباحث الجريزي -في مقاله أيضا- سلطة أنظمة المعرفة في احتواء المصطلحات كمصطلح الدولة الفاشلة؛ سواء عن طريق الاستشراق أوالأنثربولوجيا. فالاستشراق رغم أنه تمييز معرفي وجودي بين الشرق والغرب، إلا أنه في كثير من الأدبيات يعزز فكرة التفوق الغربي والتخلف الشرقي، ويقر أحقية الدول العظمى في التدخل في تحديد مصير "الدول الفاشلة" تحت مسميات عدة كالتحرير والانتداب. أما علم الإنسان، فإن نشأته تزامنت مع الاستعمار في فترات كانت الدول المستعمرة ضعيفة ومسلوبة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، وكانت الدراسات الأنثربولوجية بتمويل كبير قد خدمت بطريقة أو بأخرى التوسعات الاستعمارية. ويشكك الكاتب في نوايا كثير من رواد هذا العلم؛ كونهم تبنوا مواقف عديدة لا تتسم بالإنصاف مثل مواقف كراهية تجاه الإسلام، وآراء أخرى تتعلق بالانتهاكات اللإنسانية في العالم. ويبدو لي أنَّ دراسة تأثير الأنثروبولوجيا في تكوين المصطلحات يجب أن يُنظر إليها كعلم لا كمواقف شخصية، كما أنَّ الأنثروبولوجيا خدمت بشكل كبير الثقافات حول العالم،وأنتجت دراسات مهمة وغنية حول المنطقة بعيدا عن الأهواء السياسية.
وتعدُّ المصطلحات التي يصف بها الغرب الدول الأخرى جزءا من ايدلوجية ظاهرها يحمل قيما نبيلة كالرحمة والإنسانية، بينما –وكما هو حال السياسة- تهدف إلى إيجاد غطاء للتدخل في شؤون الغير، وسلبه حرية تقرير المصير، والاستفادة من ثرواته مقابل الفتات الذي يتمثل بشكل مساعدات تغطي أضرارا تسبب الغرب فيها أصلا. فمصطلح "الدولة الفاشلة" مصطلح مُغْرٍ ومخدر، لأنه يضفي على أفعال غير مبررة مشروعية إنسانية عاطفية، ويؤكد على عدة أمور منها أن الغرب هو مركز القوة، وأن ثمة فرقا كبيرا بين الغرب المتفوق والشرق المتخلف، وتكاد نقاط الالتقاء الاقتصادي والثقافي والاجتماعي قليلة جدا، وأن أي تغيير إيجابي في أحوال "الدولة الفاشلة" ناتج عن سياسات وأفعال نبيلة قامت بها الدول المتفوقة لتنميتها وإعمارها. ويبدو للأسف أن هذه الأفكار الانهزامية تتبناها كثير من شعوب "الدول الفاشلة"، وتعززها حكوماتها ضعيفة الإرادة لتبرر إخفاقاتها وسوء إدارتها. وهذه الإيدلوجية هي الهدف الذي يسعى إليه واضعو المصطلحات كطريق قصير لتحقيق غايات طويلة المدى.
وفي نهاية مقاله، يطرح الباحث مجدي الجزيري سؤالا مهمًّا حول الكيفية التي ينبغي أن نتعامل بها مع المصطلحات المجحفة كمفهوم "الدولة الفاشلة". وهل سنحدث فرقا لو امتنعنا عن التعاطي بها ورفض التقارير والدوريات التي تتضمنها؟. لايبدو ذلك حلا جذريا برأي الجزيري -وإن كان يعد موقفا- كون المشكلة أكبر من اتخاذ موقف ضد مصطلح أو لغة؛ فالوعي هو السبيل الأمثل لفهم واقع دولنا ومكانها، والمتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم، والتركيز على الخطابات الثقافية داخل المجتمعات كونها تمنح الثقة وتجذر الوعي الجمعي. وهذا ما أتفق معه تماما؛ فالسلطة المعرفية دوما في يد الأقوى ولنا في عصور الازدهار الغابرة للدول الإسلامية العبرة.
